الإمام الشافعي لغوياً وشاعراً
ديسمبر 23, 2024الشيخ أبو الحسن علي الندوي : رائد أدب الأطفال الإسلامي
مارس 24, 2025دراسات وأبحاث :
القيم الخلقية في أفكار وكتابات الشيخ القاضي مجاهد الإسلام القاسمي
د . محمد آفتاب أحمد *
تعد القيم الخلقية ركيزةً أساسيةً في بناء المجتمعات السليمة ، وهي بمثابة البوصلة التي توجِّه سلوك الأفراد نحو الخير والفضيلة . ولقد اهتم العلماء والمفكرون عبر التاريخ بدراسة هذه القيم وتأصيلها ، سعياً لبناء مجتمعات عادلة ومتماسكة . ومن بين هؤلاء العلماء ، يأتي الشيخ القاضي مجاهد الإسلام القاسمي ، الذي يعد أبرز المفكرين الإسلاميين في القرن العشرين الميلادي ، والذي ترك بصمةً واضحةً في مجال الفقه والأخلاق .
إن الشيخ القاضي مجاهد الإسلام القاسمي ( 2002م – 1936م ) ، كان واحداً من أبناء الهند الأفذاذ الذين خاضوا معركة الحياة رغم قلة الموارد ، وقاموا بخدمات جليلة لا يمكن للأمة المسلمة أن تنساها مهما كانت في الحياة العلمية والثقافية والسياسية . حسب العادة السائدة في الهند بدأ الشيخ القاضي حياته العلمية والاجتماعية كما يبدأ المتخرجون في المعاهد الإسلامية . وبعد التخرج في دارالعلوم ديوبند عام 1955م ، أخذ الشيخ القاضي مهمة التدريس في مدرسة بمدينة مونجير ، إحدى مديرية ولاية بيهار . وتولى الشيخ القاضي منصب القاضي في الإمارة الشريعة لولايتي بيهار وأوريسا ( الآن أوديشا ) ، على إيعاز من الشيخ منت الله الرحماني في فبراير عام 1961م ، ونفخ الشيخ القاضي فيها روحاً جديدةً ، وأثبت كفاءته منقطعة النظير تجاه تنفيذ الشريعة الإسلامية وتطبيقها في المجتمع الإسلامي ، وأدى واجباته أحسن أداء في مجال القضاء حتى عرف بلقب ” القاضي ” ، وأصبحت كلمة القاضي جزءً لا ينفك من اسمه ، بل غلب على اسمه الأصلي ، وتقدمت الإمارة الشرعية وتطورت وازدهرت وأصبحت بمثابة شجرة طيبة أصلها ثابت وفروعها في السماء ، وذاع صيتها خارج ولايتي بيهار وأوديشا .
ساير الشيخ القاضي حركة هيئة الأحوال الشخصية لعموم الهند منذ تأسيسها وبذل مجهوداته الجبارة العلمية والنفسية للنهوض بهذه الهيئة . وكان مستشاراً قانونياً لها ، ومرجعاً وحيداً في أوقات حدوث المشاكل القانونية ، لأن الشيخ القاضي كان له باع طويل في فهم كنه القوانين الدينية والعالمية على حد سواء . وقد رزق حظاً موفوراً من التفقه في الدين وفهم روح الشريعة الإسلامية الغراء ، وقدرة تامة لتفهيم القوانين العائلية ومقدرة خارقة على إقناع المحامين والحقوقيين بموقف الإسلام والمسلمين ” [1] .
أسس الشيخ القاضي المجلس الملي لعموم الهند في عام 1992م ، لتوحيد صفوف المسلمين وتحسين أوضاعهم التعليمية والثقافية والاقتصادية ، وأقام المجلس الملي فروعاً له في جميع أرجاء الهند ، وعمل من أجل رفع مستوى المسلمين التعليمي والاجتماعي ، ووقف بجانبهم من أجل الحصول على الإنصاف من الحكومة وأجهزتها في الاضطرابات وشتى حوادث الفتن والاضطرابات ” [2] .
إنَّ حياة الشيخ القاضي مليئة من الخدمات الجليلة المتعلقة بالتأليف والتحقيق والتعليق ، التي يعتز بها العلماء الهنود خاصةً والعلماء العرب عامةً . مما لا شك فيه أن الشيخ القاضي قام بتأليف عدد كبير من الكتب في الفقه الإسلامي ، رغم أن حياته كانت مزدحمةً بالأعمال القضائية والإفتائية والقيادية والفكرية . وكتاباته تشتمل على المواد الإسلامية في صورة الكتاب ، ومنشورات المؤتمر ، والقرارات والتوصيات والفتاوى والخطب وما إلى ذلك ، ومعظم كتاباته متوافرة باللغة الأردية لكونها لغة المسلمين الهنود الرئيسية ، كما قام بتصنيف وتحقيق عدد ملحوظ من الكتب باللغة العربية التي ذاع صيتها في البلدان العربية لكونها كتباً مهمةً في الفقه الإسلامي بما فيها التعليق على كتاب ” صنوان القضاء وعنوان الإفتاء ” في أربعة مجلدات ، و ” الذبائح : أنواع الذبح وأحكامه ” ، و ” فقه المشكلات ” ، و ” الوقف ” ، و ” بحوث فقهية من الهند ” ، وغيرها ، وله مأثرة باسم مجمع الفقه الإسلامي ، وهو أشهر من أن يذكر .
القيم الخلقية في أفكار الشيخ القاضي :
إن الشيخ القاضي كان داعياً كبيراً للقيام بالعدل في المجتمع ، واهتم به كثيراً ، إيماناً بقول المؤرخ التونسي ، ابن خلدون ( 1406م – 1332م ) ” العدل أساس العمران ” ، ودائماً يدعو الحكام والسلاطين للقيام بالعدل في المجتمع ، لا للحكام الهنود فقط ، بل دعا الأمراء والسلاطين العرب والمسلمين إليه ، ويشير إليه الشيخ أمين العثماني قائلاً : ” وذات مرة قال الشيخ القاضي لرئيس جمهورية مصر العربية في القاهرة : إن كبح التطرف في المجتمع يشترط بقيام العدل مع الناس من قبل الحكام والأمراء ، ويلزم على الأمراء أن يقوموا بمنع الظلم على الناس وأن يبذلوا الجهود لتطويرهم وترقيتهم ، وإن لم يكن هناك عدل ، فإظهار رد الفعل فطري ” [3] .
ومع تسليط الضوء على التوتر ومنع سبل التطرف في المجتمع في خطابه الطويل ، قال الشيخ القاضي هذه الكلمات للرئيس الإيراني أيضاً ، داعياً إلى تطبيق العدل واتخاذ الخطوات في ضوء العدل الإسلامي ، لينتفع بها الناس . ولا يعلم كثير من الناس أن مستشاري الأمراء من البلدان العربية والإسلامية كانوا يزورون الشيخ القاضي في بعض الأحيان ويتبادلون الآراء ويستفيدون منه على الأحكام الشرعية الإسلامية ، ولذا لاحظنا أن السفراء من البلدان الإسلامية كانوا يأتون إليه ويتبادلون الآراء معه حينما كان الشيخ القاضي على مرض الوفاة ” [4] .
الجدير بالذكر أن الشيخ القاضي كان يتمتع بالعلاقة الوطيدة مع الفقهاء والعلماء من البلدان العربية والإسلامية ، وكان يستفيد من البحوث التي تمت على مواضيع الفقه والأصول الإسلامي في الجامعات العربية والإسلامية ، وأحياناً يلتقي مع أساتذة الكليات الشرعية والدراسات الإسلامية . وقد قدم عدداً من البحوث القيمة في الندوات العربية والإسلامية وخاصةً في مؤتمرات مجمع الفقه بجدة . ” وكانت له علاقة وطيدة مع الأستاذ جاد الحق ، شيخ الأزهر الأسبق ، زار الشيخ القاضي مصر مرات عديدةً ، وخاطبهم . وخلال خطابه أمام أساتذة جامعة الأزهر باللغة العربية ، شدد على ضرورة رفع عَلَم القرآن والسنة واتخاذ الأصول الإسلامية لقيام العدل والاتحاد ” [5] .
التواضع :
يعد التواضع من أهم جوانب الحياة الخلقية ، ولابد لنا أن نختاره في حياتنا اليومية . كان الشيخ القاضي يمتاز بين أقرانه بسبب حبه واحترامه للأساتذة والمدارس التي تعلم فيها ، وكان له حب عميق للمدارس والمعاهد التي تعلم فيها وشرب من مناهلها ، فإنه قام طوال حياته بالإشراف على المدرسة المحمودية القائمة في دمله حيث حصل على العلوم الابتدائية ، وهكذا يذكر دائماً عن المدرسة في مدينة مئوناته بهنجن وغيرها . وكان ينظر إلى دارالعلوم ديوبند بنظرة العقيدة والمحبة ، وكان يحب أن يزورها مراراً و تكراراً .
وكان له حب عميق لأساتذته ، فيفتح لسانه عنهم بكل حذر ولا يقول أي شيئ لا يليق بمناصبهم ، ويدافع عنهم في كل المراحل من حياته . وهكذا قد نجح الشيخ القاضي في اكتساب التقدير والامتنان من أساتذته الكبار مثل العلامة فخر الحسن والعلامة معراج الحق والشيخ محمد حسين البيهاري والعلامة المقرئ محمد طيب وغيرهم . ويقول الشيخ خالد سيف الله الرحماني : ” قد لاحظت مراراً أن العلامة فخر الحسن كان يقوم بذكر الشيخ القاسمي أثناء الدرس بالفخر والامتنان ، ويمدح له ويصف مقدرته العلمية والدعوية ، وهكذا رأيت العلامة معراج الحق أكثر من مرة أنه زار الشيخ القاضي في منزل الضيوف بدارالعلوم ، وقدم له الوسادة ( تكيه ) ، وسعى أن يجلس بجنبه ، ولكن الشيخ القاضي قام بتقديم الوسادة له وجلس أمامه كطالب رشيد ” [6] .
من الواقع أن الصبر والتوكل على الله من أهم أمثلة القيم الخلقية ، والشيخ القاضي كان يصبر في جميع الأمور ويؤمن بالقضاء والقدر ، كما يذكر القاضي محمد تقي العثماني قصةً عن الشيخ القاضي حينما لقيه في مؤتمر مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في مملكة البحرين : ” حينما أخبرني الشيخ القاضي أنه مصاب بمرض السرطان ، فبدأ جسمي يرتجف ، ولكن الشيخ القاضي كان يتكلم عن مرضه بحيث إنه مصاب بالمرض العادي مثل الحمى ، ولا يظهر أثر المرض من كلامه ، وحينما سألت عن مرضه ، فقال : أكرمني الله تعالى بفضله وكرمه ، ويعتبر الأطباء هذا المرض مهلكاً ولا شفاء له من العلاج ، ولكن العلاج أصبح لي مفيداً ، وقد نصحني الأطباء بأن لا أسافر ، ولكنني وصلت هنا بعد سفر طويل ، وبحمد الله أقوم بكل الأعمال اللازمة ” [7] .
يتجلى اهتمام الشيخ القاسمي بالقيم الخلقية في العديد من جوانب فكره ، ومن أبرز هذه القيم :
التقوى والورع : يشجع القاسمي على التقوى والورع كقيمة جوهرية في حياة المسلم ، حيث تدعو إلى الخوف من الله والالتزام بأوامره واجتناب نواهيه .
العدل والإنصاف : يؤكد القاسمي على أهمية العدل والإنصاف في التعامل بين الناس ، ويرى أن تحقيق العدل هو أساس بناء مجتمعات مستقرة وسعيدة .
الأمانة والصدق : يعتبر القاسمي الأمانة والصدق من أهم الصفات التي يجب أن يتحلى بها المسلم ، حيث إنها تشكل أساس الثقة بين الناس وتعزيز التعاون .
الكرم والشجاعة : يدعو القاسمي إلى الكرم والشجاعة كصفتين حميدتين للمسلم ، حيث يعبر الكرم عن عظمة النفس والشجاعة عن قوة الإيمان .
التواضع والزهد : يشجع القاسمي على التواضع والزهد في الدنيا ، ويرى أن ذلك يزيد من قرب العبد من ربه ويجعله أكثر سعادةً واطمئناناً .
وفي الختام ، من المناسب أن أذكر هنا أن شخصيته كانت شخصيةً إسلاميةً وعالميةً . وبذل كل جهوده المستطاعة طوال حياته في إصلاح المجتمع الذي يعيش فيه المواطنون بكل شرف واحترام مع مراعاة القيم ا الخلقية والاجتماعية في كل شعبة من شعب الحياة . وأنه أنجز هذه الأمور عن طريق المنصات المتوافرة لديه بما فيها الإمارة الشريعة وهيئة الأحوال الشخصية لمسلمي الهند والمجلس الملي لعموم الهند ومجمع الفقه الإسلامي بالهند وغيرها . إن القيم الخلقية التي أرساها الشيخ القاضي مجاهد الإسلام القاسمي تمثل إرثاً ثميناً للإسلام والحضارة الإنسانية . هذه القيم لا تزال ذات أهمية كبيرة في عالمنا المعاصر ، حيث تساهم في بناء مجتمعات أكثر عدلاً وسلاماً ورخاءً .
* الأستاذ المساعد ، المركز الثقافي العربي الهندي ، الجامعة الملية الإسلامية ، نيو دلهي .
[1] العلامة نور عالم خليل الأميني ، الفقيه الهندي الفريد القاضي مجاهد الإسلام القاسمي ، مجلة الداعي ، العدد 3 – 4 ، السنة 26 ، 2002م ، دارالعلوم ديوبند ، ص 125 .
[2] العلامة نور عالم خليل الأميني ، الفقيه الهندي الفريد القاضي مجاهد الإسلام القاسمي ، مجلة الداعي ، العدد 3 – 4 ، السنة 26 ، 2002م ، دارالعلوم ديوبند ، ص 63 .
[3] الشيخ أمين العثماني ، علاقة الشيخ القاضي بالعالم الإسلامي ، عدد خاص عن القاضي مجاهد القاسمي لمجلة معارف قاسم جديد الشهرية ، العدد 6 ، 7 ، 8 ، ( يونيو ، يوليو ، أغسطس ) 2002م ، ص 32 .
[4] المصدر السابق .
[5] نفس المصدر ، ص 33 .
[6] نفس المصدر ، ص 38 .
[7] القاضي محمد تقي العثماني ، شخصية منفردة ، عدد خاص عن القاضي مجاهد القاسمي لمجلة معارف قاسم جديد الشهرية ، العدد 6 ، 7 ، 8 ، ( يونيو ، يوليو ، أغسطس ) 2002م ، ص 245 – 246 .