أزهار الربيع كيف ينبغي أن نجنيها
سبتمبر 2, 2024الافتتاحية : بسم الله الرحمن الرحيم
تجديد الثقة بالإسلام حاجة الساعة
ما يجري في العالم الحديث من ظروف قاسية ضد الدول والمجتمعات التي تُبدي انتماءها إلى الإسلام ، لم يعد لُغزا تحتار العقول في تحليله أو إدراك معانيه ، تتألب القوى المعادية كلها بإعدادات ضخمة من كل نوع ضد الشعوب الإسلامية والدعوة الإسلامية ، وتشن عليها الغارة بغاية من القسوة والوحشية ، فالمسلمون يعانون من المحن والآلام ما يسد عليهم الطريق ، ويضيق عليهم الحصار ، ويبعث فيهم اليأس من مستقبل الإسلام .
لكن الإسلام لا علاقة له باليأس والتشاؤم ، فإنه يولِّد في المنتمين إليه قوة التفاؤل بالمستقبل المشرق بتعاليمه وتوجيهاته الرفيعة ، ويملأ قلوبهم بالثقة الكاملة بالله عز وجل ، وعدم الخوف والذعر من أي قوة معادية متألبة على فئات شتى من المسلمين ، وينير الطريق نحو الفتح والانتصار ، ويضيئ ظلمات الليل الحالكة ، ودياجير الكفر والطغيان الخادعة ، وينتشل الغارقين في طوفان الإلحاد والزندقة إلى بر الأمان وساحل النجاة ، ويأتي بالعجايب والغرايب في هذا الأمر ما يدهش العقول والألباب ، هذا هو الإسلام الذي يسمى دين الفطرة ، ودين الطبيعة الإنسانية ، فليست هناك للطبيعة مشكلة أو محنة ، ولا أمام الفطرة أشباح مخيفة ، أو معوقات وعراقيل ، إلا ونجمت معجزة الإسلام بخوارقها وإبداعاتها، وقامت بفك عويصاتها ومشكلاتها ، وأنقذتها من هذه الأعباء الشاقة أو الأحمال الثقيلة ، قال الله تعالى : ( وَهُوَ ٱلَّذِى يُنَزِّلُ ٱلْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ ٱلْوَلِىُّ ٱلْحَمِيدُ ) [ الشورى : 28 ] .
إن الحضارات المادية ، والمذاهب الوضعية ، التي عاشت على وجه الأرض أتت بالأيدلوجيات المتنوعة والنظرات المختلفة لإراحة الإنسانية ، وتوفير الأمن والسلامة لكل طبقة من طبقاتها ، وقدمت كثيراً من الحلول الطارئة للمشاكل والصعوبات التي تواجهها البشرية في مختلف العصور والدهور ، وقد عرف التاريخ الإنساني الحضارة الساسانية والحضارة البيزنطية ، فهاتان الحضارتان كانتا أرقى وأعرق الحضارات الإنسانية في القرون الماضية ، وكان العامة والخاصة يفتخرون بالانتماء إليها ، ويعتزون بالنسبة لها ، ويتمنون باللحاق بها ، لكن طبيعة هاتين الحضارتين كانت طبيعةً : الناس أتباع من غلب ، فالطبقة الأرسقراطية كانت على قمة من البذخ والترف ، ومرافق الحياة ، لكن الطبقات الضعيفة تشكو فقراً مدقعاً ، وخواءً مرهقاً ، وتلجأ إلى أن تنال لقمةً لإشباع نهامتها الفطرية ، وكان تعامل أعضاء هاتين الحضارتين مع العبيد والإماء تعاملاً قاسياً ، وسلوكاً جائراً ، فكانوا يتدربون على الرماية بتوجيه السهام إلى العبيد ، فإذا أصابت السهام أجسامهم صفقوا فرحين مسرورين ، وكان العبيد يتململون تململ السليم ، ويشعرون بشدة آلام هذه الجراحات اللاذعة ، هذا في جانب ، وفي جانب آخر كان العبيد والإماء تحرق بهم النار ويشتعل أوارها ، فيتحول العبيد والإماء إلى رماد ، وهم يتناولون الأطعمة اللذيذة في أضوائها بدلاً من المصابيح والأضواء الفطرية ، وكذلك العلماء لهاتين الحضارتين لم يأتوا إلى الإنسانية بأي شيئ ، يزيل عنها كآبتها وهلعها ، فهناك أفلاطون وسقراط وأرسطو الذين يعدون من علماء الفكر العالمي وعقلانييهم وزعوا الإنسانية بين طبقات ومجموعات ، واعتبروا طبقة العمال والزراع من أرذل الطبقات ، فإنهم خلقوا لخدمة الحكام وطبقة الجيش ، وليس لهم حقوق وخيارات مطلقة ، وأما حضارة الهند التي يدعي أدعياؤها باستمراريتها منذ الألف الثالث قبل الميلاد فقد ظهر فيها نظام الطبقات في أبشع صورة ، فكان فيه رجال الدين ، ورجال الحرب ورجال الزراعة والتجارة ، ورجال الخدمة ، فكانت الطبقة الأولى عندهم صفوة الله تعالى ، وكانت الطبقة الأخيرة أحط من البهائم ، وأذل من الكلاب ، وكان الفساد والخلل في كل شعبة من شعب الحياة ، وكانت الإنسانية تئن وتتألم من تبعات وأوضار هذه الحضارات المصطنعة المجحفة ، ولا تجد من الهدوء والطمأنينة ، وأضف إلى ذلك النظرات الزائفة ، والأفكار المعسولة التي تنادي بالأمن والاستقرار والسلامة ، وتهتف بأنها كفيلة لنجاح الإنسانية مائة في المائة ، لكن سرعان ما ينقلب الأمر ظهراً لبطن ، وينكشف زيفها أمام العالم ، ويتجلى بكل وضوح أنها كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً .
في هذه المجتمعات اليائسة ظهرت شمس الإسلام ، وأنارت الأرض بل الكون كله ، بأشعتها المشرقة ، وأتحفت الإنسانية بالحياة المطمئنة ، التي حلم بها أدعياء الحضارات والنظرات من أصولها وقواعدها ، فدخل الناس في دين الله فرادى وجماعات ، واعتنقوا الإسلام ، وطبقوا شريعته في كل جزء من أجزاء الحياة ، وخلعوا من أعناقهم ربقة الجاهلية والاستعباد ، وأعطوا كل ذي حق حقه ، ولم يحرموا عضواً من أعضاء المجتمع الإنساني من حقه ، من جراء ذلك زال الخوف والفزع ، وانتهى الاضطراب والقلق ، ونالت الإنسانية ضالتها المفقودة ، وثروتها الضائعة التي اختفت تحت أكوام من الرماد ، وأطنان من التراب ، وعاش الناس سعداء مطمئنين ، وكل ذلك كان مديناً للإسلام وتعاليمه التي أنزلها الله تعالى من سبع سماوات ، ولم يكن سواه دين يوفر للإنسانية الطمأنينة مثل ما وفر الدين الإسلامي لها ، فكانت ظلالها الوارفة يستريح الناس تحتها ، وينجزون أعمالها بكل هدوء وسكينة ، لأن أصل هذا الدين كان ثابتاً تحت الأرض ، وكان فرعه في السماء ، يؤتى أكله كل حين بإذن ربه .
هناك دراسة متأنية للإسلام في ضوء مبادئه وأصوله وخصائصه ، حتى يتبناها المرء في هذا العصر المليئ بالفتن والمحن ، ويتخذها كملجأ من الله تعالى خالق السماوات والأرض ، وكمنقذ للإنسانية من أوحال الكفر والشرك ، فالمبدأ الأول للإسلام هو عالميته ، فلا يتقيد بحدود الدول والأمصار ، ولا يتحدد بحدود البلدان والديار ، إنه يخاطب النوع الإنساني بكامله رغم تنوع الأعراق والمنابت والمواطن ، ويجعل المجتمع الإنساني عقداً لا تنفصم عراه ، ولا تتبعثر أسلاكه ، فجميع الانتماءات والروابط العرقية والتاريخية والجغرافية ذائبة في بوتقة عالمية الإسلام ، ومنصهرة في سبائكه ، فلا اعتبار فيه للأصباغ النصرانية واليهودية ، ولا قيمة فيه للألوان المجوسية والزرداشتية ، إنه يرفض التفوق العنصري والاستعلاء الجنسي رفضاً باتاً ، ويربط الإنسانية برباط وثيق من الوحدة الإلهية، والوحدة الإنسانية ، قال الله تعالى : ( وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ ) [ البقرة : 163 ] ، والمبدأ الثاني : الوسطية والاتزان ، هذا المبدأ جمع الدين بين الروح والمادة ، وبين الدنيا والآخرة ، وأقام جسراً بين الحقوق والواجبات ، وبين المثالية والواقعية ، فلا إفراط فيه ، ولا تفريط ، ولا غلو فيه ولا تقصير ، ولا طغيان فيه ولا كفران ، وقد زاغت اليهودية عن الصراط المستقيم ، بنبذ هذه الميزة وراءها ظهرياً ، فكانت عند الله ملعونةً ومغضوباً عليها ، وانحرفت النصرانية بالغلو في الألوهية والربوبية ، فكانت فرقةً ضالةً عن جادة الحق والصواب ، ثم جاء الإسلام ، فجمع بين الإفراط والتفريط بوسطية واتزان ، وجعل أمة الإسلام أمةً وسطاً لتكون شهداء على الناس .
المتغيرات الحضارية والسياسية التي يعيشها العالم المعاصر تؤثر على أنماط الفكر وأساليب الحياة ، وتتناول الكليات والقواعد الأساسية بالتغيير والتحوير ، وقد أصبحت وجهات الأنظار نحو الأشياء متجددةً ، وتبدلت المقاييس ، واحتل الفكر الارتجالي محل الفكر الأصيل الناضج ، وباتت العقلية الإجرامية فناً ، يتمثل في مجالات كثيرة من الممارسات الحضارية والعلمية ، والسياسية والاقتصادية ، ويتحكم في الشئون الحيوية كلها من غير تقيد أو مراعاة الظروف ، الأمر الذي أثر في ضعف الثقة بالإسلام ، وتعاليمه الناصعة ، وبدأ الناس يعيشون حياةً بعيدةً عن الدين ورسالته ، ولا سيما الطبقة المثقفة التي نالت الشهادات العريضة ، والوسامات الفاخرة ضعفت علاقتها بالدين الإسلامي ، فليس معنى الدين عندها إلا أداء شعائر خاصة للدين فقط ، وأما أن يكون الإسلام في كل جزء من أجزاء الحياة ، وأن يكون ماثلاً أمام الأعين ، ومتمثلاً في التقاليد والطقوس الاجتماعية ، حتى في الشارات والألبسة ، فذلك أمر أصبح كعنقاء المغرب لدى الطبقة المثقفة إلا ما شاء الله ، فتسربت إلى هذه الطبقة الردة الفكرية ، – وفي أصح تعبير – الردة الإيمانية ، وشاع الإلحاد والزندقة والمروق من الدين في هذه الطبقة كثيراً ، لأنها تعيش كما يعيش الناس الذين لا هم لهم إلا البطن والمعدة ، فيدورون في وظائفهم كرحى الطاحون ، ويقضون حياةً رتيبةً لا جدة فيها ، ولا طرافة ، ولا حياة فيها ولا حرارة كأنهم خشب مسندة .
فالحاجة ماسة إلى نحو إعادة الثقة الكاملة بالإسلام ورسالته إلى نفوس هذه الطبقة بوجه أخص ، والاقتناع الكامل بأن الإسلام هو المنهج الطبيعي الأصيل للإنسان في كل زمان ومكان ، ومع كل جيل وبيئة ، مهما تغير العالم ، وتطورت الأوضاع ، وتبدلت المقاييس ، ولكنه لا يفقد أصالته وطاقته بأي حال ، فلابد من تجديد الثقة به ، والارتباط برسالته ، وتطبيق منهجه على الحياة والمجتمع . ( وَفِى ذٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ٱلْمُتَنَافِسُونَ ) .
والله يقول الحق ، وهو يهدي السبيل .
سعيد الأعظمي الندوي
21/3/1446هـ
25/9/2024م