لمثل هذا يذوب القلب من كمد
أبريل 28, 2025الافتتاحية : بسم الله الرحمن الرحيم
بين موضوعية التعليم والمتعة التجارية
أليس من سعادة الإنسان أن يعيش اهتمامات ذات أهداف غالية ، نحو ما يرفع مستوى الفكر الإنساني عن طريق التعليم والتربية ، فقد أجمع فلاسفة العالم على أن أفضل مهنة يمارسها الإنسان في مجالات الحياة الواسعة المترامية الأطراف ، إنما هي مهنة التعليم والتربية ، ذاك أن الإنسان لا يطلع على وظيفته ومنصبه ودوره في هذا العالم ما لم يكن له نصيب من العلوم والمعارف ، ونظرةٌ في تاريخ الحضارات الإنسانية والتجارب البشرية .
لقد مضى في المجتمعات البشرية عبر العصور والأجيال رجال أكرمهم الله سبحانه وتعالى بنظرة ثاقبة ، وهمة عالية ، في مجال التعليم والتربية ، وركزوا كل مواهبهم وطاقاتهم في بناء الإنسان عن طريق نشر العلم والتعليم ، وبالتالي بناء العالم بواسطة أولي العلم والثقافة والتربية والخبرة ، على أسس حكيمة من الموضوعية وسمو الهدف ، والسلوك الرفيع ، مع التحلي بالعلم والمعرفة ، لذلك فإن التاريخ القديم يشهد باشتغال فئة من الناس بالبحث عن الحياة السعيدة عن طريق العلوم والمعارف ، وتأسيس فلسفة للحضارة والاجتماع ، من غير أن تبحث عما إذا كانت هذه المجهودات قد حظيت بالنجاح أو باءت بالفشل لأسباب يطول بذكرها الوصف ، إلا أن نظرة الإسلام نحو العلم والتعليم والتربية واسعة شاملة ، وهي ترفع قيمة الإنسان العالم المؤمن الذي يسعد بالإيمان والعقيدة عن علم واقتناع ، كما قد شهد بذلك كتاب الله عز وجل الذي يقول : ( يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) [ المجادلة : 11 ] ، وقد عظم الله مكانة العلماء على غيرهم ، فقال : ( هَلْ يَسْتَوِى ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ) [ الزمر : 9 ] .
لولا أن الإسلام قد رفع هذه المكانة ، وحدب عليها ، وأشاد بها لما عرف العالم هذه الأهمية الموضوعية ، بشأن العلم والعلماء ، والعلم هو أساس كل صلاح وفضيلة ، وأساس كل حضارة ومدنية ، وإن العالم الذي عُرف اليوم بالتقدم الحضاري الهائل لم يتم له ذلك إلا بالعلم والمعرفة ، وبالبحث عن جوانبهما التي جعلت الإنسان المعاصر يقدر على تفجير طاقات الكون وإيجاد الوسائل البريئة لخدمة الحياة والإنسان .
هناك طائفة من المسلمين تزعم أن الاشتغال بالتعليم الإسلامي والاهتمام بالتربية الدينية يحولان دون كسب المعاش ، ويعوقان الطريق نحو عيش رغيد ، وهناء بال ، لكن الواقع ليس كما تزعم هذه الطائفة ، وإنما العلم أساس الكون والحياة والإنسان ، والعلم مهما كان هو أول هدية سماوية ، شرف الله بها الإنسان ، وجعلها زينة الحياة الدنيا ، وجائزة الحياه الآخرة ، ومن ثم كانت حاجة العالم البشري إلى أن يركز جميع قواه وإمكانياته على البحث عن منابع العلوم والمعارف ، ويتأكد أن الله سبحانه لم يخلق الإنسان عبثاً ، ولم يمهله سدىً ، بل أكرم عليه بأن يعرف غاية الحياة والهدف الذي أراده الله سبحانه من خلقه ، وصرَّح به في كتابه بغاية من الوضوح والبيان بصيغة الحصر : ( وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ . مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ . إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلْقُوَّةِ ٱلْمَتِينُ ) [ الذاريات : 56 – 58 ] ، ومن لا يدري أن غاية العبادة لا تتحقق بدون تعليم وتعلم ، وبذلك تبين أن طبيعة العبادة لله تعالى وطبيعة البشر في هذا العالم واحدة ليس بينهما فرق أو تغاير ، وقد عبر عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفطرة ، فقال : كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ( صحيح البخاري عن أبي هريرة ، رقم الحديث : 1385 ) ، ولا يتم هذا الواقع المغاير لفطرة الإنسان إلا بالتعليم والتربية ، التي يتلقاها المولود من أبويه ويصطبغ بصبغتها .
ومن هنا نستطيع أن نتأكد أن التعليم الإسلامي الذي وضع قواعده الإسلام في ضوء كتاب الله تعالى ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إنما هو الأساس الأول والأصيل لبناء الإنسان ، ذي الفطرة السليمة ، وذلك هو الطريق نحو سعادة البشرية ، وترسيخ جذور الإيمان والأمن والسلام في العالم كله ، بهذا التعليم نستطيع أن نقود العالم ، ونصلح اعوجاجها ، ونسدِّد خطاها ، وهو الذي أرسل به الأنبياء والرسل ، فكانوا مطلعين على غاية التعليم والتربية التي أكرموا بها ، وإن ما نشاهده اليوم من الفساد في الأرض ، وما نعانيه من الأمراض المعضلة ، ومن الانسياق إلى محاربة الأخلاق الجميلة ، ودحض الحقائق ، وحوادث القتل والفتك والانتحار ، كل ذلك للحيد عن طريق الفطرة وطبيعة الخلق والأمر ، والاعتماد على العقل المادي والأيدلوجيات الجديدة التي تبعث صاحبها على أخذ كل وسيلة واختيار كل طريق يتكفل له بسعادة الدنيا ، سواء عن واسطة العلوم والمعارف ، التي لا تغني عن معرفة مَن خلق هذا الكون الهائل العظيم ، أو بغيرها من الصناعات والإبداعات لمجرد العيش في الحضارات المادية في غلبة وهناء وقوة ، وسعادة متخيلة لا علاقة لها بالواقع العملي في حال ما ، فانحرف التعليم في هذا العالم عن غايته النبيلة ، وأصبح متعةً تجاريةً أو ربحاً مادياً ، يتنافس الناس خاصتهم وعامتهم ، وصغارهم وكبارهم ، ورجالهم ونساؤهم في كسبه والحصول عليه ، قال تعالى : ( بَلِ ٱدَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِى ٱلآخِرَةِ ، بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مِّنْهَا ، بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ ) [ النمل : 66 ] .
إن عالمنا البشري يعيش قصوراً شامخةً متخيلةً ، ويطير الإنسان الحضاري الحديث في أجواء اصطناعية وأحلام حلوة لذيذة ، فلا يجتني من كل ذلك إلا ألواناً وأنواعاً من التعب والشقاء ، والأمراض القلبية ، والنفسية ، رغم أن معظم أفراد هذا العالم البشري يعتبرون مثقفين بالثقافات المنوعة ، المادية الحضارية ، ومن هؤلاء من يشغل أحياناً مناصب سياسيةً جليلةً من الحكام والوزراء ، والرؤساء لكبرى الحكومات العالمية والدول التابعة لها ، ولكنهم لا يقدرون على التوصل إلى حلول للمشكلات والقضايا التي يجتاز بها إنسان العالم الحديث ، بل الواقع أن هذا الإنسان يصاب باليأس ، ويتمنى النجاة من قيود الحياة والمجتمع ، وذلك بالفرار من المسئولية الإنسانية .
ومن هنا نستطيع أن نعرف قيمة العلم والمعرفة وطريق اكتسابه من خلال المنهج الذي شرعه الإسلام ، حتى نجمع بين بناء الإنسان والعالم البشري ، على أسس ثابتة من العلوم والمعارف التي تدين بالإسلام وقواعد التربية والتعليم ، التي رفعها رسول الأنام خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم بأمر قائم دائم من الله تبارك وتعالى إلى يوم الدين ، وقد صرَّح بذلك كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم ، فقال : ( فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِى ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوۤاْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) [ التوبة : 122 ] .
والله يقول الحق ، وهو يهدي السبيل .
سعيد الأعظمي الندوي
19/9/1446هـ
20/3/2025م