سورة التحريم : دلالاتها وما يستفاد منها
أبريل 28, 2025النظافة في الحياة البشرية
من خلال المصادر الإسلامية والدراسات الحديثية
( الحلقة الخامسة الأخيرة )
د . يوسف محمد الندوي *
تنظيف الثياب عنصر مهم للحياة الصحية ، لأن الملابس تكون دائمةً ملتصقةً بالجسم الذي يرتديه الإنسان ، إن كانت ملوثةً وهي تؤثر في صحة الجسم أيضاً ، وتكون سبباً لدخول الميكوربات والعدوى إلى الجسم خارجاً وداخلاً . قال الله تعالى مخاطباً للرسول صلى الله عليه وسلم : ( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ) [1] أي طهر ثيابك من النجاسات والمستقذرات فإن المؤمن طاهر لا يليق منه أن يحمل الخبيث .
يقول الإمام فخر الدين الرازي في تفسير هذه الآية قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كان المشركون ما كانوا يصونون ثيابهم عن النجاسات ، فأمره الله تعالى بأن يصون ثيابه عن النجاسات [2] .
إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحث كثيراً على تنظيف الملابس ، مرةً رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من المسلمين ما كانت ثيابه نظيفةً فاستاءه فقال لأصحابه : أما يجد هذا ما يغسل به ثوبه ؟ نص الحديث كما يلى :
عن جابر رضي الله عنه قال أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى رجلاً شعثاً قد تفرق شعره فقال : أما كان يجد هذا ما يسكن به شعره ورأى رجلاً آخر وعليه ثياب وسخة فقال : أما كان يجد هذا ما يغسل به ثوبه [3] ؟
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ؛ فقال له رجل يا رسول الله ! إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً فهل هذا كبر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله جميل يحب الجمال ، الكبر بطر الحق وغمط الناس [4] .
لا يقبل الله سبحانه وتعالى من المؤمن وضوءه ولا صلاته إذا كان ثوبه قذراً متنجساً ؛ قد أجمع الفقهاء على لزوم طهارة الثياب والمكان والجسم عند الصلاة وإذا صلى واحد لابساً الثوب المتنجس أو في مكان متنجس أو حامل نجس اختياراً مع علمه بالنجاسة بطلت صلاته ، ويجب عليه أن يعيد الصلاة بثوب طاهر ، في مكان نظيف ، ببدن صاف .
ومن المعلوم أن الأمراض الموسمية وغيرها تنتشر عادةً لعدم الاحتياط في نظافة الطعام والشراب ، فلا بد من الاعتناء بنظافة المأكولات والمشروبات لبناء الصحة في المجتمع ، قد اهتم القرآن والحديث بهذا الشأن اهتماماً بالغاً .
قال الله تعالى : ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهم فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهم عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) [5] ، ( يَا أيهَا الَّذِينَ أمنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ أياهُ تَعْبُدُونَ ) [6] ، ( كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَارَزَقْنَاكُمْ ) [7] ، ( كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى ) [8] .
هذه الآيات المذكورة كلها تقول للإنسان أن يأكل الطيبات من الطعام فقط ؛ أما العاملة الأساسية في الطيبات هي النظافة والصفاء .
أمر النبي صلى الله عليه وسلم لغطاء الآنية ولا يتركها مكشوفةً للأتربة والذباب والميكروبات ، حيث قال صلى الله عليه وسلم : عن جابر ابن عبد الله ، يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا كان جنح الليل أو أمسيتم فكفوا صبيانكم ، فإن الشياطين تنتشر حينئذ ، فإذا ذهبت ساعة من الليل فخلوهم ، وأغلقوا الأبواب ، واذكروا اسم الله ، فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً ، وأوكوا قربكم ، واذكروا اسم الله ، وخمروا آنيتكم ، واذكروا اسم الله ، ولو أن تعرضوا عليه شيئاً ، وأطفئوا مصابيحكم [9] .
عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أطفئوا المصباح واذكروا اسم الله وخمِّروا الآنية ولو أن تعرضوا عليها بعود ، واذكروا اسم الله [10] .
عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : غطوا الإناء وأوكوا السقاء ، فإن في السنة ليلة ينزل فيها وباء لا يمر بإناء ليس عليه غطاء أو سقاء ليس عليه وكاء إلا نزل فيه من ذلك الوباء [11] .
عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء ، وإذا بال أحدكم فلا يمسح ذكره بيمينه وإذا تمسح أحدكم فلا يتمسح بيمينه [12] .
نهى الحديث النبوي بشدة عن تلويث مصادر المياه ؛ وحرم التبول أو التبرز فيها واعتبر ذلك مجلبةً للعنة الله عز وجل ، قد جاء هناك أحاديث متنوعة عن تلويث مصادرالمياه ، منها ما يلي :
عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : اتقوا الملاعن الثلاث : البراز في الموارد ، وفي الظل ، وفي طرق الناس [13] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً : لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغسل فيه [14] .
ومن المعروف أن الكثير من الأوبئة مثل الكوليرا والتيفود وشلل الأطفال والتهاب الكبد المعدى قد تنتقل بالماء وتعيش فيه . وإن البلهارسيا تنتقل إلى الماء عند التبول فيه ، وبعد أن تتطور في الماء تنتقل إلى من يستحم به أو يشرب منه ، أما الانكلتوما فإنها تخرج مع البراز وتعيش في الطين قرب الشاطئ إلى أن تصل إلى جسم السليم ، ولهذه الأسباب يعتبر فقهاء الإسلام أن الماء الذي يصيبه البول نجس ولا يجوز الوضوء به أو الاستحمام فيه أو الشرب منه [15] .
البيت مركز الأسرة وملجأها فلا بد أن يكون البيت نظيفاً لصحة أفرادها ولسلامتها العامة ، فقد اهتم القرآن الكريم والحديث النبوي بشأن نظافة البيوت اهتماماً بالغاً .
قال الله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) [16] .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى طيب يحب الطيب ، نظيف يحب النظافة ، كريم يحب الكرم ، جواد يحب الجود فنظفوا أفنيتكم ولا تشبهوا باليهود [17] .
يحث هذا الحديث النبوي بشأن نظافة البيت وما حولها بأبلغ صورة وأكمل هيئة ينبغي كنس المسكن أو غسله وما حوله ، إن نظافة الطرق العامة مسؤولية كل فرد في المجتمع ، لذلك يجب على كل أسرة أن تنظف أمام مسكنها ؛ ويجب عدم إلقاء القاذورات أمام المسكن وعدم البصق في الطريق ، إذا قام كل فرد بدوره في النظافة وجد إنسان نظيف ومسكن نظيف وطعام نظيف وشراب نظيف وشارع نظيف وبيئة نظيفة .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : من زحزح عن طريق المسلمين شيئاً يؤذيهم كتب الله له به حسنةً ، ومن كتب له عنده حسنة دخل الله بها الجنة [18] .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاث مائة مفصل ، فمن كبر الله وحمد الله وهلل الله وسبح الله واستغفر الله وعزل حجراً عن طريق الناس أو شوكةً أو عظماً عن طريق الناس وأمر بمعروف أو نهى عن منكر ، عدد تلك الستين والثلاثمائة السلامى فإنه يمشي يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار [19] .
قال الله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) [20] ، ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ) [21] ، ( وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) [22] .
والأحاديث المذكورة في الأبواب السابقة داخلة في هذا الباب . الطرق والشوارع أكثر الناس معاملة وإن لم تكن نظيفة تسبب ذلك لانتشار الأمراض والأسقام ، فلابد لكل فرد من المجتمع مراعاة نظافة الطرق والشوارع .
من روائع تعاليم القرآن والسنة أنها تأمر الناس أن لا يظلموا أحداً ولا يضروا ، ( وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) [23] ، ( إنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) [24] ، ( وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) [25] .
ومما لا شك ولا ريب أن إلقاء الزبالة والقاذورات على الشوارع يضر الماشين بها ، فإلقاء بقية السيجارة والأوراق والأكياس البلاستيكية المتروكة في الطرق والشوارع تشمل من الأنواع المضرة للصحة الإنسانية وللصحة العامة .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : إياكم والجلوس في الطرقات ؛ قالوا يا رسول الله ! ما لنا بد من مجلسنا نتحدث فيها ؟ قال ، فإذا أبيتم إلا الجلوس فأعطوا الطريق حقه . قالوا وما هو حقه ؟ قال : غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر [26] .
نهى الحديث النبوي عن التبول والتبرز في الشوارع والطرقات العامتين وقد عدها الرسول صلى الله عليه وسلم مجلبةً لعنة الناس حيث يقول : اتقوا الملاعين الثلاث : البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل [27] ، وجدران البيوت والدكاكين ومحطة الباص والقطار والمطار والحديقة كلها في مقام الظل ؛ نهى الرسول صلى الله علي وسلم عن البصاق في المسجد أيضاً يدخل في هذا السبيل .
عن أنس بن مالك يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : التفل في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها [28] .
إن كانت الأرض المقصودة في الحديث أرض المسجد وهي شاملة على كل مكان يحشر فيها الناس من الطرق والشوارع ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصف الأرض مسجداً ، كما جاء في الحديث التالي :
عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فضلت بأربع جعلت الأرض لأمتي مسجداً وطهوراً وأرسلت إلى الناس كافةً ونصرت بالرعب من مسيرة شهر يسير بين يدي وأحلت لأمتي الغنائم [29] .
عن حذيفة بن أسيد أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم [30] .
الخاتمة :
في ختام هذا البحث ، يتضح أن النظافة في الإسلام ليست مجرد أمر صحي ، بل هي عبادة وقيمة أخلاقية تتجذر في عمق التعاليم الإسلامية . تبرز النصوص القرآنية والأحاديث النبوية أهمية النظافة بجميع أشكالها ، وتحث الناس على الالتزام بها في كل جانب من جوانب حياتهم . من خلال اتباع هذه التعاليم ، يمكن للمسلمين أن يحققوا توازناً بين الصحة الجسدية والروحانية ، وأن يسهموا في بناء مجتمع نظيف ومزدهر . إن استيعابنا لهذه القيم وتطبيقها يعزز من فهمنا العميق لرسالة الإسلام ويجعلنا قادرين على العيش في تناغم مع أنفسنا ومع البيئة المحيطة بنا . بذلنا المحاولة لعرض النواحي الصحية للنظافة الإسلامية التي يقدمها كتاب العزيز الرحيم والسنة النبوية المطهرة ، إن للنظافة الإسلامية فوائد كبيرة في حفظ صحة الإنسان وفي تنظيم حياته الفردية والعائلية والاجتماعية حياة هنيئة سليمة ، ولله الذي هدانا إلى الدين القيم المستقيم .
* الأمين العام لرابطة الأدب الإسلامي فرع كيرلا ، الأستاذ المساعد ، كلية الفنون والعلوم لدار الأيتام المسلمين بوايناد ، كيرلا ، الهند .
[1] سورةالمدثر : 4 .
[2] تفسير الرازي : 16/131 .
[3] سنن أبو داود ، رقم الحديث : 3540 .
[4] صحيح مسلم ، رقم الحديث : 131 .
[5] سورة الإسراء : 70 .
[6] سورة البقرة : 172 .
[7] سورة البقرة : 57 .
[8] سورة طه : 81 .
[9] الدعوات الكبير للبيهقي : 2/21 .
[10] المنتقى من عمل اليوم والليلة ، النسائي : 2/21 .
[11] صحيح مسلم ، رقم الحديث : 3758 .
[12] صحيح البخاري ، رقم الحديث : 5199 .
[13] سنن أبو داود ، رقم الحديث : 24 .
[14] صحيح البخاري ، رقم الحديث : 232 .
[15] Kudumbavikchanakosham, p; 234 manas foundation , perumpavoor
[16] سورة البقرة : 222 .
[17] سنن الترمذي : 2723 .
[18] مسند أحمد ، رقم الحديث : 26207 .
[19] صحيح مسلم ، رقم الحديث : 1675 .
[20] سورة البقرة : 222 .
[21] سورة البقرة : 11 .
[22] سورةالأعراف : 55 .
[23] سورة آل عمران : 57 .
[24] سورة آل عمران : 140 .
[25] سورة الشورى : 40 .
[26] صحيح مسلم ، رقم الحديث : 3960 .
[27] سنن ابن ماجه ، رقم الحديث : 323 .
[28] صحيح مسلم ، رقم الحديث : 857 .
[29] مسند أحمد ، رقم الحديث : 21183 .
[30] المعجم الكبير للطبراني ، رقم الحديث : 2979 .