الوقف الإسلامي لبنة صلبة في البناء الحضاري الإنساني

العملة الرقمية البيتكوين في ميزان الشريعة الإسلامية ( الحلقة الثانية )
يناير 14, 2024
العملة الرقمية البيتكوين في ميزان الشريعة الإسلامية
مارس 3, 2024
العملة الرقمية البيتكوين في ميزان الشريعة الإسلامية ( الحلقة الثانية )
يناير 14, 2024
العملة الرقمية البيتكوين في ميزان الشريعة الإسلامية
مارس 3, 2024

الفقه الإسلامي :

الوقف الإسلامي لبنة صلبة في البناء الحضاري الإنساني

( الحلقة الأولى )

د . محمد شعيب الدين *

الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإيمان وإحسان إلى يوم الدين . أما بعد . فلا يخفى على الباحثين والدارسين في ميدان الحضارة الإسلامية والشئون الاقتصادية ما انفرد به الإسلام من أنظمة وقوانين وتشريعات ، وكان ولا يزال لها الأثر البالغ في تطورها وتميزها من سائر أنظمة وقوانين الأديان والأمم الأخرى ، ومن ذلك نظام الوقف الذي يكتسب أهميةً بالغةً بما حقق من إنجازات وإسهامات حضارية على كافة المجالات الاجتماعية والاقتصادية ، وما لعب من دور بارز في إحداث البناء الحضاري والتقدم العلمي والاقتصادي ، وتوفير أهم مقومات البنية الأساسية من تعليم وصحة وإسكان وطرق ، ودعم النهضة الزراعية والتجارية والصناعية ، والعمل على زيادة إنتاجية المجتمع ، ورفع مستوى التشغيل فيه ، وتحقيق الكثير من متطلبات التنمية الاقتصادية من خلال أثره البارز في إعادة توزيع الدخل والثروات ، وتكوينه لموارد مالية تسهم من خلال نفقاتها على تخفيف الأعباء الملقاة على عاتق الدولة والقيام بها وتنفيذها . ألا وهو برهان ساطع ، ودليل قاطع على المكانة الكبيرة التي حظي بها الوقف الإسلامي لدى الباحثين الاقتصاديين .

مفهوم الوقف لغة :

ذكر ابن منظور في لسان العرب : ” الوقف بفتح الواو وسكون القاف ، مصدر وقف الشيئ وأوقفه بمعنى حبسه وأحبسه ، وتجمع على أوقاف ووقوف [1] . وسمي وقفاً لما فيه من حبس المال على الجهة المعينة . ويأتي الوقف لغةً على عدة معان ، منها : المنع من الحركة ومن التنقل والتداول . ويطلق الوقف أيضاً بالمعنى المصدري على الفعل والممارسة . كما يطلق على الذي وقع عليه الوقف أي الشيئ الموقوف . ومعنى الوقف قريب جداً من معنى الحبس لغةً واصطلاحاً ، بل إنهما في الاستعمال الاصطلاحي أصبحا مترادفين ، أصبحا يقوم أحدهما مقام الآخر [2] .

مفهوم الوقف شرعاً :

الوقف مصطلح فقهي شرعي يعبر به عن نوع خاص من التصدق والتبرع على سبيل الخير والإحسان ، فيطلق على الصدقات والتبرعات التي يكون لها بقاء واستمرار ، بحيث ينتفع بها الناس على مدى سنين . وهذا يعنى أن الوقف إنما يكون بأشياء يستفاد من نفعها وغلتها مع بقاء الشيئ نفسه واستمرار عينه مدة من الزمن تطول أو تقصر كالأرض والبناء والبئر والشجرة ، وكما يعبر عن هذا المعنى بالوقف ، كذلك يعبر عنه بالحبس أيضاً . فالوقف والحبس في اصطلاح الفقهاء مترادفان – كما اشرت إليه سابقاً – بل بعض الفقهاء يعتبرهما مترادفين لغةً واصطلاحاً . يقول الشيخ القاضي أبو عبد الله الرصاع : ” الفقهاء بعضهم يعبر بالحبس وبعضهم يعبر بالوقف ، والوقف عندهم أقوى في التحبيس ، وهما في اللغة لفظان مترادفان ، يقال : وقفته وأوقفته ، ويقال : حبسته . والحبس يُطلق على ما وقف ، ويطلق على المصدر وهو الإعطاء ، وكذلك في العرف الشرعي [3] .

اختلف العلماء في تعريف الوقف شرعاً تبعاً لآرائهم في مسائله الجزئية ، وأذكر فيما يلي أشملها : عرف العلامة الزركشي في شرح مختصر الخرقي : ” الوقف هو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة ” [4] .

وشبيه ذلك ما جاء في فقه السنة للسيد سابق ، وفي الشرع :        ” حبس الأصل وتسبيل الثمرة ” [5] . ( أي حبس المال وصرف منافعه في سبيل الله . ويؤيد هذا المفهوم ما رواه عبدالله بن عمر – رضي الله عنه – أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أصاب أرضاً بخيبر ، فأتى النبيّ – صلى الله عليه وسلم – يستأمره فيها ، فقال : يا رسول الله ! أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط أنفس عندي منه ، فما تأمر به ؟ قال : ” إن شئت حبست أصلها ، وتصدقت بها ” وفي رواية : حبّس أصله ، وسبل ثمرته ” [6] . والتحبيس من الحبس معناه المنع ، ويقصد به إمساك العين ومنع تملكها بأيّ سبب من أسباب التمليك [7] .

والمراد من الأصل : العين الموقوفة . ومعنى تسبيل المنفعة أي : إطلاق فوائد العين الموقوفة وعائداتها للجهة المقصودة من الوقف والمعنية به [8] .

أهمية الوقف في ضوء القرآن والسنة :

شرع الله سبحانه وتعالى الوقف في الشريعة الإسلامية وندب إليه وجعله قربةً من القرب التي يتقرب بها إليه ، ولم يكن أهل الجاهلية يعرفون الوقف ، وإنما استنبطه الرسول – صلى الله عليه وسلم – ودعا إليه وحبب فيه براً بالفقراء وعطفاً على المحتاجين . ودلت كثير من الآيات القرآنية والسنة النبوية وأعمال الصحابة رضي الله عنهم على أهمية الوقف ومشروعيته وأنه من سبيل الله تعالى .

الأدلة من القرآن على مشروعية الوقف :

لم يرد نص صريح في القرآن الكريم حول الوقف ، وإنما جاءت فيه نصوص عامة تشمل جميع أنواع الخير والبر والإحسان بما فيها الوقف وغيره ، منها : قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱرْكَعُواْ وَٱسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَٱفْعَلُواْ ٱلْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) [ الحج : 77 ] ، الوقف أو التحبيس هو من أعظم أنواع الخير الذي أرشدت إليه هذه الآية ؛ لأنه يطول نفعه ويكثر المستفيدون منه عبر العصور . ومنها قوله تعالى : ( لَنْ تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ) [ آل عمران : 92 ] ، وأكثر ما يحب الإنسان من ماله وثروته ما يكون أصلاً ويبقى ويدوم كالدور والأراضي والأشجار وغيرها . فالآية الكريمة ترغب المؤمنين وتشجعهم على أن ينفقوا من أحب أموالهم إليهم . ومنها قوله تعالى : ( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِى ٱلْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ ) [ يس : 12 ] ، فيرشد الله في هذه الآية أنه يكتب أفعال العباد ، وكذلك يكتب الآثار التي تنجم عن أفعالهم ، سواء في حياتهم أو بعد مماتهم ، وسواء كانت خيراً أو شراً . ولا ريب في أن الأملاك والأموال الموقوفة أو المحبسة تبقى آثارها الطيبة بعد موت صاحبها ، ويستمر ويدوم ثوابها مادام لها نفع لأحد من عباد الله أو من عامة خلقه .

الأدلة من السنة على مشروعية الوقف :

دل كثير من النصوص الحديثية على مشروعية الوقف والندب إليه ، وأنه من سبيل الله تعالى . ومن هذه النصوص :

(1) ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له [9] .

فالرسول صلى الله عليه وسلم قد حث المسلمين في هذا الحديث الشريف على أن يجعلوا لأنفسهم صدقات جاريةً بعد موتهم ، تعود على عموم المسلمين بالنفع وتعود عليهم بالأجر حتى بعد موتهم .

(2) ما رواه عبدالله بن عمر رضي الله عنهما ” أن عمر أصاب أرض خيبر ، فقال : يا رسول الله ! إني أصبت أرضاً بخيبر ، لم أصب مالاً قط أنفس عندي منه ، فما تأمرني ؟ قال : إن شئت حبست أصلها ، وتصدقت بها ، غير أنه لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث . فتصدق بها في الفقراء وفي القربى ، وفي الرقاب ، وابن السبيل ، والضيف ، لا جناح على من وليها أن يأكل منها أو يطعم صديقاً بالمعروف غير متأثل فيه أو غير متمول فيه ” [10] .

(3) عن عمرو بن الحارث بن المصطلق رضي الله عنه قال : ” ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بغلته البيضاء وسلاحه وأرضاً تركها صدقة ” [11] .

(4) وعن أنس رضي الله عنه قال : ” كان أبو طلحة أكثر أنصاري بجوار المدينة مالاً ، وكان أحب أمواله إليه ( بيرحاء ) ( بستان من نخيل قرب المسجد النبوي ) ، فلما نزلت هذه الآية : ( لَنْ تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ) قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن الله تعالى يقول في كتابه : ( لَنْ تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ) وإن أحب أموالي إليّ بيرحاء ، وإنها صدقة لله ، أرجو برها وذخرها عند الله ، فضعها يا رسول الله حيث شئت . . . ” [12] .

(5) عن عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وليس به ماء يستعذب غير بئر رومة فقال : من يشتري بئر رومة فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة ؟ فاشتريتها من صلب مالي ” [13] .

وقد روي أن هذه البئر كانت لرجل من بني غفار ، وكان يبيع منها القربة بمدّ . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ” تبيعها بعين في الجنة ” ؟ فقال : يا رسول الله ! ليس لي ولعيالي غيرها . فبلغ ذلك عثمان فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم . ثم أتى النبي فقال : أتجعل لي ما جعلت له ؟ قال : ” نعم ” ، قال : قد جعلتها للمسلمين ” [14] .

ومنذ أن أرشد النبي صلى الله عليه وسلم صحابته إلى التحبيس وفضله وهم يحرصون عليه ويجعلون أموالهم وممتلكاتهم فيه حتى قال جابر : ” لم يكن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذا مقدرة إلا وقف ” [15] .

ويقول الإمام أحمد رحمه الله في رواية حنبل : ” قد وقف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقوفهم بالمدينة ظاهرة ، فمن رد الوقف فإنما رد السنة ” [16] .

بعض الأحكام المتعلقة بالوقف :

سأتناول في هذا المبحث بعض الأحكام المتعلقة بالوقف الإسلامي من حكم الوقف وزوال ملكيته وما يصح وقفه وما لا يصح .

(أ) – حكم الوقف وزوال ملكيته :

إذا وقع الوقف على شكل تام صحيح ، فإنه يزيل ملكية الوقف عما وقفه ، وهذا مذهب جمهور الفقهاء . قال ابن قدامة : ” الوقف إذا صحّ زال به ملك الوقف عنه في الصحيح من المذهب ، وهو المشهور من مذهب الشافعي ، ومذهب أبي حنيفة ” [17] .

قد اختلف العلماء في حكم الوقف هل هو لازم أم جائز ، على القولين : القول الأول : مذهب جمهور العلماء ومذهب الصاحبين بأن الوقف لازم بمجرد صدوره من الواقف ، وليس له رجوع فيه . والقول الثاني : هو مذهب أبي حنيفة وزفر بن الهذيل بأن يجوز الرجوع فيه للواقف [18] .

والصحيح أنه لا يجوز الرجوع في الوقف بعد الإقدام عليه كما قال الإمام الشوكاني : ” فالحق أن الوقف من القربات التي لا يجوز نقضها بعد فعلها لا للواقف ولا لغيره ” [19] .

(ب) – ما يصح وقفه وما لا يصح :

مما لا خلاف فيه بين الفقهاء بأن الوقف يصح في الأصول مثل : الأراضي ، والأبنية ، والأشجار ، والآبار . . . ؛ لأن مثل هذه الممتلكات وردت بها نصوص شرعيّة ، ولأن خصوصية الوقف وحكمته تتحقق فيه بشكل ظاهر وتام لا غبار عليه . واختلف الفقهاء حول الأموال المنقولة كالحيوان ، والثياب ، والنقود ، والكتب ، والمواد الغذائية ، والآلات الصناعية والقتالية . . . هل يصح وقفها أم لا ؟ بل تكون صدقةً عاديةً لا تجري عليها أحكام الوقف . والقول الجامع في هذا الباب هو ما ذهب إليه العلامة ابن قدامة حيث قال : ” وجملة ذلك أن الذي يجوز وقفه ما جاز بيعه وجاز الانتفاع به مع بقاء عينه ، وكان أصلاً يبقى بقاءً متصلاً كالعقار ، والحيوانات والسلاح والأثاث وأشباه ذلك ” [20] . بمعنى أن ما لا يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه كالدنانير والدراهم والمطعوم والمشروب والشمع وأشباهه لا يصح وقفه حسب قول عامة الفقهاء وأهل العلم [21] .

وقد وردت نصوص تؤيد القول بصحة وقف الأموال المنقولة التي ينتفع بها مع بقائها مدةً من الزمن بالأدلة الآتية من الأحاديث : ما رواه     أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً بالله وتصديقاً بوعده ، فإن شِبعه ورِيَّه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة ” [22] .

وقد احتبس خالد بن الوليد أدراعه وأعتاده في سبيل الله . قال الحافظ ابن حجر : واستدل بقصة خالد على مشروعية تحبيس الحيوان ” [23] .

( للبحث صلة )

* المحاضر بقسم الدعوة والدراسات الإسلامية ، الجامعة الإسلامية العالمية شيتاغونغ ، بنغلاديش .

[1] ابن منظور لسان العرب ، ط 1 ، بيروت – لبنان : دار صادر ، ج 9 ، ص 359 .

[2] الريسونى ، 2014م ، الوقف الإسلامي مجالاته وأبعاده ، ط 1 ، القاهرة – مصر ، دار الكلية للنشر ، ص 13 .

[3] الأنصاري ، شرح حدود ابن عرفة ، ط 1 ، المغرب ، ص 581 .

[4] الزركشي ، شرح الزركشي على مختصر الخرقي ، ج 4 ، ط 1 ، الرياض – السعودية ، دار العبيكان ، ص 268 .

[5] سابق ، سيد ، فقه السنة ، ط 7 ، بيروت – لبنان ، دار الكتاب العربي ، ج 3 ، ص 516 .

[6] أخرجه البخاري ، 1409هـ ، صحيح البخاري ، ط 2 ، القاهرة – مصر ، دار الريان          ( 2772 ) ، ومسلم بن الحجاج ، صحيح مسلم ، بيروت – لبنان ، دار إحياء الكتب العربية ،     ( 1632 ) باختلاف يسير .

[7] البهوتي ، كشاف القناع على متن الإقناع ، مكة المكرمة ، مطبعة الحكومة ، ج 2 ، ص 489 .

[8] المرجع السابق ، ج 4 ، ص 267 .

[9] صحيح مسلم ، ( 1631 ) .

[10] صحيح البخاري ، ( 2586 ) .

[11] صحيح البخاري ( 2718 ) .

[12] صحيح البخاري ( 1461 ) ، ومسلم ( 998 ) .

[13] الشوكاني ، نيل الأوطار شرح متنقى الأخبار ، القاهرة – مصر ، دار الحديث ، ج 6 ، ص 21 .

[14] المرجع نفسه .

[15] المرجع السابق ، ج 6 ، ص 24 .

[16] المقدسي ، ابن قدامة ، المغني ، القاهرة : نشر هجر للطباعة ، 1992هـ ، ج 8 ، ص 185 .

[17] المرجع نفسه .

[18] راجع : السرخسي ، محمد ابن أحمد شمس الأئمة ، المبسوط ، ج 12 ، ص 28 .

[19] الشوكاني ، نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار ، ج 6 ، ص 23 .

[20] المقدسي ، ابن قدامة ، المغني ، المصدر السابق ، ج 8 ، ص 231 .

[21] المرجع السابق ، ص 229 .

[22] صحيح البخاري ، ( 1330 ) .

[23] العسقلاني ، ابن حجر ، فتح الباري بشرح صحيح البخاري ، القاهرة : المطبعة السلفية ، ط 1 ، د . ت ، ج 6 ، ص 96 .