العلاقة بين العرب والهند قديماً وحديثاً
نوفمبر 10, 2020مشكلات اللاجئين ( عبر العالم ) في ضوء الكتاب والسنة
نوفمبر 10, 2020دراسات وأبحاث :
المنهج البلاغي في التفسير وأعلامه
إشارة خاصة إلى تفسير الكشاف للزمخشري
الدكتورة نور أفشان *
المنهج البلاغي في التفسير :
المنهج البلاغي هو المنهج الذي تدور مباحثه حول بلاغة القرآن في صوره البيانية من تشبيه واستعارة وكناية وتمثيل ووصل وفصل وما يتفرع من ذلك من استعمال حقيقي أو استخدام مجازي أو استدراك لفظي ، أو استجلاء للصورة أو تقويم للبنية ، أو تحقيق في العلاقات اللفظية والمعنوية أو كشف الدلالات الحالية والمقالية . والبحث في هذا الجانب يعد بحثاً أصلاً في جوهر الإعجاز القرآني ومؤشراً دقيقاً في استكناه البلاغة القرآنية [1] .
أشهر المفسرين لهذا الفن البلاغي :
ومن أشهر مفسري هذا الفن هو أبو عثمان الجاحظ ( ت 255هـ ) إذ خصص كثيراً من مباحثه في كتابه ( نظم القرآن ) إلى استيفاء مجال العبارة واستخراج ما فيه من مجاز وتشبيه بمعانيها الواسعة غير المحدودة ، إلا أن هذا العرض من قبل الجاحظ جاء مجزأً ومفرقاً ، ولم يكن متفرغاً للقرآن كله ، بل لبعض من آياته كما يبدو ، وذلك من خلال معالجته البيانية في ( نظم القرآن ) والبيان والتبيين للجاحظ !
ولكن عند ظهور الشيخ عبد القاهر الجرجاني ( ت 471هـ ) في كتابيه : ” دلائل الإعجاز ” و ” أسرار البلاغة ” فكانت الحال مختلفة ، فالجرجاني عالم واسع الثقافة مرهف الحس ، متوقد الذكاء ، وقد استخدم ذلك في استنباط الأصول الاستعارية والأبعاد التشبيهية ، والمعالم المجازية لآيات القرآن الكريم وأخضعها باعتبارها نماذج حيةً للتطبيق العلمي ، فهو بذلك أوسع بكثير من سابقه الجاحظ في هذا المضمار ، إلا أن الصورة التكاملية للقرآن مفقودة في كلا الكتابين على عظم قدرها البلاغي ، مفتقرة إلى السعة لتشمل القرآن أجمع .
إلا أن ظهور جار الله الزمخشري ( ت 538هـ ) فتح لنا عمق دراسة جديدة في البلاغة القرآنية التطبيقية ، انتظمت على ما ابتكره عبد القاهر الجرجاني ، وما أضاف إليه من نكت بلاغية ، ومعان إعجازية اعتمدت المناخ الفني فعاد تفسيره المسمى ” الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ” كنزاً من المعارف لا تنتهي فرائده .
اهتمام الزمخشري بالناحية البلاغية للقرآن :
عندما يلقى القارئ نظرةً فاحصةً على العمل التفسيري الذي قام به العلامة الزمخشري في كشافه ، يظهر له من أوّل وهلة ، أن المبدأ الغالب عليه في جهوده التفسرية ، كان في تبيين ما في القرآن من الثروة البلاغية التي كان لها أثر كبير في عجز العرب عن معارضته والإتيان بأقصر سورة من مثله . والّذي يقرأ ما أورده الزمخشري عند تفسيره لكثير من الآيات من ضروب الاستعارات ، والمجازات ، والأشكال البلاغية الأخرى ، يرى أن الزمخشري كان يحرص كل الحرص على أن يبرز في حلة بديعة جمال أسلوبه وكمال نظمه ، ونقول بكل ثقة : – إذا استعرضنا كتب التفسير وتأملنا مبلغ عنايتها باستخراج ما يحتويه القرآن من ثروة بلاغية في المعاني والبيان – بأنه لا يوجد تفسير أوسع مجالاً في جهوده في هذا الباب من تفسير الزمخشري .
ولقد كان لاهتمام الزمخشري بهذه الناحية في تفسيره أثر عميق بين المفسرين وبين مواطنيه من المشارقة ما هو واضح وبين . أمّا أثر الكشاف من الناحية البلاغية بين المفسرين ، فإن كل من جاء بعده منهم – حتى من أهل السنة – استفادوا من تفسيره ، لأن فيه فوائد كثيرة ، فأوردوا في تفسيرهم ما ساقه الزمخشري في كشافه من ضروب الاستعارات ، والمجازات والأشكال البلاغية الأخرى . واعتمدوا على ما فيه من نكت بلاغية تكشف عما دق من براعة نظم القرآن وحسن أسلوبه .
ويقول الدكتور ذهبي :
” وليس عجيباً أن يعتمد خصوم الزمخشري كغيرهم على كتاب الكشاف ، وينظروا إليه كمرجع مهم من مراجع التفسير في هذه الناحية ، بعد ما قدروا هذه الناحية البلاغية في تفسير القرآن وبعد ما علموا أن الزمخشري هو سلطان هذه الطريقة غير مدافع ” [2] .
وأمّا أثره بين مواطنيه من المشارقة ، فإنهم أخذوا عنه هذا الفن البلاغي وبرعوا فيه حتى سبقوا من عداهم من المغاربة [3] .
ويبين ابن خلدون في مقدمته عند الكلام عن علم البيان ما لتفسير الزمخشري من الأثر في براعة المشارقة في هذا الفن فيقول :
” . . . . . وبالجملة ، المشارقة على هذا الفن أقوم من المغاربة . وسببه والله أعلم – أنه كما لي في العلوم اللسانية ، والصنائع الكمالية توجد في العمران والمشرق أوفر من المغرب كما ذكرنا ، أو نقول لعناية العجم – وهم معظم أهل المشرق – فتفسير الزمخشري وهو كله مبني على هذا الفن وهو أصله ” [4] .
ونستعرض هذه الروح البلاغية التي تسود في تفسير الزمخشري فنشهدها واضحة من أوّل الأمر عندما تكلم عن قوله تعالى في الآية (2) من سورة البقرة ( هدى للمتقين ) ، فبعد ذكر كل الاحتمالات التي تجوز في محل هذه الجملة من الإعراب ، نبه على أن الواجب على مفسر كلام الله سبحانه وتعالى أن يلتفت كل الالتفات للمعاني ويحافظ عليها ، ويجعل الألفاظ تبعاً لها ، فقال كما جاء في نصه ” . . . والّذي هو أرسخ عرقاً في البلاغة أن يضرب عن هذه المحال صفحاً ، وأن يقال : إن قوله ( ألم ) جملة برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها ( وذلك الكتاب ) جملة ثانية ( ولا ريب فيه ) ثالثة ( وهدى للمتقين ) رابعة ، وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة ، وموجب حسن النظم ، حيث جيئ بها متنافسة هكذا من غير حرف نسق ، وذلك لمجيئها متآخية آخذاً بعضها بعنق بعض ، فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها . . . . وهلم جراً إلى الثالثة والرابعة . بيان ذلك . أنه نبه أوّلاً على أنه الكلام المتحدى به . ثمّ أشير إليه بأنه الكتاب المبعوث بغاية الكمال ، فكان تقريراً لجهة التحدي ، وشداً من أعضاده ، ثمّ نفي عنه أنه يتشبث به طرفاً من الريب ، فكان شهادةً و تسجيلاً بكماله ؛ لأنه لا كمال أكمل مما للحق واليقين ولا نقص أنقص ما للباطل والشبهة ، وقيل لبعض العلماء : فيم لذتك ؟ فقال : في حجة تتبختر اتضاحاً ، وفي شبهة تتضاءل افتضاحاً . ثمّ أخبر عنه بأنه هدى للمتقين ، فقرر بذلك كونه يقيناً لا يحوم الشك حوله ، وحقاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ثمّ لم تخل كل واحدة من الأربع بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق ، ونظمت هذا النظم السري ، من نكتة ذات جزالة ، ففي الأولى : الحذف ، والرمز إلى الغرض بألطف وجه وأرشقه ، وفي الثانية : ما في التعريف من الفخامة . وفي الثالثة : ما في تقديم الريب على الظرف وفي الرابعة : الحذف ، وضع المصدر الذي هو هدى موضع الوصف الذي هو هاد ، وإيراده منكراً ، والإيجاز في ذكر المتقين . زادنا الله اطلاعاً على أسرار كلامه ، وتبيناً لنكت تنزيله ، وتوفيقاً للعمل بما فيه [5] .
أقوال العلماء عن الكشاف والزمخشري :
فهناك عديد من أقوال العلماء عن الكشاف والزمخشري فنجد الشيخ حيدر الهروي – أحد العلماء الذين علقوا على الكشاف – وصفاً عميقاً لكتاب الكشاف ، وهذا نصه :
” . . . . وبعد ، فإن كتاب الكشاف ؛ كتاب عليُّ القدر رفيع الشأن ، لم ير مثله في تصانيف الأولين ، ولم يرد شبيهه في تآليف الآخرين . اتفقت على متانة تراكيبه الرشيقة كلمة المهرة المتقين واجتمعت على محاسن أساليبه الأنيقة ألسنة الكلمة المفلقين . ما قصر في قوانين التفسير ، ولو فرض أنه لا يخلو عن النقير والقطمير ، إذا قيس به لا تكون له تلك الطلاوة . ولا يوجد فيه شيئ من تلك الحلاوة ، على أن مؤلفه يقتفي أثره ويسأل خبره . وقلما غير تركيباً من تراكيبه إلا وقع في الخطأ والخطل . وسقط من مزالق الخبط والزلل ، ومع ذلك كله إذا فتشت عن حقيقة الخبر ، فلا عين منه ولا أثر : ولذلك قد تداولته أيدي النظار فاشتهر في الأقطار ، كالشمس في وسط النهار ، إلا أنه لإخطائه سلوك الطرق الأدبية ، وإغفاله عن إجمال أرباب الكمال أصابته عين الكلالة . فالتزم في كتابه أموراً أذهبت رونقه وماءه ، وأبطلت منظره ورواءه ، فتكدرت مشارعه الصافية ، وتضيقت موارده النافعة ، وتزلزلت رتبه العالية ” [6] .
ويصف أبو حيان صاحب البحر المحيط الزمخشري بقوله :
” هذا الرجل وإن كان أوتي من علم القرآن أوفر حظ ، وجمع بين اختراع المعنى وبراعة اللفظ ، ففي كتابه في التفسير أشياء منتقدة ” [7] .
وهذا هو العلامة ابن خلدون ، نجده عندما تكلم عن القسم الثاني من التفسير وهو ما يرجع إلى اللسان ، من معرفة اللغة والإعراب والبلاغة في تأدية المعنى بحسب المقاصد والأساليب يقول : ومن أحسن ما اشتمل عليه هذا الفن من التفاسير كتاب الكشاف للزمخشري ، من أهل خوارزم العراق ، إلا أن مؤلفه من أهل الاعتزال في العقائد فيأتي بالحجاج على مذاهبهم الفاسدة حيث تعرض له في آي القرآن من طرق البلاغة ، فصار بذلك للمحققين من أهل السنة انحراف عنه ، وتحذير للجمهور من مكامنه ، مع إقرارهم برسوخ قدمه فيما يتعلق باللسان والبلاغة ، وإذا كان الناظر فيه واقفاً مع ذلك على المذاهب السنية ، محسناً للحجاز عنها ، فلا جرم أنه مأمون من غوائله ، فلتغتنم مطالعته لغرابة فنونه في اللسان . وقد وصل إلينا في هذه العصور تأليف لبعض العراقيين ، وهو شرف الدين الطيبي من أهل تورفير ، من عراق العجم ، شرح فيه كتاب الزمخشري هذا ، وتتبع ألفاظه ، وتعرض لمذاهبه في الاعتزال بأدلة تزيفها وتبين أن البلاغة إنما تقع في الآية على ما يراه أهل السنة لا على ما يراه المعتزلة ، فأحسن في ذلك ما شاء مع إمتاعه في سائر فنون البلاغة ، وفوق كل ذي علم عليم [8] .
وأخيراً . . . فهذا هو العلامة تاج الدين السبكي يقول في كتابه : ” معيد النعم ومبيد النقم ” :
“واعلم أن الكشاف كتاب عظيم في بابه ، ومصنفه إمام في فنه إلا أنه رجل مبتدع متجاهر ببدعته ، يضع من قدر النبوة كثيراً ، ويسيئ أدبه على أهل السنة والجماعة والواجب كشط ما في الكشاف من ذلك كله ” [9] .
فهذه هي شهادات وأقوال بعض العلماء في تفسير الكشاف بما له وما عليه ، ومهما يكن من شيئ ، فالكل مجمع عن أن الزمخشري هو سلطان الطريقة اللغوية في تفسير القرآن ، وبها أمكنه أن يكشف عن وجه الإعجاز فيه ، ومن أجلها طار كتابه في أقصى المشرق والمغرب ، واشتهر في الآفاق ، واستمد كل من جاء بعده من المفسرين من بحره الزاخر ، وارتشف من معينه الفياض ، واعتنى الائمة المحققون بالكتابة عليه .
وأختم كلامي على هذا بأن هذا التفسير الكشاف ، هو أوّل كتاب في التفسير الذي يكشف على الباحث في هذا المجال سر بلاغة القرآن ويبين عن وجوه إعجازه ، ويوضح عن دقة المعنى الذي يفهم من التركيب اللفظي ، وكل هذا في قالب أدبي رائع ، وصوغ إنشائي بديع . فالكشاف قد بلغ في نجاحه مبلغاً عظيماً ، لأنه لا يمكن الاستغناء عنه لأي باحث وعالم من يريد أن يفسر ويفهم فن التفسير .
* المحاضرة المتعاقدة بجامعة كشمير .
[1] دراسات قرآنية : محمّد حسين الصغير ، ص : 103 .
[2] التفسير والمفسرون ، ص : 443 .
[3] التفسير والمفسرون ، ص : 443 .
[4] مقدمه ابن خلدون ، ص : 646 .
[5] الكشاف ، ج 1 ، ص : 92 – 94 .
[6] كشف الظنون ، ج 2 ، ص : 176 – 177 .
[7] البحر المحيط ، ج 7 ، ص : 85 .
[8] مقدمة ابن خلدون ، ص : 491 .
[9] النماذج الخيرية ، ص : 310 .