استخراب أو استعمار !
سبتمبر 4, 2021الكثافة السكانية : سنة إلهية أو ناقوس خطر للإنسانية
نوفمبر 3, 2021صور وأوضاع :
بيغاسوس : أشد خطراً على المجتمع الإنساني
محمد فرمان الندوي
وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا :
لقد كثر الحديث الآن عن برنامج التجسس العالمي ، وهو بيغاسوس ( Pegasus ) اخترعته الشركة الإسرائيلية عام 2016م ، للاطلاع على أسرار وودائع ما يقوم به مستخدمو الجوالات الذكية من اختزان ملفات ومواد سرية دولاً وشعوباً ، ولا شك أن هذا الاختراع غريب في عالم المخترعات ، لكن أصبح هذا الموضوع حديث الصحف والجرائد ، والقنوات الفضائية ، وقد اشترت هذا النظام بعض الدول فاستخدمته ضد الأفراد والشعوب ، فكان ذلك موضع احتجاجات واسعة في البرلمانات ، ولا تزال هذه الاحتجاجات مستمرةً ، وتصدر مقالات ودراسات حول سلبها وإيجابها ، لكن لا يتوقف الأمر ، بل يزداد خطورةً وشدةً . وقد وردت إشارة إلى أمثال هذه المخترعات الخطيرة في القرآن الكريم : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ) ( البقرة : 219 ) .
يكون في كل بلد نظام المخابرات والاستطلاعات ، وهذا النظام يراقب كل شأن من شئون البلاد سراً وخفيةً ، بذلك يعرف الهجوم المباغت على البلاد ، والخطر المحدق بها ، فيتحرك ضباط أمن وقوات عسكرية لقمع هذه الفتنة ، فيكون ذلك في صالح البلاد ، ويسلم الناس من الفتن المفاجئة ، ويأمنون أمناً عاماً ، ففي كل بلد وقطر نظام الاستخبارات ، وهو يجمع المعلومات والوثائق المشتبهة ، ويتم هذا العمل بواسطة الوكالات والمصادر الخاصة ، ويبرر له كل شيئ ولو كان على حساب الإنسانية ومعاداة الأديان السماوية ، وقديماً قال المفكر الغربي مكيافيلي : ” الغايات تبرر الوسائل ” .
ليس نظام التجسس جديداً في هذا العصر ، بل هو قديم قدم التاريخ ، وقد كان العرب يخصصون له عيوناً وجواسيس ، فهم يطلعون على خبايا الأمور ، ويخبرون سيد القوم بكل ما كان موجوداً أمامهم من دون غربلة ولا تحقيق ، وقد قال البحتري :
إذا العين راحت وهي عين على الجوي فليس بسر ما تسر الأضالع
وكانت الجيوش والعساكر حينما تتركب وتتجمع فهي تكون في خمسة أجزاء : مقدمة الجيش ، مؤخرة الجيش ، ميمنة الجيش ، ميسرة الجيش ، وقلب الجيش ، أضف إلى ذلك طليعة الجيش فهي الكتيبة التي تتقدم هذه الأعضاء الخمسة ، وتخبرها بحادث سيواجه الجيش ، أو خطر سيحدق به .
الحرب خدعة :
وقد علَّم النبي صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة هذه العملية ، فكانوا ناجحين فيها ، وقد أصابوا المحز ، اقرأوا هذه القصة من غزوة الأحزاب من السيرة النبوية للإمام الندوي رحمه الله عليه :
” وبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيما وصف الله من الخوف والشدة ، إذ جاء نعيم بن مسعود الغطفاني ، فقال : يا رسول الله ! إني قد أسلمتُ ، وأن قومي لم يعلموا بإسلامي ، فمُرني ما شئتَ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما أنت فينا رجل واحد ، فخذِّل عنا إن استطعتَ ، فإن الحرب خدعة ، فخرج نعيم بن مسعود ، فأتى بني قريظة ، وتكلم معهم بكلام جعلهم يشكون في صحة موقفهم ، وولائهم لقريش وغطفان الذين ليسوا من أهل البلد ، وعدائهم للمهاجرين ، والأنصار ، الذين هم أهل الدار وجيرانهم الدائمون ، وأشار عليهم بألا يقاتلوا مع قريش وغطفان حتى يأخذوا منهم رهناً من أشرافهم ، يكونوا بأيديهم ثقةً لهم، فقالوا : لقد أشرتَ بالرأي .
ثم خرج حتى أتى قريشاً ، فأظهر لهم إخلاصه ونصيحته ، أخبرهم بأن اليهود قد ندموا على ما فعلوا ، وسيطلبون منهم رجالاً من أشرافهم تأميناً للعهد ، وسيسلمونهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه ، فيضربون أعناقهم ، ثم خرج إلى غطفان ، وقال لهم مثل ما قال لقريش ، فكان كلا الفريقين على حذر ، وتوغرت صدورهم على اليهود ، ودبت الفرقة بين الأحزاب ، وتوجس كل منهم خيفةً من صاحبه .
ولما طلب أبو سفيان ورؤوس غطفان معركةً حاسمةً بينهم وبين المسلمين تكاسل اليهود ، وطلبوا منهم رهناً على رجالهم ، فتحقق لقريش وغطفان صدق ما حدَّثهم به نعيم بن مسعود ، وامتنعوا عن تحقيق طلبهم ، وتحقق لليهود صدق حديثه ، وهكذا تخاذل بعضهم عن بعض وتمزق الشمل وتفرقت الكلمة ” ( السيرة النبوية : 269 ) .
هذا نوع من الحيلة والتدبير الذي دبَّره النبي صلى الله عليه وسلم لإطفاء نار الغضب للكفار واليهود وتشتيت شملهم ، فظهرت له نتائج حسنة وثمرات طيبة ، ونجد نماذجه كثيراً في السيرة النبوية ، وفي سيرة الصحابة رضي الله عنهم ، ولا مانع أن يكون مثل هذا الأمر في صالح الإسلام خلال الحروب والمعارك والظروف الطارئة ، لكن التجسس وسوء الظن وقفو الإنسان ما ليس له علم في عامة الأحوال حرام ، ويعتبر ذنباً كبيراً ، ويكون الإنسان الرفيع الشأن ، العظيم المنزلة مهاناً ذليلاً ، لا تزن درجته في أعين الناس مثقال خردل ، وقد أشار الله تعالى إلى هذا المرض المتفشي في المجتمع فقال : ( يا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ) ( الحجرات : 12 ) ، فالتجسس هو البحث عما خفي من الأمور ، ومنه الجاسوس الذي يطلع على الأمور الخفية ، والتجسس فيستعمل في الشر وفي الخير كليهما .
قرصنة لأعراض الناس :
إن نظام الجواسيس لإدارة الشئون وتدبير المنزل حاجة اجتماعية ، وكان هذا النظام قائماً منذ زمان في مختلف الشعوب والأمم ، فكان ذلك ذريعةً كبيرةً للوقاية من الإصابات والابتلاءات ، لكن هذا النظام الذي اخترعته الشركة الإسرائيلية باسم : بيغاسوس إنه ليس مجرد الاطلاع على الأمور السياسية السرية ، بل هو قرصنة لأعراض الناس وحرماتهم ، وخرق واسع لحقوق الإنسان ، وإفشاء سرايرهم على رؤوس الأشهاد ، وقد ابتليت الدول والحكومات والأفراد والأقوام بافتضاح أمورها ودقائقها ، فكان ذلك وصمة عار وشنار لها ، فلا بد من الوقاية من استخدام هذه البرمجية التجسسية في الأمور الشخصية ، ورفع أصوات واحتجاجات حسب النظام الجمهوري . ولنتذكر بهذه المناسبة أن هذا البرنامج إذا كان قد أحاط بكل شيئ من سرائر الإنسان ، فكيف بالكتاب الذي لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها ، وينكشف ذلك يوم تبلى السرائر فما له من قوة ولا ناصر . اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه .