المحدث محمد مشاهد السلهتي وعلم الحديث

الشيخ عبد الرشيد إبراهيم ( آية من آيات الله وحجة الله على الدعاة ) ( الحلقة الثانية الأخيرة )
يوليو 3, 2024
الشيخ عبد الرشيد إبراهيم ( آية من آيات الله وحجة الله على الدعاة ) ( الحلقة الثانية الأخيرة )
يوليو 3, 2024

رجال من التاريخ :
المحدث محمد مشاهد السلهتي وعلم الحديث
بقلم : الأستاذ هارون الرشيد الشيريفوري 
هو العالم النابغة الزاهد محمد مشاهد بن العليم بن دانش ميان البايمفوري السلهتي البنغلاديشي الملقب في ديارنا بشيخ الإسلام . وكانت أمه صفية من النساء الفضليات المحجبات اللاتي وصلن إلى أرقى مراتب التعليم والتربية ، وكنَّ مضرب الأمثال في الأخلاق الحميدة في أزمنتهن . ولد يوم الجمعة من أوائل المحرم سنة ١٣٢٨ للهجرة ببايمفور من كنائيغهات في سلهت ببنغلاديش .
تلقى مبادئ القراءة من أمه ومن مقرئ المسجد ، ثم انتقل إلى مدرسة ابتدائية إنجليزية ، فانضم إليها وقرأ ثم انضوى تحت لواء المدرسة الإسلامية المعروفة ( حالياً ) بالجامعة الإسلامية دار العلوم دار الحديث كنائيغهات ، ولواء المدرسة الرحمانية في لالارصك ، وتعلم فيهما ، ثم ارتحل إلى المدرسة العالية في رامبور ، فدخلها ودرس فيها .
وجرياً على عادة المحدثين في طلب الحديث كان لا بد لطالبه أن يرتحل في طلبه ويتجول في الآفاق للاستماع إلى الشيوخ والعلماء والمحدثين المنتشرين في مدن شتى ، فسمع البايمفوري في ديوبند من كبار الشيوخ ، وتخرج في دار العلوم سنة ١٣٥٧هـ ، وباشر التدريس في كثير من مدارس الهند وبنغلاديش ، وأخذ البيعة في السلوك والتزكية من الشيخ أبي يوسف محمد يعقوب المعروف بالشيخ حاتم علي البدرفوري – رحمه الله تعالى – ونال منه الإجازة والخلافة ، وحج ، ونصح ، وألف ما بين صغير وكبير حتى قام بكتابة بعض الحواشي النفيسة على تفسير المنار ، ونصب الراية ، وفتح القدير لابن الهمام ، وغيرها ، ولكن كان له مع غزارة علمه وتبحره في مختلف الفنون تفردات ومخالفات في مسائل التهجد بالجماعة ورؤية الهلال والجماعة الثانية في المسجد – ومسودة هذه الفتوى وغيرها من المخطوطات والمسودات الغير المطبوعة موجودة عندنا – وما إلى ذلك .
وكان يأمر ، وينهى حتى أتاه اليقين ليلة عيد الأضحى عاشر ذي الحجة لعام ١٣٩٠ من الهجرة . فإنا لله وإنا إليه راجعون .
إسهاماته في علوم الحديث :
لقد قيض الله – تبارك وتعالى – لخدمة السنة وعلومها من أول يوم رجالاً أفذاذاً معتنين بحفظها وحملها وشرحها ودرايتها وروايتها ونقلها بأقصى الضبط والدقة من سيد الأنبياء – عليهم من الله أفضل الصلاة وأتم التحية – إلى المؤمنين الأصفياء حتى كانت ميسرةً محفوظةً ومفسرةً لم يعهد العلماء عنايةً بعلم كعنايتهم بها .
فلا يخفى على من له أدنى إلمام بالشيخ محمد مشاهد السلهتي – رحمه الله تعالى – أنه كان شهيراً في دولة بنغلاديش وولاية آسام بـ ” البايمفوري ” ، وكان من أبرز علماء الحديث النبوي الشريف وفن أسماء الرجال في بنغلاديش ، وإضافةً إلى ذلك كان لا نظير له بين رجالات ديارنا في سعة الاطلاع على كتب المتقدمين والمتأخرين والتضلع في الفقه والأصول والرسوخ في العلوم الدينية ، وكان دقيق النظر في طبقات الفقهاء والمحدثين ومراتب كتبهم ، وظل مشتغلاً بالتحديث والتدريس والتحقيق عكوفاً على الأعمال العلمية .
( مثال ذلك ) : إنه قال في مسألة مقدار العمامة : ” ينبغي أن يعلم أن العمامة من سنن الزوائد كشعر الرأس وليست هي من سنن الهدى ، فأي ثوب ليث على الرأس ، وأياً كان لونه ، وطوله فهو سنة بشرط أن تحنك العمامة وأن يرسل طرفها بين الكتفين . روى مسلم في ” صحيحه ” عن جابر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة ( عام الفتح ) وعليه عمامة سوداء .
فقال شراح الحديث : ” إنه ليس من خصوصيات العمامة لكونها سنة الطول ، واللون ” . ومن لم يكتف بذلك وأراد التفصيل فعليه بمطالعة كتاب ” نيل الأوطار ، كتاب اللباس ، باب ما جاء في لبس القميص والعمامة والسراويل ” .
واشتهر البايمفوري بالفضل والصلاح . فنفع الله تعالى بتدريسه خلقاً كثيراً ، وتخرج على يده آلاف ممن له حظ وافر .
ومن منن الله تعالى على الشيخ البايمفوري انهماكه في خدمة الحديث الشريف والمداومة عليه دراسةً وتدريساً واختلط حبه والاشتغال به بلحمه ودمه ، فمن طول ممارسته الحديث الشريف كأن الأخلاق النبوية صلى الله عليه وسلم تجسدت في صورته .
كان الشيخ البايمفوري يدرس صحيح البخاري ، وجامع الترمذي على وتيرة التخصص في علوم الحديث قبل تأسيس هذا القسم في شبه القارة ( كما يتجلى ذلك من الفصل الرابع عشر في الجزء الأول من كتابه ” أضواء الحق ” ) .
وكانت لمسات من سيرة الشيخ العلامة محمد أنور شاه الكشميري تلمع في الفاضل السلهتي – رحمهما الله – ؛ مثل ما قيل في ثناء الكشميري : كان الشيخ رحمه الله إماماً في علوم القرآن والحديث ، وحافظاً واعياً لمذاهب الأئمة مع إدراك الاختلاف بينهم ، وقادراً على اختيار ما يراه صواباً ، ولم يقتصر في مطالعته على كتب علماء مدرسة بعينها – مع أنه كان حنفياً – وإنما قرأ لعلماء مدارس مختلفة لهم انتقادات شديدة فيما بينهم ، مثل الإمام ابن تيمية والإمام ابن القيم وابن دقيق العيد والحافظ ابن حجر رحمهم الله ، وقد أحاط بكتب أهل الكتاب من أسفار العهد الجديد والقديم . . . وقال المحدث علي الحنبلي المصري رحمه الله : ما رأيت عالماً مثل الشيخ أنور الذي يستطيع أن يجمع نظريات الإمام ابن تيمية والحافظ ابن حجر وابن حزم والشوكاني رحمهم الله ، ويحاكم بينهم ويؤدي حق البحث والتحقيق مع رعاية جلالة قدرهم .
( مثال ذلك ) : أنه روى في الدلائل المنثورة من كتابه ” البرهان على استحباب سماع القرآن ” عن فضالة بن عبيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” الله أشد أذناً إلى قارئ القرآن من صاحب القينة إلى قينته ” .
قال الحافظ ابن حجر والعراقي : أخرجه ابن ماجه والحاكم وابن حبان وصححاه .
قال الزبيدي في ” في فضل القرآن وأهله وذم المقصرين في تلاوته من إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين لحجة الإسلام الإمام الغزالي ” : أذناً أي استماعاً وإصغاءً . وذلك عبارة عن الإكرام والإنعام .
قال ابن العليم : ” هذا على قول المتأخرين من أصحاب التأويل ، وأما على قول المتقدمين من أصحاب التفويض فمعناه : استماعاً يليق بجنابه تعالى وهو السميع البصير تعالى شأنه ” .
ويذكر – رحمه الله – دلائل كل فقيه من الكتاب والسنة ويتكلم عليها متناً وإسناداً بضبط يسهل تناوله للطالبين ثم يأتي بالدلائل للمذهب الراجح سالكاً مسلك الإنصاف مجتنباً التكلف والتعسف في الانتصار لمذهب مخصوص ، ولا شك أنه حنفي في المذهب الفقهي فيأتي بدلائل هذا المذهب بكل بصيرة ، وكان منهجه في شرح الحديث منهج العالم الفقيه والمحدث الحافظ والبصير الناقد والواسع الاطلاع إلى غير ذلك .
( أمثلة بعض ما مر ) : أنه يقول في مبحث علاج الغضب المذموم في كتابه الفرقان : ” قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله يحب الرفق في الأمر كله – أخرجه البخاري ومسلم وقال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا أحب الله أهل بيت أدخل عليهم الرفق – أخرجه أحمد بسند جيد . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله رفيق يحب الرفق الحديث – أخرجه مسلم ، والمراد به وطأة الأخلاق وحسن المعاملة وكمال المجاملة ، لأن معنى الرفق هو اللطف ولين الجانب بالقول والفعل وأخذ الأمر بأحسن الوجوه وأيسرها . . .وأنه يقول في مواطن جمة من مؤلفاته بعد ما يخرج الأحاديث : وفي الباب أحاديث عن الصحابة – رضي الله عنهم – والأحاديث في هذا الباب كثيرة ، والأحاديث في الباب كثيرة جداً ، وله شواهد . لا سيما قال في الجزء الأول من كتابه ” إظهار الحق ( ص : ٢٢) ” : قلت : والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جداً فيما بين صحيح وحسن كما هو الظاهر على من بيديه دواوين العلوم النبوية ، وأنه عرف كتاب ” الأحاديث المختارة ” للإمام ضياء الدين أبي عبد الله محمد الحنبلي المقدسي في الفصل الثاني من كتابه ” الفرقان ” بأنه ” من أحسن الكتب عند المحدثين حتى عدَّه بعضهم بعد الصحيحين ” ، وقال في نفس الكتاب في فصل في آفات اللسان في الحكم على الإسناد : ” وإسناد أحمد حسن ” . وإن مخطوطته الغير المطبوعة المسماة بـ ” جزء القراءة خلف الإمام ” لخير شاهد على ذلك كله .
ومن الجدير بالذكر ههنا بصفة خاصة أن صحيح البخاري قد حظي من عناية الشيخ بالشرح والتحليل والاستنباط ، ولا ريب أن لكل شيخ طريقته وأسلوبه الخاص ، فكان البايمفوري يحرص على نقل المذاهب والأقوال بأمانة وعرضها بأدلتها بإنصاف وترجيحه ما يوجبه الدليل منها وإن كان غير المذهب الحنفي ويشرح الكلمات العربية في متن الحديث ويوضح الجمل المشكلة والعبارات المستصعبة والتراكيب العويصة كما يتعرض فيه لحل مظان الإشكالات في الأسانيد من حيث الصناعة الحديثية مع ضبط الأسماء والأنساب المعضلة والتعريف بالرواة النقلة إذا اقتضى المقام ذلك ، وينبه في بعض الأحيان على لطائف الإسناد بطريقة المحدثين .
فكانت محاضراته وشروحه لدروس الجامع الصحيح للإمام البخاري مرتبةً منسقةً بحيث يسهل على الطلاب التقاطها وحفظها دونما صعوبة ، وهذا إن دل على إتقانه للمواد الشرعية الحديثية التي كان يحاضر فيها فإنه يدل في الوقت نفسه على نبوغه في فن التدريس وعرض المواد على المتلقين وتبسيطها لهم فكان – رحمه الله تعالى – يمتاز بأنه مدرس لبق ناجح يقرب ما في ذهنه إلى أذهان تلاميذه في سهولة أي سهولة ، فكان محبوباً جداً إليهم لهذا السبب ، وكانت دروسه الحديثية دروساً بليغةً تذرف منها العيون وتخشى منها القلوب وكان الطلاب يتهافتون عليه تهافت الفراش على النور لأجل رزانته ووقاره وإتقانه لمواد الحديث وورعه وتقواه وأمانته وإخلاصه حتى شد طلبة العلم الرحال إليه ، وكان محترزاً كل الاحتراز عن التأويلات الباردة الزائفة ، ويسرد الكلام في الأبواب والتراجم وفيما قال البخاري : قال بعض الناس كما يسرد العسقلاني والعيني والجنجوهي وشيخ الهند والكشميري وشيخ الإسلام المدني وغيرهم فيرجح أحد الأقوال ويكرر أثناء الدرس ما اشتهر بين الناس أن فقه البخاري في تراجمه ، وكان سريع القراءة لمتون الحديث من غير خطأ . وكان في شرحه – قدس الله سره العزيز – للأحاديث ردود قوية على طوائف أهل الزيغ مع دفع شكوك أهل البدع والأهواء ودحض شبهات المستشرقين والمستغربين ببيان واضح متين ، وأسلوب مقنع رصين .
وإن لتحقيقاته وبحوثه لقيمةً كبيرةً لدى أهل العلم والدين ، فكان يعتبر من كبار المحدثين في شبه القارة ، كان الشيخ رحمه الله شديد الاستحضار ، قوي الحافظة ، شغوفاً بالمطالعة . فكان إذا طالع كتاباً بقي في ذاكرته ، وسمع ذلك ونقله غير واحد من أقرانه وتلامذته الأعلام . وهو إلى جانب قوة الحفظ ونادرتها قد وفق لسرعة المطالعة . فقد كان وجود هذا العصامي في القرن العشرين برهاناً ساطعاً على صلاحية الملة . ويشهد بذلك معاصروه وكتبه ومؤلفاته ، واعترافاً بعظيم مكانته العلمية أثنى عليه العديد من جهابذة العلماء :
(1) قال شيخ الإسلام السيد حسين أحمد المدني – رحمه الله تعالى – فيما منحه من الشهادة الخاصة : . . . لقد رزقه الله تعالى طبيعةً مناسبةً وهادئةً . فهو يتمتع بعقل حاد وثاقب وخلق كامل . وأنا متأكد من أنه إذا تم تعيينه في مهنة التعليم في مجال ما ، فسوف يقوم بتدريس الفنون والعلوم كلها على أحسن الوجوه – إن شاء الله – ( تصدير كتاب المترجم له فتح الكريم ) .
(2) وقال في كتاب البدور المضيئة ( ج/١٨ ، ص : ٧٢ ) – وهو من منشورات دار الصالح خلف الجامع الأزهر الشريف بالقاهرة عاصمة جمهورية مصر العربية – : كان الشيخ الفاضل مولانا محمد مشاهد السلهتي عالماً نحريراً ، فاضلاً جيداً ، محدثاً كبيراً ، أديباً لبيباً ، فقيهاً بارعاً . من مصنّفاته : فتح الكريم في سياسة النبي الأمين . . .
رحم الله البايمفوري بما قدم للأمة الإسلامية وأفادها من منبع علمه وفيض معرفته ، وأسكنه فسيح جناته مع الخالدين – آمين ثم آمين يا رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا وحبيبنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
مراجع المقال :
الدرس المدني لإفهام جامع الترمذي ص : ١٦١ ، وترجمة حياته في أول كتابه ” فتح الكريم ” ( الذي طبع تحت إشراف أمير الهند العلامة السيد محمد أرشد المدني – حفظه الله تعالى ورعاه – ) ، ومجلة ” المشاهد ” التذكارية الصادرة في شهر فبراير سنة ٢٠١٤م عن الجامعة الإسلامية دار العلوم دار الحديث كنائيغهات ، ص : ٣٣ – ٤٤ ، والمجلة التذكارية ( ديسمبر ٢٠٢٣م ، ص : ٢١٩ – ٢٢٤ ) الصادرة عن الجامعة المدنية قاسم العلوم شاهباغ ، ومجلة الصبح ( ص : ٢ و ٥ – ٦ ، العدد : ٥ ، السنة الثانية ١٤٣٣هـ ) ، ومجلة المدينة ( أغسطس ٢٠١٤م ، ص : ١٩ – ٢٤ ) ، وبخاري بنغال العلامة محمد مشاهد البايمفوري – رحمه الله تعالى – للأديب القدير نسيم عرفات ، ونحو ذلك .