الطب النبوي : بين العلم والدين : دراسة تحليلية معاصرة ( الحلقة الأولى )
يوليو 9, 2025رحلة ” الفوز العظيم ” للشيخ حبيب الرحمن خان الشرواني : دراسة تحليلية ( الحلقة الثانية الأخيرة )
يوليو 9, 2025دراسات وأبحاث :
القصيدة العينية لمتمم بن نويرة في رثاء أخيه : دراسة فنية
د . طلحة فرحان الندوي *
في أدب الرثاء العربي ، ترتقي بعض القصائد إلى مصاف الخلود ، حيث تحمل بين أبياتها مشاعر صادقةً وأحزاناً عميقةً تختزل تجربةً إنسانيةً قلما نجد لها نظيراً . ومن أبرز هذه الأعمال ، القصيدة العينية لمتمم بن نويرة ، التي أبدعها في رثاء أخيه مالك بن نويرة . جاءت هذه القصيدة لتكون شاهدةً على محبة خالصة وفقد أليم ، حيث يسطع فيها أسمى معاني الأخوة والوفاء ، ممزوجةً بحزن نبيل يتجلى في كل بيت .
متمم بن نويرة ، نسبه وصفاته :
هو شاعر مخضرم عاش في الجاهلية والإسلام ، واسمه متمم بن نويرة بن عمرو بن شداد ، ينتمي إلى بني ثعلبة بن يربوع ، أحد بطون قبيلة بني تميم . كان متمم على الرغم من قصر قامته وإصابته بالعور ، فارساً شجاعاً يحظى بمكانة بارزة بين قومه [1] . ذات مرة وقع متمم في الجاهلية أسيراً في أيدي بني تغلب ، لكنه ظل شامخاً بفروسيته وشجاعته [2] .
إسلامه ودوره في الإسلام :
دخل متمم الإسلام مع قومه ، وحسن إسلامه . ثم عيَّنه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وأخاه مالكاً عاملين على جمع صدقات قومهما بني حنظلة . وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ارتدت بعض القبائل العربية ورفضت الانصياع للسلطة المركزية في المدينة ، وكان بنو حنظلة من بين هذه القبائل .
ما إن ظهرت هذه الفتنة حتى أرسل الخليفة أبو بكر الصديق جيوشاً لمحاربة المرتدين ، ووجه خالد بن الوليد إلى بني حنظلة . فقتل خالد عدداً كبيراً من بني حنظلة ، ومن بينهم مالك بن نويرة ، ثم أقدم على إحراق جثته في حادث أثار الجدل .
موقف متمم بعد مقتل أخيه :
طلب متمم بن نويرة من أبي بكر أن يثأر لأخيه من خالد بن الوليد بسبب مقتل أخيه ، لكن أبا بكر رفض الاستجابة لهذا الطلب . ثم كرر متمم محاولته في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، إلا أن عمر لم يستجب أيضاً ، رغم استيائه من تصرف خالد بن الوليد .
عاش متمم مدة بعد وفاة عمر بن الخطاب ورثاه ، مما يدل على العلاقة التي ربطته بالخليفة الثاني . ويعتقد أن وفاته كانت حوالي سنة 30هـ ( 650م ) [3] .
شاعريته ومكانته الأدبية :
اشتهر متمم بن نويرة بأنه شاعر فحل ، على الرغم من قلة إنتاجه الشعري . برع بشكل خاص في شعر الرثاء ، الذي خص به أخاه مالك بن نويرة . وكان شعره يتميز بصدق العاطفة وعمق الأسى ، مما جعله يصنف من أبرز شعراء الرثاء في التراث العربي .
خصائص الشعر العربي في عصر صدر الإسلام :
قبل أن نتناول قصيدة متمم بن نويرة العينية وأفكارها العامة وخصائصها الأدبية والفنية ، ينبغي لنا أن نلقي الضوء بالإيجاز على الخصائص العامة للشعر العربي في عصر صدر الإسلام ، الذي شهد تحولات كبيرةً في الأسلوب والمعنى .
من حيث اللفظ والمعنى :
اختفى في الشعر الإسلامي العديد من الألفاظ والمعاني الجاهلية التي تتناقض مع تعاليم الإسلام ، خاصةً تلك المعاني المتعلقة بالعصبية القبلية ، والغزل الفاحش ، والحديث عن الخمر . تحولت اللغة الشعرية في العصر الإسلامي نحو لغة أبسط وأقرب إلى الوعي الديني ، فابتعد الشعر عن التعقيد والمبالغة ، ليقترب أكثر من روح الإسلام ، وينقل معاني سامية تتناسب مع المبادئ الدينية .
من حيث الأسلوب :
لم يكن أسلوب الشعر في العصر الإسلامي بنفس القوة والجزالة التي كان عليها في الشعر الجاهلي . فالشاعر في العصر الجاهلي كان يعبر بحرية تامة دون قيود ، بينما كان الشاعر في العصر الإسلامي مجبراً على الالتزام بتعاليم الدين في اختياره للكلمات والمعاني . وكان هناك تحول في التركيز على القيم الروحية والأخلاقية ، مما جعل الأسلوب أكثر اعتدالاً وبعداً عن التعقيد الذي كان سائداً في الجاهلية .
من حيث العاطفة :
كانت العاطفة في الشعر الإسلامي صادقةً وطبيعيةً ، بعيدةً عن التكلف والرياء . فالإسلام كان يحرص على أن تكون مشاعر الشاعر خالصةً وصافيةً ، بينما كان الشاعر الجاهلي أيضاً يتسم بالصدق في مشاعره ، وذلك بسبب طبيعته البدوية التي ترفض الكذب . لكن مع الإسلام ، كانت العاطفة أكثر انسجاماً مع التوجيهات الدينية التي تدعو إلى الإخلاص والصدق في التعبير .
من حيث الأغراض الشعرية :
ظهرت في الشعر الإسلامي أغراض جديدة لم تكن موجودةً في الشعر الجاهلي ، مثل شعر الجهاد الذي يمجد الشهادة ويدعو للتضحية في سبيل الله . كما برز شعر الدعوة الإسلامية الذي يسعى لنشر الإسلام وتعريف الناس بتعاليمه ومبادئه . إلى جانب هذه الأغراض ، استمرت الأغراض الشعرية التقليدية مثل المدح والرثاء ، لكن جميعها كانت ملتزمةً بالقيم والمبادئ الإسلامية ، وكانت ألفاظها ومعانيها تتوافق مع الشريعة الإسلامية .
مراثي متمم بن نويرة ومكانتها في الأدب العربي :
حظيت مراثي متمم بن نويرة بمكانة مميزة في الأدب العربي ، حيث أصبحت مثالاً يُحتذى به بين العرب . ووصلت أشعاره إلى أقاصي البلاد ، فحملها الركبان وحفظها الناس عن ظهر قلب ، بل واستشهدوا بها في مواقفهم المختلفة .
ومن القصص التي تبرز تأثير شعره ما ورد عن السيدة عائشة رضي الله عنها ، عندما توفي أخوها عبد الرحمن بن أبي بكر . فلم تتمكن من حضور وفاته ، ولكنها زارت قبره بعد وفاته وأعربت عن حزنها الشديد قائلةً : ” أما والله لو حضرتك لدفنتك حيث مت ، ولشهدتك ما زرتك ” [4] .
وفي لحظة الحزن هذه ، استعانت السيدة عائشة بشعر متمم بن نويرة للتعبير عن مشاعرها ، متمثلةً ببيتيه الشهيرين ، مشيرةً بذلك إلى العلاقة الوثيقة التي جمعتها بأخيها عبد الرحمن [5] .
وكنا كندماني جذيمة حقبة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تــــفــرقنا كأني ومالكا لـــطــول اجتماع لم نبت ليلة معا
كان لرثاء متمم تأثير كبير في نفس الخليفة عمر بن الخطاب ، حيث كان يبعث في داخله ذكريات أخيه زيد الذي استشهد في معركة اليمامة . وروي أنه كان يقول : ” رحم الله زيداً ، هاجر قبلي ، واستشهد قبلي ، ما هبت الرياح من تلقاء اليمامة إلا أتتني برياه ، وما ذكرت قول متمم بن نويرة إلا ذكرته ، وهاج بي شجناً ” [6] ، ثم قرأ نفس البيتين اللذين قرأتهما السيدة عائشة عند زيارتها قبر أخيها ” وكنا كندماني . . . . . لم نبت ليلة معا ” [7] .
هذا الموقف يظهر أن شعر متمم لم يكن مجرد كلمات مرصوفة ، بل كان وسيلة تعبير حية عن مشاعر الفقد والحزن ، واستطاع أن يلامس القلوب ، ويعبر عن مشاعر الناس في أوقاتهم الحرجة . لقد أبدع متمم في تصوير الحزن والفقد بأسلوب مؤثر ، مما جعل مراثيه تخلد في الذاكرة العربية ، ويستعين بها العرب للتعبير عن آلامهم الخاصة .
كما نالت مراثي متمم بن نويرة في أخيه مالك استحساناً كبيراً من النقاد والرواة ، حيث تصدرت قائمة أفضل المراثي العربية وأروعها . ومن أبرز الشهادات التي تثبت مكانته ، قول ابن سلام : ” والمقدم عندنا متمم بن نويرة ” [8] ، مؤكداً أن مراثيه تجسد أرقى صور الحزن والفقد . أضاف ابن سلام أن متمماً أبدع وأجاد في تصوير أحزانه على أخيه مالك ، حيث قال في قصيدته العينية الشهيرة [9] :
لعمري وما دهري بتأبين هالك ولا جزع مما أصاب وأوجعا
وقيل : إنه حين أنشد متمم هذه القصيدة عند عمر بن الخطاب تأثر بها تأثراً عميقاً وأثنى عليها قائلاً : ” هذا والله التأبين ، ووددت لو أني أحسن الشعر فأرثي أخي زيداً بمثل ما رثيت به أخاك . فقال متمم : لو أن أخي مات على ما مات عليه أخوك ما رثيته . فقال عمر : ما عزاني أحد عن أخي بمثل ما عزاني به متمم ” [10] .
وقد ذكر ابن حجر رواية تسلط الضوء على مدى إعجاب الشاعر الحطيئة بشعر متمم بن نويرة ورثائه المؤثر ، والتي تجسد أيضاً تأثير هذه المراثي على معاصريه . ففي هذه الرواية ، استفسر الخليفة عمر بن الخطاب من الحطيئة عن رأيه في شعر متمم ، فقال له : ” هل رأيت أو سمعت بأبكى من هذا ؟ ” مشيراً إلى التأثير العميق الذي تتركه مراثي متمم في النفوس . فأجاب الحطيئة بصدق وإعجاب قائلاً : ” لا والله ، ما بكى بكاء عربي قط ، ولا يبكيه ” [11] .
هذه الإجابة تعكس تقديراً كبيراً لشعر متمم ، إذ اعتبر الحطيئة أن بكاء متمم ، الذي تجسد في مراثيه ، يحمل صدقاً وعاطفةً فريدةً لا مثيل لها في الشعر العربي . فهو لم يكن مجرد شاعر يرثي أخاه ، بل كان ينقل حزنه وألمه بأسلوب عميق يصل إلى أعماق المستمع والقارئ ، مما جعل شعره أيقونةً في الرثاء وأبكى من يقرؤه أو يسمعه .
ينبع هذا الإعجاب العميق برثاء متمم من رهافة إحساسه وصفاء مشاعره ، والتي انعكست بوضوح في أشعاره . لقد كانت عاطفته الحزينة تنساب في أبياته ، فتحمل معها آلامه وأحزانه في صورة مؤثرة ، ما إن تستمع إليها الأذن حتى تخترق أعماق القلب ، فتوقظ فيه مشاعر الحزن وتثير دفين الأسى والشجن .
تميزت مراثي متمم برقة روحه وصدق عاطفته ، حيث تجلت أحزانه في صور شعرية مؤثرة تلامس القلوب وتثير مشاعر الحزن واللوعة . كان شعره وسيلةً لنقل مأساته الشخصية بأسلوب فني راقٍ ، مما جعله خالداً في ذاكرة الأدب العربي .
القصيدة العينية لمتمم بن نويرة في رثاء أخيه :
قد أطلق الأصمعي على هذه القصيدة لقب ” أم المراثي ” ، دلالةً على تفردها بين مراثي العرب ، على الرغم من أن الجاحظ لم يوافقه في هذا الرأي [12] . ومن جهته ، أشار أبو العباس المبرد إلى أن قصيدة متمم تعد من أبرز المراثي المختارة في الشعر العربي [13] . كما أثنى ابن الأثير على إبداع متمم قائلاً : ” وأما متمم فلم يختلف في إسلامه ، كان شاعراً محسناً لم يقل أحد مثل شعره في المراثي التي رثى بها أخاه مالكاً ” [14] .
نقدم فيما يلي ، نخبةً مختارةً من أبيات هذه القصيدة ، علها تنقل للقارئ شيئاً من صدق المشاعر التي حملها متمم وهو يرثي أخاه :
لعمري وما دهري بــــتــأبــين هالك ولا جزع مـــــمـــــا أصـــــــاب فــــأوجــعــا
لقد كفن الـــمـــنـــهال تحت ردائه فتى غير مـــــبـــــطان الـــــعشيات أروعا
ولا بــــرمـــا تـــهـــدي النساء لعرسه إذا القشع من حس الشتاء تـــقـــعــقــعا
لبيب أعان اللـب مـــنـــه ســـمــاحـــة خصيب إذا ما راكب الجدب أوضـعا
تراه كصدر السيف يــهــتز للندى إذا لم تجد عند امرئ السوء مـــطـمعا
وإن تلقه في الشرب لا تـلق فاحشاً على الـــــكـــأس ذا قـــاذورة مـــتـــزبـعا
وإن ضرس الــــغــــزو الرجال رأيته أخا الحرب صدقاً في اللـــقاء سميدعا
أبى الـــــصــــبـــر آيـات أراها وأنني أرى كـــــل حـــــبــــل بــعد حبلك أقطعا
وكـــنـــــا كندماني جذيمة حقبة مــــن الــــدهـــر حــتــى قيل لن يتصدعا
فــــلــــمـــا تــفــرقنا كأني ومالكا لـــــطـــــول اجـــــتـــمــاع لـم نبت ليلة معا
فإن تـــــــكـــــن الأيام فــــرقن بيننا فــــقـــــد بان مـــحـمودا أخي حين ودعا
سقى الله أرضا حلــــهـــا قبر مالك ذهاب الـــــغــــوادي الــمدجنات فأمرعا
تقول ابنة الــــعـــمـــري مالك بعدما أراك حــــديــــثـــــا نـــاعــــم الــبال أفرعا
فقلت لها طول الأسـى إذ ســألـتني ولــــــوعــــة حزن تــــتـــرك الــوجه أسفعا
وإني وإن هازلــــتــــني قــد أصابني من البث ما يبكي الحزين الــــمـفجعا
قـــــعــــيـــدك ألا تـــسمعــيني ملامة ولا تـــــنــــكــــئـــي قــرح الـفؤاد فييجعا
فلو أن ما ألقى يــــصــــيـــب مــتالعا أو الركن من سلمى إذا لــتــضــعــضعا
ألم تأت أخبار الـــمـحل سراتكم فيغضب منكم كل من كان موجعا
بمشمته إذ صادف الحتف مالكا ومشــــهــــــده مــــا قــــد رأى ثـــــم ضــيعا
أآثـــرت هـــــدمــــــا بالــــيــــا وسويــة وجـــــئـــــت بــــهــــا تـــعـــدو بـريدا مقزعا
فلا تفرحن يوماً بــــــنـــــفسك إنني أرى الـــــمــوت وقـــاعـا علـى من تشجعـا
لـــــــعــــــــلـــــك يــــومـــاً أن تــلم ملمة عـــلـــيـــك مــن اللائي يدعنك أجـــدعـــا
نـــعيت امرأ لـو كان لحمك عنده لآواه مـــــجـــــمـــــوعـــــاً لـــه أو مـــــمـزعـا
فلا يـــــهــنـــئ الواشين مقتل مالك فـــــقــــــد آب شــــــانـــــــيـــــه إيــابا فودعا
هذه القصيدة تحتوي على واحد وخمسين بيتاً كما وردت في المفضليات [15] ، وتعد واحدةً من أبرز المراثي الخالدة في تراث الشعر العربي القديم . ليست هذه القصيدة مجرد تعبير عن الحزن ، بل تحمل في طياتها إرثاً شعرياً وإنسانياً كبيراً ، حيث شكلت الفاجعة التي دفعت متمماً إلى نظمها محوراً للجدل بين النقاد والرواة والفقهاء عبر التاريخ الإسلامي ، نظراً للظروف التي أحاطت بمقتل أخيه والملابسات المرتبطة بها .
عند التمعن في متن هذه العينية ، نجد أن متمماً عبر عن حزنه وألمه العميق من خلال إحصاء مناقب أخيه وخصاله النبيلة بأسلوب شعري يحمل ملامح الصدق والحرقة . اختار الشاعر وزن الطويل ، وهو من الأوزان التي تميز بها الشعر العربي القديم ، لما يمتاز به من سعة ومرونة تساعد على التعبير عن المشاعر المتدفقة . هذا الاختيار جاء انعكاساً لحالته النفسية المضطربة والمليئة بالتوجع والأسى .
إن عينية متمم لا تقتصر على كونها مرثيةً عاديةً فحسب ، بل تتجاوز ذلك لتكون وثيقةً أدبيةً وشهادةً على عمق الروابط الإنسانية والتجارب النفسية التي عاشها الشاعر . تحمل القصيدة معاني الفقد واللوعة في أبيات جمعت بين قوة اللفظ وصدق العاطفة ، مما جعلها تنفذ إلى القلوب وتبقى حاضرةً في ذاكرة الأدب العربي .
الأفكار العامة في نص القصيدة العينية :
- يركز الشاعر في بداية قصيدته على إظهار مناقب أخيه مالك وصفاته ، مبرزاً أهم خصاله النبيلة ، وهي الكرم والشجاعة . ويسرد مآثره بطريقة تظهر اعتزاز الشاعر به ، مستحضراً مواقف وأحداث تؤكد عظمة شخصيته ، مما يخلق صورة مثالية للأخ الذي يعد نموذجاً يحتذى به في المجتمع .
- ثم يعبر الشاعر عن حزنه العميق على فقدان أخيه ، ويخص القبر والأرض التي تحتضنه بالدعاء ، طالباً لهما الخير والبركة . كما يسترجع ذكرياتهما المشتركة ، متوقفاً عند اللحظات الجميلة التي جمعتهما ، مما يزيد من وقع الفقدان وألمه .
- ثم ينتقل الشاعر إلى ذكر المصاب الذي يواجهه ويتوجه باللوم لزوجته التي عاتبته على حزنه المفرط ، ويشبه حاله بالنوق التي فقدت صغارها ، مما يعكس شدة اللوعة والأسى . وسط هذا الحزن ، يظهر الشاعر كبرياءه واعتزازه بانتمائه لقومه ، الذين يرون الصبر والقوة في مواجهة المصائب من شيم العظماء .
- يخص الشاعر في نهاية القصيدة بالحديث عن الشامتين بمقتل أخيه ، وفي مقدمتهم المحل بن قدامة بن أسود بن أوس بن يربوع [16] . يعبر الشاعر عن استيائه من مواقفهم ، مظهراً وفاءه وولاءه لأخيه حتى بعد وفاته ، ومؤكداً على ازدرائه لهؤلاء الذين يفرحون بمآسي الآخرين .
الدراسة الفنية للقصيدة :
بعد إلقاء النظر على آراء النقاد والأدباء للقصيدة العينية ودراسة الأفكار العامة التي وردت فيها ننتقل إلى تحليل الجوانب الفنية للقصيدة ، وذلك للكشف عن مكامن الجمال والإبداع فيها ، بدءاً بعاطفة الشاعر ، التي تعد المحرك الأساسي لها .
العاطفة في المرثية :
- الصدق العاطفي وسلامة الإحساس : جاءت عاطفة متمم صادقة للغاية ، حيث تعكس مدى حبه العميق لأخيه مالك وحزنه الشديد على فقدانه . كانت هذه العاطفة سويةً ومألوفةً ، خاليةً من أي مبالغة أو شذوذ ، مما جعلها تنبض بالواقعية والصدق . فهي عاطفة أخوية صافية تظهر رابطاً قوياً بين الشاعر وأخيه ، وتبرز ألم الفقدان وشعور الفراق الذي اجتاح قلبه .
- العاطفة الفردية مقابل العاطفة الإسلامية : تميزت عاطفة الشاعر في المرثية بأنها ذات طابع فردي ؛ فقد كانت موجهةً بشكل كامل نحو أخيه مالك ، دون أن تمتد لتشمل المجتمع الإسلامي أو تعبر عن مبادئه العامة . انحصر شعور الحزن في نطاق العلاقة الأخوية والعشائرية ، مما يشير إلى غلبة الروابط القبلية على الروح الإسلامية في هذه القصيدة ، فيمكن لنا تحليل بعد العاطفة في النقاط التالية :
- تفوق العاطفة القبلية : تغلبت عاطفة الأخوة الصادقة على الشاعر ، مما أدى إلى إقصاء البعد الإسلامي الذي يدعو إلى تعميم مشاعر التآزر والتضامن لتشمل المجتمع بأسره .
- الصدق الشخصي : هذا التركيز على الفردية في العاطفة يجعل النص حميمياً وعميق التأثير ، لكنه في الوقت ذاته يظهر محدودية تأثير العقيدة الإسلامية في صقل وجدان الشاعر حين نظم هذه القصيدة .
أسلوب الشاعر في مرثيته :
يظهر أسلوب متمم بن نويرة في مرثيته لأخيه مالك خصائص فنيةً متميزةً ، وتبرز براعة الشاعر وتمكنه من اللغة العربية وأساليبها . فيمكن تقسيم خصائص أسلوبه إلى النقاط التالية :
- القوة والمتانة والصلابة : تمتاز قصيدة متمم بالقوة والصلابة ، حيث إن الأسلوب نفسه يعكس حالة الشاعر النفسية والشعورية التي كانت مشبعة بالحزن العميق لفقدان أخيه . لقد كانت الكلمات التي اختارها الشاعر متينةً ، متشابكةً مع معانيها ، مما جعل القصيدة شديدة التأثير . هذه القوة نابعة من الطبيعة الجافة والصلبة للبيئة الجاهلية البدوية التي نشأ فيها ، والتي انعكست على أسلوبه الأدبي ، فكانت قصيدته متراصةً وغير متكلفة ، تنساب بسلاسة وتوتر في آن واحد .
- الفصاحة والقوة اللغوية : اعتمد الشاعر على لغة عربية فصيحة خالية من أي ضعف أو ركاكة ، وهو ما يعد من سمات الشاعر المتمكن من أدواته . يعكس استخدامه للألفاظ القوية شدة الكارثة التي حلت عليه وعمق المصيبة التي عاناها . هذه القوة اللغوية ليست مجرد تراكيب بديعة ، بل هي أيضاً وسيلة لتوصيل شعور الشاعر بالهول والمفاجأة التي فاجأت قلبه . فألفاظه التي اختارها تجعل القارئ يشعر بمقدار الحزن والألم العميق ، ويخلق جواً عاماً من الفاجعة .
- الابتعاد عن المحسنات البديعية المبالغة : كان أسلوب متمم في القصيدة بعيداً عن المبالغة في استخدام المحسنات البديعية التي قد تشوه المعنى أو تشتت الانتباه عن الرسالة المركزية للنص . جاءت محسناته البديعية بشكل عفوي وغير متكلف ، مما جعل القصيدة طبيعيةً في تدفقها ، وهذا يدل على براعة الشاعر وقدرته على استخدام الأدوات البلاغية دون افتعال أو تعقيد . كما أنه تجنب الأساليب المعقدة مثل التقديم والتأخير أو الجمل المعترضة التي قد تؤثر على الفصاحة والبلاغة . من هنا ، نرى أن الشاعر كان يولي أهميةً كبيرةً للوضوح والصدق في التعبير ، ويبتعد عن الزخرف اللفظي الذي قد يشتت الفكرة .
الخيال في القصيدة :
وأبرز ما يتميز به قصيدة متمم بن نويرة هو أسلوبه وخياله الشعري . فقد أظهر خياله تألقاً وابتكاراً ، وكان متنوعاً ومحلقاً في تصوير المشاهد والمعاني . لعبت البيئة الجاهلية البدوية دوراً كبيراً في تشكيل هذا الخيال ، حيث استمد متمم معظم صوره الشعرية من مظاهر الحياة البدوية التي عاشها . استخدم الشاعر رموزاً وصوراً مألوفةً لأبناء البيئة الصحراوية التي تميز تلك البيئة .
على الرغم من أنه عاش في العصر الإسلامي ، إلا أن قصيدته لم تظهر تأثراً واضحاً بالبيئة الإسلامية ، بل جاءت متمسكةً بجماليات الشعر الجاهلي وصفائه . لذلك يمكن وصف خيال متمم بأنه بدوي أصيل ، بسيط وسهل الفهم ، خال من التعقيد أو التكلف . هذا الخيال كان قادراً على رسم صور حية ومعبرة تعكس معانيه العقلية ومشاعره الداخلية بوضوح .
تأثير الخيال على القارئ :
نجح متمم في استخدام خياله بشكل يجعل القارئ يتفاعل معه بشدة ، فيشعر بعمق مصيبته ويعيش ألمه . كان للقارئ نصيب في استيعاب حجم الفاجعة التي تعرض لها متمم بعد مقتل أخيه ، مما يجعل القصيدة لا تقتصر على البوح الشخصي ، بل تتجاوز ذلك إلى إشراك المتلقي في المشاعر .
الموسيقى الشعرية :
أضافت الموسيقى الشعرية بعداً جمالياً آخر لخيال متمم ، حيث استثمر تفعيلات البحر الطويل بأفضل صورة ممكنة . واستطاعت الموسيقى أن تحمل أحاسيس الشاعر وتعبر عنها بدقة ، مما جعل القصيدة تنقل شوقه وحبه العميق لأخيه ، ووفاءه له ، إضافة إلى شعوره بالحقد والانتقام تجاه من تسببوا في مقتله . كما أظهرت الموسيقى اعتزاز متمم بصفات أخيه النبيلة وخصاله الكريمة .
جمع متمم في قصيدته بين خيال بدوي صادق وبسيط وبين موسيقى عذبة ومعبرة ، مما جعلها لوحةً فنيةً متكاملةً تعكس مشاعره وأفكاره بوضوح وتترك أثراً عميقاً في نفس القارئ .
* أستاذ مساعد ، قسم اللغة العربية وآدابها ، جامعة مولانا آزاد الوطنية الأردية ، حيدرآباد .
[1] الجامع في تاريخ الأدب العربي ، الأدب القديم ، حنا الفاخوري ، دار الجيل بيروت ، لبنان ، الطبعة الأولى ، 1986م ، ص 432 .
[2] تاريخ الأدب العربي ، الأدب القديم ، عمر فروخ ، دار العلم للملايين ، بيروت ، الطبعة الرابعة ، 1981م ، الجزء الأول ، ص 301 .
[3] الجامع في تاريخ الأدب العربي ، الأدب القديم ، حنا الفاخوري ، دار الجيل بيروت ، لبنان ، الطبعة الأولى ، 1986م ، ص 433 .
[4] كتاب الأغاني ، أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني ، تحقيق : إحسان عباس وإبراهيم السعافين وبكر عباس ، دار صادر بيروت ، لبنان ، الطبعة الثالثة ، 2008م ، المجلد الخامس عشر ، ص 209 .
[5] نفس المصدر ، ص 209 .
[6] شرح شواهد المغني ، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي ، تحقيق وتعليق : أحمد ظافر كوجان ، لجنة التراث العربي ، سنة الطباعة غير مذكورة ، ص 569 .
[7] نفس المصدر ، ص 569 .
[8] طبقات فحول الشعراء ، محمد بن سلام الجمحي ، المطبعة وعام الطباعة غير مذكورين ، السفر الأول ، ص 204 . يريد ابن سلام أنه يقدم متمماً على أخيه مالك في الشعر ، وكلاهما شاعر .
[9] نفس المصدر ، ص 209 .
[10] كتاب الأغاني ، أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني ، تحقيق : إحسان عباس وإبراهيم السعافين وبكر عباس ، دار صادر بيروت ، لبنان ، الطبعة الثالثة ، 2008م ، المجلد الخامس عشر ، ص 209 والشعر والشعراء ، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري ، تحقيق وشرح : أحمد محمد شاكر ، دار المعارف ، مصر ، الطبعة الثانية ، 1958م ، الجزء الأول ، ص 338 .
[11] الإصابة في تمييز الصحابة ، شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن حجر علي العسقلاني ، تحقيق : عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، الطبعة الأولى ، 1450هـ ، الجزء الخامس ، ص 567 .
[12] العقد الفريد ، أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي ، تحقيق : دكتور عبد المجيد الرحيني ، دار الكتب العلمية بيروت ، لبنان ، الطبعة الأولى ، 1983م ، الجزء الثالث ، ص 220 – 221 .
[13] الكامل ، أبو العباس محمد بن يزيد المبرد ، حققه وعلق عليه وصنع فهارسه : دكتور محمد الدالي ، مؤسسة الرسالة بيروت ، لبنان ، الطبعة الثالثة ، 1998م ، المجلد الثالث ، ص 1439 .
[14] أسد الغابة في معرفة الصحابة ، عز الدين ابن الأثير أبي الحسن علي بن محمد الجزري ، قدم له وقرظه : الدكتور محمد عبد المنعم البري والدكتور عبد الفتاح السنة والدكتور جمعة طاهر النجار ، دار الكتب العلمية بيروت ، لبنان ، سنة الطباعة غير مذكورة ، الجزء الخامس ، ص 54 .
[15] المفضليات ، المفضل بن محمد بن يعلى بن سالم الضبي ، تحقيق وشرح : أحمد محمد شاكر وعبد السلام محمد هارون ، دار المعارف ، القاهرة ، الطبعة السادسة ، سنة الطباعة غير مذكورة ، ص 265 – 270 .
[16] كان رجلاً من بني يربوع قد مر بمالك مقتولاً فلم يواره وكأنه به شامت .