اللف والنشر في القرآن الكريم

حاجة العلوم الإسلامية إلى علم القواعد العربية
مارس 3, 2024
تأثير اللغة العربية في اللغة الأردية
أبريل 27, 2024
حاجة العلوم الإسلامية إلى علم القواعد العربية
مارس 3, 2024
تأثير اللغة العربية في اللغة الأردية
أبريل 27, 2024

دراسات وأبحاث :
اللف والنشر في القرآن الكريم
الدكتور محمد . ك ، بانديكادو
اللَّفُّ وَالنَّشْرُ مِن أَسالِيب الْقرْآنِ الْبَلاغِيَّةِ . هو أن تلف شيئين ثم تأتي بتفسيرهما جملةً ، ثقةً بأن السامع يرد إلى كل واحد منهما ما له . يعدُّ اللف والنّشر من الأساليب البديعية المعنوية ، وأكثر البلاغيين اتفقوا على تسميته اللف والنّشر ، وسماه بعضهم الطّي والنشر ، وأول من التفت إلى هذا الأسلوب وأشار إليه المبرد ، يقول : ” والعرب تلف الخبرين المختلفين ، ثم ترمي بتفسيرهما جملةً ؛ ثقةً بأن السامع يرد إلى كلٍ خبره ” .
وعرفه الخطيب القزويني ، قال : ” هو ذكر متعدّد على جهة التفصيل أو الإجمال ، ثم ذكر ما لكلّ واحد من غير تعيين ، ثقة بأنّ السامع يردّه إليه ” .
أَقْسَامُ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ :
اللَّفُّ وَالنَّشْرُ ينقسم إلى قِسمَينِ : الْمُرتَّبُ وغيرُ الْمُرتَّبِ .
أولاً : الْمُرتَّبُ ، هنا يكون اللَّفُّ وَالنَّشْرُ مُرتَّباً .
مِثَالُهُ : قَولُ اللهِ تَعَالَى : ( وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا۟ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا۟ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) .
قوله ( لِتَسْكُنُواْ فِيهِ ) راجعٌ إلى اللَّيْلِ ، أَيْ : لِتَسْكُنُواْ فِي اللَّيْلِ ، وقوله : ( وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ) راجع إلى َالنَّهَارِ ، أَيْ : وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ فِي النَّهَارِ ، ففي الآية لَفٌّ وَنَشْرٌ مُرتَّبٌ .
وكذلك نرى اللف والنشر مرتباً في أواخر الآيات القرآنية . نقرأ الآية : ( مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً ) .
فقوله تعالى: ( شَاكِراً ) يعود إلى قوله : ( شَكَرْتُمْ ) ، وقوله تعالى : ( عَلِيماً ) ، يعود إلى قوله : ( وَآمَنْتُمْ ) لأنَّ الإيمان الباطنَ لا يعلمه إلا الله .
ومنه قول الله تعالى : ( وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُوراً ) .
فقوله تعالى : ( مَلُومًا ) يعود إلى قوله : ( وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ ) ، وقوله تعالى : ( مَّحْسُوراً ) ، يعود إلى قوله : ( وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ ) لأن البخيل هو الذي يكون بين الناس ملوماً ، والمسرف هو الذي يكون محسوراً ومندوماً .
وكذلك قولُه تعالى : ( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوإِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ) .
فـذكَر ضَميرَ جانِبِ المُتكلِّمِ وجَماعتِه ، وجانِبِ المُخاطَبينَ ، ثمَّ ذكَر حالَ الهُدى وحالَ الضَّلالِ على تَرتيبِ ذكْرِ الجانبَينِ ، فأَوْمأَ إلى أنَّ الأوَّلينَ مُوجَّهون إلى الهُدى ، والآخَرِينَ مُوجَّهون إلى الضَّلالِ المُبينِ .
ثانياً : غَيرُ الْمُرتَّبِ : هنا يكون اللَّفُّ وَالنَّشْرُ غَير مُرتَّب .
يقولُ الله تَعَالَى : ( يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) .
فِي الآيَتَين لَفٌّ وَنَشْرٌ غيرُ مُرتَّبٍ ، فقد ذَكَرَ فِي اللَّفِّ الابْيِضَاضَ قَبْلَ الاسْوِدَادِ ، وَذَكَرَ فِي النَّشْرِ حُكْمَ مَنِ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ قَبْلَ حُكْمِ مَنِ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ .
وَمِثَالُهُ أيضاً قَولُهُ تَعَالَى : ( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا ) .
فِي هَذِهِ الآيَةِ لَفٌّ وَنَشْرٌ غيرُ مُرتَّبٍ ، فقد ذَكَرَ فِي اللَّفِّ اللَّيْلَ قبل النَّهَارِ ، فقال : ( فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً ) ، وَذَكَرَ فِي النَّشْرِ ( لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ ) يُرِيدُ التَّصَرُّفَ فِي الْمَعاشِ فِي النَّهارِ ، ثم قَالَ : ( وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ) ، والمرادُ الحسابُ المتعلقُ بما في ضمنِ السنينَ من الأشهرِ والليالي والأيامِ ، يعني منازل القمر .
ومن اللَّفِّ والنَّشرِ المُتعدِّدُ المُجمَلُ وهُو : ” أنْ تأتيَ بلفْظٍ واحِدٍ يَشتمِلُ على مُتعدِّدٍ ، وتُفوِّضَ إلى العَقْلِ ردَّ كلِّ واحِدٍ إلى ما يَليقُ به مِن غيرِ حاجَةٍ إلى أنْ تَنُصَّ أنت على ذلك ، كقَولِه تعالى : ( وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَو نَصَارَى ) .
فالضَّميرُ في ” قَالُوا ” يَعودُ على اليَهودِ والنَّصارى ، فذُكِرَ الفَريقانِ على وجْهِ الإجْمالِ بالضَّميرِ العائِدِ عليهما ، والأصْلُ : ” قالتِ اليَهودُ لن يدخُلَ الجنَّةَ إلا مَنْ كان يَهوديّاً ، وقالتِ النَّصارى لن يَدخُلَ الجنَّةَ إلا مَنْ كان نَصرانيّاً ” . فلفَّ بينَ القَولَينِ إجْمالاً ثِقةً بقُدرةِ السَّامِعِ على أنْ يَرُدَّ إلى كلِّ فَريقٍ قَولَه ، وأمْناً منَ الالْتِباسِ ؛ وذلك لعِلْمِه بالتَّعادي بينَ الفَريقَينِ ، وتَضليلِ كلِّ واحِدٍ منهما لصاحِبِه ، كما قال جلَّ شأنُه بعدَ ذلك : وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْئ ، وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْئ .
في الشعر العربي :
وقد جاء اللف والنشر في الشعر العربي ، نرى أمثلةً كثيرةً في أشعار العرب قديماً وحديثاً . ومنه قولُ الشَّاعِرِ :
ألستَ أنت الَّذي مِن وَرْدِ وَجْنتِه ووَرْدِ نِعمَتِه أجْني وأغْتَرِفُ
فذكَر ورْدَ الوَجْنتَينِ ، ثمَّ ورْدَ النِّعَمِ ، ثمَّ رتَّب النَّشرَ على تَرتيبِ اللَّفِّ ، فقال : ” أجْني ” لتُناسِبَ الوَجْنتينِ ، وقال : ” أغْتَرفُ ” لتُناسِبَ النِّعمةَ .
يقولُ الشَّاعِر ابن معصوم المدني :
أفديْهِ مِن رَشَأٍ تَبدَّى واخْتَفى كالبدْرِ عندَ طُلوعِهِ ومَغيبِهِ
يَجفو ويَــعـتِبُ مُعرِضاً مُتدلِّلاً ويَـــصُدُّ مُعتذِراً بخَوفِ رَقيبِهِ
فاللَّفُّ والنَّشرُ جاء في كلِّ بيتٍ على حدَةٍ ؛ في البيتِ الأوَّلِ قال : ” تبدَّى واخْتَفى ” ثمَّ قال : ” طُلوعِه ومَغيبِه ” فطُلوعُ البدْرِ كبُدُو الغَزالِ ، ومَغيبُه كاخْتِفائِه ، رتَّب في النَّشرِ كما جاء في اللَّفِّ .
وفي البيتِ الثَّاني قال : ” يَجْفو ويَعْتِب ” ثمَّ أتْبَع فقال : ” مُعرِضاً مُتدلِّلاً ” ، والجَفاءُ يُناسِبُه الإعْراضُ ، والعِتابُ لائِقٌ بالتَّدلُّلِ .
ومنه قولُ الشَّاعِر ابن حيّوس :
فِعْلُ المُدامِ ولونُها ومَذاقُها في مُقْلتَيه ووَجْنتَيه وطَرْفِهِ
ففِعلُ المُدامِ وهو السُّكْرُ في المُقلتَينِ ؛ فالنَّظرُ إلى عَيْنيِ المَحْبوبةِ يَسحَرُ ويُسكِرُ ، ولَونُ الخَمْرِ وحُمْرتُه في وجْنَتَيها ، ومَذاقُ الخمْرِ في رِيقِها . فوقَع النَّشرُ هنا مُرتَّباً ؛ الأوَّلُ للأوَّلِ ، والثَّاني للثَّاني ، والثَّالثُ للثَّالثِ .
ومنه بينَ ستَّةٍ وستَّةٍ قولُ الشَّاعِرِ ابن معصوم المدني :
الصُّبحُ واللَّيلُ وشَمسُ الضُّحى والدَّهرُ والدُّرُّ ولِينُ القَضيبْ
في الفَرقِ والطُّرَّةِ والوَجْهِ والـــــ خــدَّيــنِ والـثَّغرِ وقدِّ الحَبيبْ
فالأوَّلُ مِنَ اللَّفِّ هو الصُّبحُ ، وقد جعَله الشَّاعرُ في فَرْقِ شَعرِ المَحْبوبِ ، وهُو الأوَّلُ مِنَ النَّشرِ ، واللَّيلُ – وهُو ثاني اللَّفِّ – شبَّه به الشَّاعرُ طُرَّةَ شَعرِها ، وهُو الثَّاني مِنَ النَّشرِ ، وشَمسُ الضُّحى في مُقابِلِ وجْهِها ، والدَّهرُ مُقابِلُ الخدَّينِ ، والدُّرُّ في صَفاءِ ثغْرِها وجَمالِه وصِغَرِه ، ولِينُ القَضيبِ يُضارِعُ ويُحاكي قدَّ ( قامَة ) الحَبيبِ . فالأوَّلُ مِنَ النّشرِ يُقابِلُ الأوَّلَ مِنَ اللَّفِّ ، والثَّاني بالثَّاني ، والثَّالثُ بالثَّالثِ ، وهكذا .