الإمام أبو الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله وإسهاماته في تطوير الأدب الإسلامي
يونيو 3, 2022التناص الديني في روايات غازي القصيبي
يوليو 11, 2022دراسات وأبحاث :
تطور الشعر العربي في العصر العثماني
الدكتور محمد شهاب الدين *
كانت الدولة العثمانية أولى دولة إسلامية في التاريخ امتدت فتوحاتها إلى ثلاث قارات ، وهي آسيا وأورباّ وإفريقيا ، فهذا الوجود الإسلامي في قلب أورباّ أجبر المؤرخين الغرب على التآمر ضد العثمانيين في أشكال مختلفة ، وكان هدفهم الرئيسي استفزاز الشعوب العربية ضد الدولة العثمانية وغرس المفاهيم الخاطئة في أذهانها تجاه الحكام العثمانيين وزرع الفتنة في العالم العربي وإقناع العرب بأن السلاطين العثمانيين أعداء للغة العربية وثقافة العرب ، ومن المؤسف أن بعض المؤرخين العرب قد اقتنعوا بهذه الإشاعات وأخفقوا في فهم المؤامرة وخطورتها .
والواقع أن آثار الشعراء العثمانيين لا تقل روعةً وبراعةً عن الأعمال الشعرية التي أنتجها الشعراء العرب في العصور المختلفة ، ولكن بسوء الحظ ، لم يعتن الباحثون العرب بشعر هذا العصر اعتناءاً ، فأصبح من الصعب للدارسين والباحثين دراسة النشاط الأدبي في العصر العثماني . يقول الأستاذ الدكتور عمر أبو موسى باشا :
” أهمل الباحثون المعاصرون دراسة الأدب العثماني ، وذلك لندرة المصادر المتعلقة به ، إذ أن معظمها ما زال مخطوطاً أو عسيراً وجوده ، أو بعيد المنال ، ولم يكلف هؤلاء الباحثون أنفسهم هذا العناء العلمي في البحث والتقصي ، والتوثيق والتحقيق ، ويضاف إلى ذلك جهلهم به ، فتراهم يقفزون من العصر العباسي إلى العصر الحديث متجاوزين أكثر من ستة قرون من التاريخ الأدبي ، والملاحظ أن بعض المؤرخين المحدثين يعد حكم العثمانيين فترة احتلال شامل ، ذلك لأن البلاد كانت تحت حكم سلاطينهم . والحقيقة أن العثمانيين لا يختلفون في تاريخنا العربي عن العناصر الحاكمة السابقه من البويهيين والسلاجقة والأكراد والشراكسة وغيرهم . وقد شهدت البلاد في عهودهم تطوراً في الفكر العربي والحضارة الإسلامية ” [1] .
وأضاف قائلاً : ” والملاحظ أيضاً أن النهضة الفكرية في البلاد العربية كانت في واقعها أنشط منها في بلاد الترك ( أي الروم ، كما كانت تسمى في العصر العثماني ) ، فإن كانت القسطنطينية العاصمة السياسية للسلاطين العثمانيين تسيطر على الحكم وتسير الأمور في الولايات العربية ، فإن هذه الولايات كانت في شبه استقلال فكري ، لأن اللغة العربية والثقافة الإسلامية كانتا استمراراً طبيعياً للعصور السابقة ، وهذا التواصل الحضاري هو الذي حفظ للأمة العربية تراثها وأصالتها في هذا العصر ” [2] .
الواقع أنّ الحكام العثمانيين كانوا يقومون برعاية العلماء والأدباء والشعراء وأصحاب العلوم والفنون ، وبفضل هذه الرعاية الحكومية ، نرى قائمةً طويلةً للأعلام والمفكرين العرب في هذا العصر ، نذكر المتميزين منهم : يوسف المغربي ، له ديوان شعر بعنوان ( الذهب اليوسفي ) ، وكما له عدة مؤلفات ، وأشهرها ( دفع الإصر عن كلام أهل مصر ) ، ونجم الدين الغزي ، قد كان غزير التأليف والتصنيف وكان من أعلام النثر ، والمعروف أنه خلف خمسةً وعشرين كتاباً ، والشهاب الخفاجي ، له العديد من المؤلفات ، ومن أشهرها ( شفاء الغليل فيما في كلام العرب من الدخيل والنادر الحوشي القليل ) ، والمقري التلمساني ، يقال عنه : إن العلماء الواردين في دمشق لم يحظوا باحترام واسع وإقبال الناس كما كان يتمتع به . وقام بتأليف العشرات من الكتب ، ومن أعلام هذا العصر البهاء العاملي ، نور الدين الحلبي ، ابن سنان القرماني ومن بين الكتاب المشهورين ابن أبي الرجال اليمني ، أبي البقاء الحسيني ، حسين المعني ، أبي الوفاء العرضي ، الغزيري السوري – قد عهد إليه بأمر تنظيم المخطوطات في مكتبة الأسكوريال ، وقضى معظم حياته في تأليف الموسوعة الكبرى للمخطوطات العربية في مكتبة الأسكوريال . ومن أبرز شعراء هذا العصر ، هم : ابن النحاس الحلبي ، ومنجك باشا اليوسفي ، وابن النقيب الحسيني ، وأبو معتوق شهاب الموسوي ، والخال الطالوي الكيواني الدمشقي ، وأمين الجندي .
أصناف الشعر العربي في العصر العثماني :
وكل شاعر من الشعراء العثمانيين يتّخذ مذهباً فنيّاً معيّناً ، فابن النحاس الحلبي يعتقد أنّ الجزالة هي الأصل في نظم الشعر ، ويركز على جمال المعاني ويتحاشى عن الإغراب والتعقيد في شعره ، لذلك يوجد في شعره الرقة والانسجام ، والأمير منجك باشا اليوسفي يعتمد على القدماء في كثير من معانيه ، ولكن الذي يتميز به أنه كان يحاول التجديد في هذه المعاني ، ويلبسها ثوباً قشيباً من الابتكار أو التوليد ، ويمثل بيئةً معينةً تجمع بين جمال التصير الفني ، والجرس الشعري . والشاعر ابن النقيب الحسيني يمثل الطبيعة الشامية بكل ما فيها من جمال وسحر ، وكان يتميز من غيره بمعانيه المبتكرة ، كما يتميز من عمق وابتكار في المعاني ، وجزالة وإجادة في الأسلوب ، والشاعر ابن معتوق شهاب الموسوي يمثل صورةً من الشعر العربي الأصيل الذي لم تفسده الصنعة والفنون البيانية والبديعية . وعبد الغني النابلسي يلتزم بالوحدة الموضوعية في شعره ، وهو يهتم بالغزل في شكل رئيسي ، ونجد في أسلوبه الوضوح والرقة ، كما نجد في قصائده جرساً داخلياً بالإضافة إلى الجرس العروضي ، والمحافظة على الأصالة الشعرية .
وكذلك الخال الطالوي والكيواني الدمشقي وأمين الجندي من أعلام الشعراء في التاسع عشر اتخذوا لأنفسهم أسلوباً واضحاً بعيداً عن التعقيد والتكلف والتصنع ، نجد عندهم معاني مبتكرةً وألفاظ جزلة وحسن التخيل واستخدام الصور الفنيّة وخاصةً استعمال الاستعارات والتشبيهات ، فهم لا يستخدمون الألفاظ الغريبة أو المتنافرة ، وهؤلاء الشعراء العثمانيون كلهم كانوا قادرين على استعمال البحور من الطويل والبسيط والكامل والقوافي الثقيلة ، ونجد عندهم روائع شعريّةً في الأغراض الشعرية المتعددة من المدح والفخر ، والرثاء ، والغزل ، والنسيب ، والوصف ، والموشّحات ، وفنون شعريّة مستحدثة . ونجد رصداً شاملاً لهذا التطور الفكري والثقافي والأدبي في مؤلفات ضخمة ، منها ( ريحانة الألبا ) للخفاجي و ( نفحة الريحانة ) للمحبي و ( سلافة العصر ) لابن معصوم .
شعر المديح :
كان شعر المديح لوناً شعريّاً متميّزاً في العصر العثماني ، وحظي هذا النوع من الشعر بشعبية أكثر ، ويشكّل كمّية كبيرة من الشعر العثماني . يقول الأمير منجك معجباً بانتصار السلطان الأول بن أحمد الأول على الكفار في جزيرة كريت :
ملك من الإيـــمــان جـرّد صـــارماً بالحق حتى الكفر أصبح مسلما
قد جهّز السفن التي لو صادفت رضـــوى بـــأيــسر لـــمـــحـــةٍ لتهدّما
وتـــلــــهّــب الــبحــر الخضّم مهابةً منك فظّنته ( كريت ) جـــهــنّــمـا
ويضيف قائلاً :
لــو شــاهــد الــمطرودُ سطوة بأسه في صُــلـــب آدم للـسجود تقدّما
يذر الدّجي با لبشر صبحاً مشرقًا والصبحُ بالإرهــاب ليلاً مظلماً [3]
يصف الشاعر عبقرية شخصية الممدوح ، فهو يقول : إنّ ممدوحه بطل عظيم ، ترتعد فرائص الكفار ببطشته وهجومه ، وتفقد المعدات العسكرية والآلات الحربية من أهميتها أمام بسالته وشجاعته ، ويطري في وصف بطولة ممدوحه بقوله : إنّ البحر الخضم يخضع له ، فبحرارة شخصيته ينقلب في صورة جهنم ، ثم يبالغ في وصف ممدوحه ، فيقول : لم يكن في إمكان إبليس أن يأبى من السجود لآدم عليه السلام لو تنبه إلى قوة ممدوحه وهو في صلبه ، فهو يجبر أن يخر له ساجداً . وكذلك يقول في البيت الأخير : كل شيئ معجب بشخصية ممدوحه حتى نظام الكون يتجاوب معه ، فالظلام الدامس يتحول إلى صبح مشرق ، وفي نفس الوقت الصبح مستعد تماماً أن يتحوّل إلى ليل مظلم .
وإذا قارنا قصائد الأمير منجك بقصائد أبرز الشعراء العباسيين وجدنا تقارباً وتشابهاً كبيراً بينها في الأسلوب والمعاني ، على سبيل المثال نجد دويّ نفس المضمون الذي ورد في شعر الأمير منجك عند أبي تمّام وهو يصف حريق عموريّة التي فتحها الخليفة المعتصم :
حتى كأنّ جلابيب الدجى رغبت عن لونها ، أو كأنّ الشمس لم تغبِ
ضوء من النار والظّلماء عاكـــفــةً وظُــــلـــمــةٌ من دخـانٍ في ضحيً شحبِ [4]
شعر الفخر :
كان شعر الفخر من الأنماط الشعرية البارزة في العصر العثماني ، ولكن الشعراء العثمانيين جاؤوا بتجديد في شعر الفخر ، وهو استخدام هذا النوع من الشعر للتعبير عن العاطفة الدينية على انتصارات المسلمين ضد المسيحيين في حروب استمرت طوال هذا العصر .
فيما يلي نقدّم نموذجاً لشعر الفخر في العصر العثماني ، يقول ابن النحاس :
وكل شــــعــــــر يُـــــلــــهــيك رونقه فهو شعري الطـراز والــــحـــللُ
سلــــبــــتُ مـــلــك القريض خُــرّده وأخبـــر الـــقـــومَ بــعدي الطللُ
فكن حكيماَ بما ترى حِكماَ لا يسبق السيفَ عندك العزلُ
أنا الذي إن مشى مـــشـى ملكاً وللــــقـــــوافي من حــــولــه زجلُ
أنا الذي لا يــــطــــيــــل وحــــشـته إلاّ جـــــهــــــولٌ أو بــــاخــلٌ رذلُ
أنا الذي لا تُـــــــمِــــــلّ صــــــحـبته ولا بــــــأســـرار صـــحـبه مـذلُ
ولا مــــضـــــيــــعٌ لــهــم إذا حفظوا ولا حــــــفــــيـــظٌ لهم إذا عـتلوا [5]
ويفخر الشاعر الأمير منجك على مآثر جده الأعلى قائلاً :
جـــدّي الـــــذي مـــلك الــبلاد بـرأيه لا با لجنود ، الباسلُ البسّامُ
قد كان مملوكاً وأصبح مالكاً كــــل الـــمـــلـوك ببابه خداّمُ
قد عمّر الخاناتِ في سبيل الـهدي لم يحصها صحفٌ ولا أقلامُ
تسعاَ وتـــسعـــيــــنا بنــــاها مـخلصاً ذاك الأمير الــمحسن المنعامُ
ويستطرد قائلاً :
ملكٌ إذا أمّ الضيوف جـنابَه يدعو القِرى لســـبيله اللإنعامُ
ملكٌ إذا سلّت صوارم جنده عيدانها : الهنديّ والصمصام [6]
للأمير منجك مجموعة من القصائد سمّاها ” الروميات ” . نظم الشاعر هذه القصائد في غربته في بلاد الروم ، وقد حاول الشاعر فيها أن يحذو حذو أبي فراس الحمداني الذي نظم عدة قصائد في زمان سجنه بالروم ، وأطلق على تلك القصائد اسم ” الروميات ” ، والأدباء قاموا بالموازنة بين روميات هذين الشاعرين من ناحية الموضوعات والمعاني ، فكل منهما يشكو تقلب الزمان وسوء الحال ويتألمان من الغربة وانقلاب الزمان عليهما ، هي موازنة جيدة يشعر القارئ بالمتعة والفرحة ويعجبه التشابه الذي يوجد بين الشاعرين في الأسلوب والموضوع والتناغم الشديد في إحساسهما تجاه عن شخصيتهما والتعبير الصادق عما يجول بخاطرهما .
يقول الأمير منجك :
لطقت بفضلي وامتدحت عشيرتي وما أنا مـــــداح ومـــا أنا شاعر
ما كنت أرضي بالـــمـجرة مورداً وظـــــلالـــهـــا وأحبتي ما داموا
قوم صغيرهم كــــبـــــيـــر في العلا يهوي الجميل ولم يرعه فطامُ
قوم إذا سُلّت ذكور ســــيــــوفـــهم قتل النساءَ الـــهـــــمّ والأوهـــامُ
غـــــيــــري يبالي بالـــفخار وإنـــنـــي فحل الرجال ورتــــبــــة ومـــقامُ
إذ منشئي قد كان تحــت سرادق خدامها الصمصام والقــمــقام [7]
يكتب الدكتور سامي يوسف أبو زيد تعليقاً على سمات شعرهما : ” ولئن كان أبو فراس الحمداني أرسخ قدماً في نظم الشعر ، وشعره أكثر سيرورة ، إلا قسوة الغربة التي تعرض لها الأمير منجك في بلاد الروم جعلت من شعره الذي قاله في غربته يرقى أحياناً إلى مستوى أبي فراس في التأثير الوجداني النفسي حتى وإن كان يحاكيه ويعارضه ” [8] .
ونراه يفتخر على موروثه لكونه سليل المجد :
إنما الناس نحن في كل دار ونــــداري ومــــا بــــنــــا مــــن يـداري
لوأردنا غير الجياد ركـــبــنا حيث سرنا على الأسود الضواري
غـير أن الأيام قد حاربـــتـــنــا لاعــــتــــــراض مــــنـــا عـلى الأقدار
ثم يعبّر الشاعر عن تفائله من خلال هذه الأبيات :
إنــــيّ أنـــا الـبازي قصّ جناحه فعسى يراش ويعتريه فُكاك
إني أنا الذهب الذي قد شابه قــدر الــرغام يزيله الحكاك [9]
شعر الرثاء :
تطور شعر الرثاء في العصر العثماني في شكل ملحوظ ، ولكن مراثي الشعراء العثمانيين لا تختلف مضموناً وشكلاً عن نظائرها في العصور الأخري ، فلمّا مات الخليفة سليمان القانوني الذي يعدّ من أبرز الخلفاء العثمانيين فحزن عليه الشعب ، فهب الشاعر العثماني الملاّ أبو السعود يرثي على موت هذا القائد العظيم في أسلوب مؤثر ، وشعره يمثل مشاعر الشعب في لحظاته الحزينة الكئيبة فهو يقول :
تاهت عقول الورى من هول وحشته فأصبحوا مثل مــــجــــنـون ومسعورِ
تـــقـــطـــعت قــــطــعا منه القلوب فلا يكاد يوجد قلب غــير مــكـــسورِ
أجـــــفـــــانــــهـــم ســفن مشحونة بدم تجري ببحرٍ من العبرات مــســجورِ
أم ذاك نــــعــــى سليمان الزمان ومن مــــضــــت أوامــــره في كـل مأمورِ
مدار سلـــــطــــنـــة الدنيا ومركزها خــــلــــيـــفة الله في الآفاق مذكورُ
معلي مـــــعــــالـــم ديــن الله مُظهرها في الـــعالــمين يسعى منه مشكورُ
وحسن رأيٍ إلي الخـيرات منصرفٍ وصدق عزم على الألطاف مقصورِ
بآية العدل والإحـــــسان مــــتـــمـسكٍ بــــغـــايــة القسط والإنصاف موفورِ
مــجــاهد في سبيل الله مجــــتـــهــــد مؤيّدٌ في جـــــنـــان الــقـدس منصورِ
ورأية رفـــــعــــت لـــلمــــجـــد خــــافقة تحوي على عَلَم بالـــنــصـر مـنشورِ [10]
شعر الغزل :
الغزل لون شعري قديم ، تطور هذا النوع من الشعر في العصر العثماني ، ونجد عند الشعراء العثمانيين كلا النوعين من الغزل – الغزل الحسي المادي والغزل العذري العفيف والشعراء العثمانيون ساروا على نهج الشعراء الأقدمين في شعر الغزل ، فالشاعر يستمد مادة غزله من بيئته وعصره ، وربّما يصف حبيبته وصفًا مادياًّ وربّما وصفاً رمزياً .
الشاعر يوسف المغربي يصف أوصاف محبوبته وصفاً مادياّ من خلال هذه الأبيات :
جعلوا الصباح مباسماً ثمّ الظلا مَ ضـــفائــــراً ثــــمّ الرماح قدوداً
والوردَ خداّ والـــغــصون معاطفاً والــــبــــدرَ فـــرقـاً والغزالة جيداً
ورأتْ غصون البانِ أنّ قــــدودهـم فاقت فأضحتْ ركّعا وسجوداً [11]
تتجلى بهذه الأبيات أنّ تشبيه المباسم بالصباح ، والضفائر بالظلام والخدود بالورد ، والقدود بالرماح ، والجيد بعنق الغزال هي نفس التشبيهات التي استخدمها شعراءنا القدماء .
يصف ابن النحاس آلام العشق ولذة الحرمان :
ألذّ الهوى ما طال فـــيـــه الــتجنبُ وأحلاه ما فيه الأحـــــبّـــــة تـعتبُ
وما بُعد دارٍ من حــبيبٍ مــــذمّـــمًا إذا لـــم يــــجــــد فــيه مُناه المؤنّبُ
قضى الحظّ إلاّ أن أكون مبعّداً وألقى الذي لاقي المحبّ المعذّبُ
ويقول الشاعر الأمير منجك :
أغار إذا وصفتك من لــساني ومن قلــــمـــــي عــــليك من بناني
لئن منعتك قومك من حديثي فـــكـــم باتت تسـاجلك الأماني
وإن حجبوك عن نظري فإني أراك بعين فكري من مكاني
وإن تك نار صدّك لي تلــظـى فمنك أشم رائــــــحــــة الـــجـــنان
وإن شرّقت أوغـــربـت عــــنــي فـــــمـــا لك مــــنـــــزل إلا جـــناني [12]
شعر وصف الطبيعة :
الشعراء العثمانيون أجادوا في وصف الطبيعة وشعرهم يصور جمال الطبيعة في أجمل شكل بما فيه وصف ورود وأزهار وبساتين وأشجار وطيور وأرباض ومنتزهات .
يصف الشاعر العثماني ابن النقيب القرنفل وصفاً دقيقاً ، فهو يقول :
انظر إلى خيمة وقد نُصِبت خــضـراء عند الصباح مبيضّةْ
كــــــــأنـــــــها قـــبّــــة لراهبة وقد كستها صُلبانٌ من فضّة
ويضيف قائلاٌ :
أما ترى ناصع القرنفل وافى بــتحايا الشميم بين الــزهور ؟!
قضبٌ من زبــرجـدٍ حـــاملاتٌ قطعاٌ فككّت من الكافور [13]
الشيخ عبد الغني النابلسي يقول في وصف القرنفل :
زهر قرنفل في الروض يحكي قطور دمٍ علي صفحات ماء
رأي وجنات من أهوي فأغضي فــــبــــان بــوجــهه أثرُ الحياء [14]
يدعونا الشاعر منجك باشا اليوسفي إلى تأمل الطبيعة من خلال وصف الربيع فيقف على خفاياها وأسرارها لاستخراج معانيها ورموزها ، إذ يقول :
وتــــــأمّـــــل فصـــل الربيع تجدْهُ حِــكَـمًا أظهرت لنا أسرارا
وعــــلــــى الــــدوح للـــنـسـيم أيادٍ عن غصونٍ تفكّك الأزهارا
تــــتــــجلــــــى عــــــرائــساً وعليها من جيـوب الغمام تلقي نُثارا
وترى الروض في شبابٍ وحسنٍ جعل النّــورَس بُــرده المعطارا [15]
المدائح النبوية :
ومن ميزة الشعر العثماني كثرة المدائح النبوية ، وهناك العديد من الشعراء العثمانيين كأمثال ابن النحاس الحلبي ، وابن النقيب الحسيني ، وأبو معتوق شهاب الموسوي وأمين الجندي الذين نظموا قصائد رائعةً في مدح النبيّ صلى الله عليه وسلّم ، فالشاعر ابن النحاس يتحدث عن مشاكله ويخاطب النبي صلى الله عليه وسلّم ملتمساً شفاعته ، فهو يقول :
يا أكرم الخلق فا عذر شاعراً وقفتْ عن درك أوصافك العليا قرائحُهْ
صفرَ اليدين ،غريبَ الدار منكـسراً أتاك والذنب أفـنى الدهرَ فادحُه
يهوي النجاة ولم يــــُسلــــف له عـــمــلاً يُــــسِـــــرّ يـــــوم يـُسِرّ المرءَ صالحُه
يــــا ويــــلّـــــه يــــأتي للـــحســـــاب غــــداً إن لم يكن لك مــــولاه يـسامحه [16]
والشاعر أبو معتوق الموسوي تميّز عن أقرانه في المدائح النبوية ، وله عدة أبيات نالت شعبية كبيرة فهو يقول :
فإلام يفجعني الزمان بفقدهم ولــقد رأى جَلَـــدي على حَدَثانه
عتبي على هذا الزمان مــطوَل يفضي إلي الإطناب شرح بيانـه
هيهات أن القاه وهو مسالـمي إنّ الأديب الحرّ حـــرب زمـــانــه
ثمّ يقول مخاطباً النبيّ صلى الله عليه وسلّم :
يا سيد الكونين ! بل يا أرجح الث ثـــقلــين عند الله في أوزانه
عــــــذراً فــــإنّ الـــمـــدح فــيك مقصّر والعبد معترف بعجز لسانه
مــــا قـــــدرُه مـــا شــــعُـــره بــمديح من يــــثـــنــي عليه اللهُ في قرآنه [17]
شعر الزهد :
قد تطور شعر الزهد في العصر العثماني ، وكان الشاعر عبد الغني النابلسي رائداً وممثلاً بارزاً للشعر الزهد في هذا العصر ، وكان يتمتع بثقافة واسعة ، وله عدة مؤلفات في التصوف ، ومعظم الأحيان يصور النابلسي النشوة والطرب الصوفي وشطحاته الصوفية في شعره ، فهو يقول :
اسقني من مدامة القدّوس فهي ملء الدّنانِ ملءُ الكؤوسِ
وأدوها عليّ بين الــندامــى مــــن قــــيام بــسكرها وجلوسِ
صرف راح بشربها أمــيتت من نفوس وأحــــيــــت من نفوس
بكردنٌ عتيقة قد أعادت بالــــتـــدابـــيـر عهد جالــــيـــنوس
قام يسعي بها المليح عـلينا ذو مـحيّا يفوق ضــــوء الشموسِ [18]
شعر الدعوة الإسلامية :
ازدهر شعر الدعوة الإسلامية في العصر العثماني في شكل ملحوظ ، والشعراء عن طريق شعرهم تناولوا مستلزمات العقيدة الإسلامية والقيم الدينية ، مثلاً يقول الشاعر ابن شرف متناولاً مسألة صفات الله في هذه الأبيات :
والله خــــالــــق أفـــعــال الـــعباد وما يجري عليهم فعن أمر الإله جرى
فــــفـــي يــديــه مـقادير الأمور وعن قضاءه كل شيـئٍ في الوري قُدرا
فمن هدي فبمحض الفضل وفّــقه ومن أضّل بعدل مـــنــه قد كفرا
فليس في ملكه شئ يكون سوى ما شاء الله نفعاً كان أوضــــررا[19]
ويتضح بهذا أن الأدب العربي لم يضعف في العصر العثماني ولم يتوقف نشاطه الأدبي . والواقع أن الشعر العربي ازدهر في هذا العصر كازدهاره في عصوره الذهبية ، ويتجلى هذا بدراسة متأنية لتاريخ الأدب العربي – العصر العثماني ، فنجد فيه تطوراً ملحوظاً في جميع أنواع الشعر من المديح والرثاء والغزل والفخر والهجاء والوصف ، كما نجد فيه فنوناً شعريةً مستحدثةً كالمدائح النبوية وشعر الزهد والحماس وشعر الدعوة والجهاد والموشحات وأشكال شعرية أخرى ، فبإمكاننا أن نستخلص أن الأدب العثماني ليس أقل أهميةً من أدب أي عصر من العصور الأدبية من حيث صياغته اللغوية ومكوناته الشعرية أو قيمته الفنية والحضارية ، فلا يسع لأحد أن يرفض أهمية أدب العصر العثماني أو يقلّل من قيمته التاريخية والتراثية .
* الأستاذ المساعد بقسم دراسات العرب ، جامعة الإنجليزية واللغات الأجنبية ، حيدرآباد ( الهند ) .
[1] الدكتور عمر موسى باشا ، تاريخ الأدب العربي – العصر العثماني ، ص 5 ، دار الفكر المعاصر ، بيروت ، لبنان .
[2] الدكتور عمر موسى باشا ، تاريخ الأدب العربي – العصر العثماني ، ص 21 ، دار الفكر المعاصر ، بيروت ، لبنان .
[3] ديوان الأمير منجك ، ص 9 ، الأدب العثماني ، الدكتور سامي يوسف أبو زيد ، الطبعة الأولى ، دار المسيرة عمان ، الأردن ،ص 70 .
[4] ديوان أبي تمّام بواسطة تاريخ الأدب العربي – العصر العثماني ، تأليف : الدكتور عمر موسى باشا ، ص 40 ، دار الفكر المعاصر ، بيروت ، لبنان .
[5] ديوان ابن نحاس ، ص 78 ، بواسطة الأدب العثماني ، تأليف : الدكتور سامي يوسف أبو زيد ، الطبعة الأولى ، دار المسيرة ، عمان ، الأردن ، ص 138 .
[6] ديوان الأمير منجك ، ص 78 ، بواسطة الأدب العثماني ، تأليف : الدكتور سامي يوسف أبو زيد ، الطبعة الأولى ، دار المسيرة ، عمان ، الأردن ، ص 97 و 98 .
[7] الديوان ، ص 105 – 107 ، تاريخ الأدب العربي – العصر العثماني ، تأليف : الدكتور عمر موسى باشا ، ص 174 – 175 دار الفكرالمعاصر ، بيروت ، لبنان .
[8] الدكتور سامي يوسف أبو زيد ، الأدب العثماني ، الطبعة الأولى ، دار المسيرة ، عمان ، الأردن ،ص 238 .
[9] ديوان الأمير منجك ، بواسطة تاريخ الأدب العربي – العصر العثماني ، تأليف : الدكتور عمر موسى باشا ، ص 174 – 175 ، الناشر دار الفكرالمعاصر ، بيروت ، لبنان .
[10] المنح الربّانية ، ص 132 – 136 ، بواسطة الأدب العثماني ، تأليف : الدكتور سامي يوسف أبو زيد ، الطبعة الأولى ، دار المسيرة ، عمان ، الأردن ،ص 75 .
[11] ديوان يوسف المغربي ، ص 33 ، بواسطة الأدب العثماني ، تأليف : الدكتور سامي يوسف أبو زيد ، الطبعة الأولى ، دار المسيرة ، عمان ، الأردن ، ص 89 .
[12] ديوان الأمير منجك ، ص 14 ، بواسطة تاريخ الأدب العربي – العصر العثماني ، تأليف : الدكتور عمر موسى باشا ، ص 82 ، الناشر دار الفكرالمعاصر ، بيروت ، لبنان .
[13] الدكتور سامي يوسف أبو زيد ، الأدب العثماني ، الطبعة الأولى ، دار المسيرة ، عمان ، الأردن ، ص 112 – 113 .
[14] الدكتور سامي يوسف أبو زيد ، الأدب العثماني ، الطبعة الأولى ، دار المسيرة ، عمان ، الأردن ، ص 112 – 113 .
[15] الدكتور سامي يوسف أبو زيد ، الأدب العثماني ، الطبعة الأولى ، دار المسيرة ، عمان ، الأردن ، ص 226 .
[16] الديوان ، ص 9 ، الأدب العثماني ، الدكتور سامي يوسف أبو زيد ، الطبعة الأولى ، دار المسيرة ، عمان ، الأردن ، ص 124 .
[17] ديوان أبي معتوق الموسوي ، ص 7 ، بواسطة تاريخ الأدب العربي – العصر العثماني ، تأليف : الدكتور عمر موسى باشا ، ص 371 ، الناشر دار الفكر المعاصر ، بيروت ، لبنان .
[18] ديوان أبي معتوق الموسوي ، ص 171 ، بواسطة تاريخ الأدب العربي – العصر العثماني ، تأليف : الدكتور عمر موسى باشا ، ص 481 ، الناشر دار الفكر المعاصر ، بيروت ، لبنان .
[19] الدكتور سامي يوسف أبو زيد ، الأدب العثماني ، الطبعة الأولى ، دار المسيرة ، عمان ، الأردن ، ص 161 .