المصلحون والمفسدون

رسل الله في خاتم كتبه السماوية ( الحلقة الثالثة )
يوليو 9, 2025
يعلمون ولا يعملون
أغسطس 31, 2025
رسل الله في خاتم كتبه السماوية ( الحلقة الثالثة )
يوليو 9, 2025
يعلمون ولا يعملون
أغسطس 31, 2025

التوجيه الإسلامي :

المصلحون والمفسدون

الشيخ السيد محمد واضح رشيد الحسني الندوي رحمه الله

إن الشعور العام لدى المثقفين بالثقافة الغربية من المسلمين أن أوربا استغنت عن الدين ، وأن التقدم الذي أحرزته في عهد النهضة يرجع إلى ثورتها على الدين ، ولكن التجربة مع أوربا والصلة بمختلف مؤسساتها ومنظماتها للخدمات الإنسانية والتعليمية والإعلامية وحتى الاقتصادية منها ، والاتصال بمفكريها ورجال الفن فيها ، يكشف عن استمرار صلتهم بالدين بشكل من الأشكال أو بقدر من الأقدار ، ويتضح هذا الارتباط بالدين في سلوكياتهم وأفكارهم ، ويبدو هذا الارتباط راسخاً في شعورهم وميولهم ، ويعترف بذلك كل من أتيحت له فرصة الاتصال بأي فرد من أفراد المجتمع الأوربي ، ويقترن بهذا الانتماء الديني ، الانتماء القومي والعنصري .

لقد ثبت بالتجربة مع العلم أن تصور التخلي عن الدين أو التحرر منه تصور خاطئ ، وأن أي مجهود يبذل لسلخ الإنسان من التصور الديني مجهود ضائع ، وقد أجريت في السنوات الأخيرة إحصائيات عن نسبة أتباع الدين وغيرهم ، فدلت هذه الإحصائيات على أن نسبة ضئيلة من الناس لا تتبع أي دين ، ويظهر ارتباط أوربا بالدين بتحمسها الزائد لنشر المسيحية في العالم ، ووجود منظمات ودعوات دينية تنال دعم الحكومات الراقية التي تدعي بالعلمانية والسياسة الحرة والنفقات الهائلة التي تصرف على إنشاء الكنائس ومدارس التبشير ، ونفوذ الرهبان والأساقفة الذين ازداد عددهم بصورة هائلة ، وانتشار الكنائس وتوزيع الكتاب المقدس . وقد سخرت أوربا جميع الوسائل المتوافرة لنشر الدين المسيحي واستخدمت لهذا الهدف المنابر الدولية والمؤسسات الاقتصادية والثقافية في الدول الخاضعة لنفوذ أوربا ، وهو أمر جلي لا يخفى على أحد ، ولا تخفيه أوربا نفسها .

كان تصور إبعاد الدين عن الحياة قد تجدد بقيام الثورة الشيوعية ، عند ما أعلن دعاة الاشتراكية أن الدين عدو الاشتراكية الأول ، وجاهر زعماء الاشتراكية عداءهم للدين ، ولكن كانت هذه الدعوة أيضاً موجهةً إلى المسلمين وحدهم ، فقد كان المسلمون الهدف الأول للإجراءات التعسفية ، واحتفظ زعماء الاشتراكية في روسيا بالنصرانية وعصبيتهم للجنس الأوربي المسيحي وكراهيتهم للإسلام والمسلمين وإجراءاتهم القاسية لتصفية العنصر الإسلامي بالإبادة والتشريد ، وقمع الحريات الدينية والسيطرة على المساجد ، ومراكز التعليم والتربية ، وفرض الحظر على مواد القراءة الدينية ، واستمرت هذه العمليات بدون أي هوادة فيها ولا تزال تستمر في الدول الخاضعة لنفوذ روسيا رغم سقوط النظام الاشتراكي ، وظهر بذلك أن عداءهم للدين ليس إلا عداء للإسلام .

ويشاهد مثل هذه المفارقة في محاربة الدين من جهة ، واحتضانه من جهة أخرى في البلدان التي تتبع الفكر الأوربي ، فإنها متسامحة مع النصرانية ومتعاونة مع الكنيسة ورجال الكنيسة ، وتوفر كل حرية للنشاط والعمل التبشيري ، وتحتمل جميع المؤسسات التي تنشر المسيحية أو تحببها إلى النفوس ، وتحتمل مظاهر النصرانية كالصليب وصور وتماثيل السيدة العذراء والسيد المسيح وصور الرهبان والراهبات ، وتحتمل مدارس التبشير والمنشورات التبشيرية حتى في الجزيرة العربية التي ورد عنها النص الشرعي أنه لا يجتمع فيها دينان ، والدول الإسلامية المجاورة ، وتحتمل وجود الكنائس ، ولا تضع عليها رقابة ، كانت تشجع المؤسسات والمنظمات التي تحارب الإسلام والثقافة الإسلامية ، وترغم الدول الإسلامية على اتخاذ إجراءات لقمع الاتجاه الديني ، واعتباره إرهاباً ، فيتصعد في هذه البلدان النشاط التبشيري ، والصهيوني والإباحي .

لقد أصبح فرض الرقابة على النشاطات الإسلامية وإنشاء أحزاب دينية وجماعات دينية إسلامية معروفاً في البلدان الإسلامية ، بينما يتمتع رواد أوكار الفساد والجرائم بحرية كاملة ، وكذلك ورود الصحف والمجلات والمنشورات المفسدة والمثيرة مسموح به في الدول الإسلامية ، أما مواد القراءة الإسلامية ومؤلفات كبار العلماء الإسلاميين فمرفوض ، لأنه في زعم هؤلاء المتحضرين ينمي طبيعة الإرهاب ، ويعادي الحضارة الغربية ، ويسيئ إلى مصالح الدولة .

ويدل هذا الموقف على أن المراد من الدين هو الإسلام في كل بلد ، لأن هذه الحكومات تحتمل الحركات لإحياء التراث والديانات ، والعقائد القديمة ، التي أكل عليها الزمان وشرب ، وكذلك تحتمل إحياء اللغات والثقافات القديمة ، ولا تعتبر الإقبال على هذه الأعمال تخلفاً ولا رجعيةً ولا إرهاباً ولا عنصريةً ولا ضيق فكر ، ولا عقليةً متحجرةً ، وتسمح للطوائف والفئات الدينية الأخرى غير الإسلامية بنشر أفكارها ، وخزعبلاتها في البلاد وإنشاء مراكز تربيتها للناشئين باسم حرية الأديان وحرية العقيدة ، وتفرض الدول الأوربية ضغوطها لمنح هذه الفئات حرية العمل في المجتمع الإسلامي .

أما الإسلام وهو أحدث الأديان وأرقاها وأوسعها فكراً وإنسانيةً وسماحةً وحريةً وأقربها تجربةً وعملاً ، فهو محارب في بلاد المسلمين كما هو محارب في بلاد غير المسلمين حيث لا يمكن الدعوة إليه ، ولا يمكن تأليف حزب للعاملين في سبيله ، ولا يمكن التشاور بين الإخوة المسلمين من أجل كلمة الإسلام ، ويعتبر ذلك لقاءاً إرهابياً ، ودعوةً إلى العنف وعودةً إلى الوراء ، وقد نعت الإسلام بذلك قديماً وحديثاً في كتب المفكرين الأوربيين ، ولا يزالون يرددون هذا التصور المزعوم .

إن القضية ليست قضية أعداء الإسلام ، فلا نرجو الأعداء أن يسمحوا بنشر الإسلام ، وإنما القضية قضية الذين يقولون : إنهم مسلمون ويبدون صلتهم بالإسلام ، وزعامتهم لبلد إسلامي ، إنهم يخيبون كل مجهود للدعوة الإسلامية ، ويشتتون شمل الدعاة ويشردون العاملين له ، ويفرضون القيود على تحركاتهم ، ويعتبرون ذلك خدمة لبلادهم ، ويعتبرون دعاة الإصلاح مفسدين ، وهم كما يقول القرآن : ( ألاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ ) [1] إنهم بوضع هذه العقبات في سبيل الإسلام يعملون لبقاء الاستعمار ومنحه فرص استغلال ثروات المسلمين ، وتحطيم قوة الشباب من المسلمين والمفكرين المسلمين ، ويبددون ثروة البلاد أو أنهم مخدعون بدعاية أوربا التي قامت بها في عهد الاستعمار ولم يستطع هؤلاء الحكام التخلص من تلك العقلية الاستعمارية .

إن الدين ضرورة بشرية ، ولم يستطع أحد أن يستغني عنه وهو مصدر سعادة الإنسان ، وطمأنينته القلبية ، وكل مجتمع محروم من هذه السعادة الداخلية يعيش في شقاء وحرمان ، ولذلك تنتشر الحركات الدينية بسرعة أكثر مما تنتشر به الحركات السياسية أو الاجتماعية ، ويجري الآن العمل على إحياء الصلة بالدين في جميع أنحاء العالم من الهندوكية ، والنصرانية ، واليهودية ، والبوذية ، وتساعد حكومات دول هذه البلدان هذه الحركات الدينية ، لأن اللجوء إليها يمنحها شعبيةً ، ويشاهد هذا النوع من التزامل في الهند ، وقد تصعد هذا الاتجاه أخيراً ، وتشجع الحكومة الحاضرة المنظمات الهندوكية التي تدعو إلى تهنيد البلاد ودمج كل كيان في الإطار الهندوكي ، وتجري تعديلات في نظام التعليم والتربية ، وتطالب المنظمات الهندوكية برعاية الحكام بالعودة إلى الهندوكية وتنشط المنظمات العاملة لتحقيق هذا الغرض بدون أي معارضة من رجال الحكم ، وتسعى هذه المنظمات إلى نشر عقائدها في الدول الأخرى ، وتتدفق عليها الوسائل المالية من الداخل والخارج .

ولكن المنطقة المحرومة من هذا التزامل والتضامن هي منطقة البلدان الإسلامية ، حيث يحارب الحكام رغبات الأغلبية ، يواصلون مجهوداً ضائعاً ، وغير مثمر لأنه مجهود يتعارض مع رغبات الشعب ، ويقوم على وهم ، وجهل للواقع ، ومحاولة الإرجاع البلاد إلى عهد الاستعمار .

[1] سورة البقرة الآية : 12 .