الغزل الأردي محاوره ومكانته في الشعر :

الأدب العربي بين عرض ونقد : دراسة وتحليل
نوفمبر 19, 2023
” منثورات من أدب العرب ” : منهجه ومزاياه
نوفمبر 19, 2023
الأدب العربي بين عرض ونقد : دراسة وتحليل
نوفمبر 19, 2023
” منثورات من أدب العرب ” : منهجه ومزاياه
نوفمبر 19, 2023

دراسة تحليلية

الغزل الأردي محاوره ومكانته في الشعر :

دراسة تحليلية

د . قمر شعبان الندوي *

لقد صدرت العديد من البحوث والدراسات عن الغزل الأردي باللغة الأردية ؛ والغزل الأردي مادة محببة جداً لدى معلمي اللغة الأردية ، وطلابها ؛ فإنهم طالما يعالجون في كتاباتهم جمال الغزل الأردي ، وروعته ، وتاريخه ، وسماته الفنية ، وأشكاله ، ونماذجه ، والأشياء الأخرى الكثيرة التي لا حصر لها . فإن ثمة آلاف المقالات ومآت الكتب التي تم تأليفها عن الغزل الأردي باللغة الأردية . حاول البعض ربطه بالشعر الفارسي ، ولدى البعض : جذوره ممتدة إلى الغزل العربي العذري والغزل العربي الإباحي في العصر الأموي . ولدى البعض : الغزل جنس أدبي شبه وحشي ، والبعض الآخر يعرِّف به بأنه عز وكرامة لجنس الشعر . لقد أجريت أبحاث علمية جامعية في الماجستير ، والماجستير ما قبل الدكتوراة ، والدكتوراة ، وما بعد الدكتوراة حول الشعراء الأرديين من أمثال : مير تقي مير ، ومير درد ، ومؤمن خان مؤمن ، وأسد الله خان غالب ، وإبراهيم ذوق ، وجكر مرادآبادي ، وساغر خيامي ، وجوش المليح آبادي ، والعلامة محمد إقبال ، وكليم عاجز وغيرهم من الشعراء الأرديين الآخرين . ولكن كل هذه الأعمال أعدت إما باللغة الأردية أو باللغتين الإنكليزية والهندية . اللهم إلا ثمة كُتَّابٌ ومؤلفون تناولوا أعمال بعض الشعراء والأدباء الأرديين بالنقد والتحليل في اللغة العربية أيضاً ، ولكن عددهم قليل ، كما وقد نقلت بعض الأعمال الأدبية الأردية من الشعر ، والرواية ، والقصة ، والقصة القصيرة إلى اللغة العربية التي نالت إعجاب المعنيين باللغة العربية والأدب العربي في الجامعات والمؤسسات التعليمية في الوطن العربي . ومن أجدرها بالذكر الترجمة العربية المنظومة لشعر محمد إقبال ، وترجمة بعض الروايات والقصص . لقد أجريت بحوث علمية أيضاً في بعض جامعات العالم العربي ، حيث توجد أقسام اللغة الأردية . ولكن مع الاعتراف بهذه الحقيقة أن جذور الغزل الأردي متجذرة في الشعر الفارسي أو الشعر العربي ، لقد أصبح الغزل الأردي اليوم       ذا مكانة أدبية وقيمة شعرية مستقلة في الأوساط الأدبية العالمية ما جعل العديد من الشعراء الغزليين الأرديين يتبوأون مكانةً عاليةً في قائمة كبار شعراء الأدب العالمي .

ونظراً لهذه الأهمية الأدبية العالمية للغزل الأردي ، كان من الضروري أن يعالجه أحد يتقن اللغة العربية والأردية والفارسية بالدراسة والتحليل باللغة العربية ، ويقدم مميزاته ومستوى شموله ، وتاريخه ، ومراحل تطوره ، وترجمات نماذجه أمام العرب ؛ لما أن اللغة العربية هي واحدة من أقدم اللغات العالمية الحية في العالم ، والتي تتمتع أيضاً بمكانة إحدى اللغات الرسمية للأمم المتحدة . ولهذه المهمة العلمية والأدبية ربما لم يكن كاتب أفضل وأكثر ملاءمةً من الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي – رحمه الله تعالى – ، فإنه إلى جانب تضلعه من آداب هذه اللغات الثلاث ، نشأ وتربى على أحضان خبراء هذه اللغات وآدابها ، وتلقى دراساته كلها في بيئة العلم والأدب والفكر بدارالعلوم ندوة العلماء ، لكناؤ . فإن جده للأم الشيخ عبد الحي الحسني هو مؤلف الثقافة الإسلامية في الهند ، ونزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر ( الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام ) ، وكل رعنا . وخاله الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي – رحمه الله – الذي هو مربيه الأصيل أيضاً ، هو مؤلف الكتب العلمية والفكرية والأدبية والتاريخية الكثيرة ذات الشهرة العالمية ، وخالته أمة الله تسنيم هي أيضاً شاعرة محنكة ، وعالمة ذي ذوق أدبي رفيع . وأعضاء أسرته الآخرون من كبار العلماء والكتاب وأصحاب الفضل والورع والتقى ، الذين لهم جولات وصولات في اللغة والأدب والشعر والحكمة والتأليف والتفسير والترجمة .

لقد تناول الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي هذا الموضوع بعد تجارب ناجحة في الكتابة والتأليف والترجمة في جوانب مختلفة من اللغة والأدب والنقد والتاريخ والسيرة والجغرافيا والدراسات القرآنية والفقه الإسلامي . وكتابه ” الغزل الأردي : محاوره ومكانته في الشعر ” هذا ، أصلاً ، مجموعة مقالات أصدرتها جريدة ” الرائد ” الصادرة في دارالعلوم ندوة العلماء لكناؤ منجمة في عمودها الخاص بالأدب ، ثم أصدرها مكتب رابطة الأدب الإسلامي العالمية لكناؤ بهذا العنوان عام 2006م ، وهذه هي الطبعة الأولى .

الغزل الأردي : محاوره ومكانته في الشعر :

هذا الكتاب حلقة من سلسلة منشورات رابطة الأدب الإسلامي . وهو يقع في 135 صفحة ، قبل مناقشة المحتويات يقدم الكتاب عرضاً موجزاً لتاريخ الغزلين العربي والفارسي ، وطابعهما الأدبي وأهميتهما وعناصرهما وتميزهما وقوتهما العاطفية وتأثيرهما الفني والتقني في الشعر الأردي مع تسليط الضوء على الخلافات النظرية . وأما مقدمته فهي من قلم الكاتب الألمعي ، والصحافي الهندي – العربي الكبير الأستاذ السيد محمد واضح رشيد الحسني الندوي – رحمه الله – ، تحدث فيها الكاتب عن جوانب مختلفة للغزل العربي وعناصره مستدلاً بشعر البحتري وجعفر بن علبة وأبي تمام وأبي العطاء السندي والمتنبي ، وقدم الترجمة العربية لبعض شعر العلامة محمد إقبال مع توضيح الأبعاد المختلفة ومظاهر الغزل الأردي في ضوء ” مقدمه شعر وشاعري ” للكاتب والأديب الأردي الكبير ألطاف حسين حالي ، والتي توضح الاختلاف الدلالي والمنطقي بين الغزل العربي والغزل الأردي .

تتكون محتويات الكتاب من ستة محاور رئيسية ؛ بادئ ذي بدء ، حاول المؤلف اكتشاف بدايات الشعر في اللغتين العربية والفارسية ومعاني الغزل ، وظواهره ، وتأثيره في المجتمع بإيجاز مقنع ، مبيِّناً دوره في التعبير عن الآلام والأفراح ، والميول الطبيعية ، والمشاعر ، والقرائح في ضوء شعر امرئ القيس وطرفة بن العبد ، والصمة بن عبد الله وجميل بن معمر ، مفسراً مصطلحين غزليين في الشعر العربي ، ألا وهما : النسيب والتشبيب . إضافةً إلى إلقاء الضوء على الاختلافات الدلالية والتفسيرية للغزل الأردي والغزل العربي ، بذل المؤلف قصارى جهده في هذا التمهيد لتعريف القارئ الناطق بالعربية بتاريخ الغزل الأردي وتقنياته . وما حدث من اتساع في معاني الغزل الأردي والفارسي ، ووجود عناصر التزكية والروحانية ، لقد استدل لذلك بشعر خواجة فريد الدين عطار ، وجلال الدين الرومي ، وشمس تبريز ، وأمير خسرو ، وخواجة حافظ ، وحكيم سنائي ، والشيخ سعدي ، والشيرازي وغيرهم من الشعراء . ومن الناحية الفنية ، لقد ذكر الحد الأدنى والحد الأقصى لعدد الأبيات ، والبحور والقوافي والردائف ، والمطالع ، والمقاطع ، واللقب الشعري الذي يقال له في الأردية ” تخلص ” . وقد أوضح المؤلف أن اللقب الشعري هذا هو ميزة الشعر الأردي ، ولا يوجد له تصور في الغزل العربي . كما وقد تمت مناقشة عناصر الغزل الأردي وأنواعه مع الإشارة إلى أهمية المصطلحات البلاغية المختلفة من أمثال : التشبيه ، والاستعارة ، والكناية ، ونقل بعض أبيات سعدي وخسرو والشيرازي وجامي وفغاني إلى العربية . مما تتضح معاني الغزل الفارسي ، ويتبلور الفرق بين غزل اللغات ؛ العربية والفارسية والأردية .

وبعد هذا الجزء التمهيدي ، سلط الضوء على التاريخ المبكر للغزل الأردي ، وتأثير الغزل الفارسي فيه ، والمواضيع المختلفة للغزل الأردي ، وأسلوبه وأهميته في الشعر الأردي ، معالجاً مميزات مدارس أدبية لدكن ، ولكناؤ ، ودلهي ، والسمات الفنية ، والطبيعية ، والذوق ، ودقة التعبير لها ؛ مستدلاً بشعر محمد قلي قطب شاه ، والسلطان محمد قطب شاه ، ومولانا نصرتي ، وشمس الدين ولي ، وسراج الدين سراج ، والميرزا مظهر جان جانان ، ومير تقي مير ، ومير سودة ، ومير درد ، وإنشاء ، والمصحفي ، وناسخ ، وآتش ، وأمير مينائي ، وغالب ، وذوق ، ومؤمن ، وبهادر شاه ظفر ، وحالي ، وإقبال ، وجكر ، وشبلي ، وأكبر ، الذين هم يمثلون هذه المدارس الأدبية والشعرية .

والمحور الرئيسي الثالث للكتاب ، هو تأثير الغزل الأردي في مختلف مجالات الحياة البشرية . وانعكاس العواطف والمشاعر الإنسانية ، واستخدام الاستعارات والكنايات ، وذكر الخمر والخمارة ، والساقي ، ووصف القرائح والآلام النفسية للحبيب والمحبوب ، وذكر الزهور والعطور والبخور ، والحدائق والربيع ، والفراق واللقاء ، واليأس والقنوت ، والنصائح والعظات ، والمواضيع الأخرى التي يتضمنها الغزل الأري في نطاقه الواسع ، وقد قدم خلاله ترجمات عربيةً لبعض نماذج شعرية تبرهن الموضوع من شعر غالب ، والميرزا مظهر جان جانان . والترجمات العربية لشعر مير تقي مير ، ومير درد ، وإنعام الله خان ، ويقين ، ومؤمن ، وأمير الله تسليم ، وأكبر الله أبادي في هذا السياق تدلي دلوها في تحليل الموضوع ، وتأكيد المفهوم .

ومن أجل شرح التطور التاريخي للغزل الأردي بالتفصيل ، ذكر المؤلف موجز سيرة الشعراء : سراج الدين سراج ، والميرزا مظهر جانان ، وسودة ، ودرد ، ومير ، وذوق ، وظفر ، ومؤمن ، وغالب مع تقديم ترجمة قصائدهم المختارة ، ما به تزداد الأهمية التاريخية والأدبية للكتاب . ويتجلى تاريخ الغزل الأردي بشكل أوضح أمام العرب ، كما يتبلور به الذوق الأدبي والشعري للمؤلف .

في عام 1857م ، تأسست الحكومة البريطانية بشكل مستقل في الهند ، وهذه الفترة في تاريخ الهند هي فترة الثورات والتقلبات . يتدحرج به تاريخ الحكام المسلمين إلى الانهيار ، وبدأ يتغير أسلوب حياة الشعراء والصحفيين والكتاب وسكان المجتمعات الهندية ، والعلماء تغيراً مدهشاً ، وتعتور النظريات والأيديولوجيات بالدوال والتقلب ، وتبحث الأفكار عن زوايا جديدة ومفاهيم مستحدثة . والغزل الأردي الذي بات جنساً أدبياً قوياً ومؤثراً حتى ذلك الحين ، بدأ يؤدي دوراً مهماً في تصوير الظروف السياسية والاجتماعية والتربوية السائدة في البلد ، وفي مثل هذه الأوضاع جعل يتسع النطاق الدلالي والتفسيري للغزل الأردي بشكل واضح . تنفتح أمامه آفاق فكرية وأبعاد دلالية جديدة ، جعلت الشعراء يعالجون اضطهاد الاستعمار الأوربي في غزلهم ، لقد حاول المؤلف إبراز هذا الجانب للغزل الأردي في كتابه بشكل شامل . عالج المؤلف ما يوجد في شعر ألطاف حسين حالي ، وشبلي النعماني ، والعلامة محمد إقبال من يأس وقنوت وآمال وذكر لعظمة الأمة المفقودة ، متناولاً أسبابه وعوامله بالذكر ، وفي هذا السياق ، قام بتقديم ترجمات عربية لبعض نماذج شعر حالي وشبلي وأكبر وإقبال .

والمحور الأخير للكتاب يتمركز حول تأثير العصر الحديث وتقلباته في الغزل الأردي ؛ بعدما استقلت البلاد من براثن الاستعمار البريطاني عام 1947م ، شهدت سفك الدماء ، والقتال ، والدمار ، والتحطيم ، وشهدت مشهداً حزيناً للتقسيم ، وشهدت أعمال شغب طائفية ، وبدأ يتزحزح كيان المسلمين . لقد أنجبت هذه الظروف القاسية الحرجة شعراء أرديين ، جعلوا الغزل شعراً ثورياً ، فالشاعر فيض أحمد فيض زلزل قصور الطغاة من الحكام بشعره مرات وكرات ، وشعر جوش المليح آبادي أطار نوم المسؤولين الحكوميين ، وكذلك الشعراء الأرديون الآخرون من أمثال : حسرت موهاني ، وفراق ، ومجاز ، ونشور واحدي ، وجكر ، وكليم عاجز ، هؤلاء هم الشعراء الذين فتحوا أمام الغزل في هذا العصر دروباً جديدةً للنمو والتطور . لم يعد الغزل فيه مجرد شعر لذكر الحبيب والمحبوب ، وذكر الخمر والخمارة ، وذكر جمال الحسان والخرائد . بل تجسر وتجرأ على مكافحة الطغاة الغاشمين . وتمكن من التعبير عن ماجريات العالم .

احترقت المنطقة التي كان ينتمي إليها الشاعر الأردي كليم عاجز ، وتلظت عائلته كلها في نيران الاضطرابات الطائفية ، فعندما صوَّر كليم عاجز لفحات نارها ، وسفك دمائها في غزله الأردي الرقيق ، تلألأ هذا الغزل على بهجة وشموخ وبهاء يخلد ذكراه ، ويؤصل جذوره إلى أعماق الأساليب الشعرية والتعبيرية والفنية النادرة التي لم يسبق لها نظير . لقد أنهى المؤلف كتابه بنبذة عن حياة هذا الشاعر الغزلي الفذ ، وترجمة نماذج بعض شعره في الموضوع .

الخاتمة :

كتاب الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي ” الغزل الأردي : محاوره ومكانته في الشعر ” كتاب جامع ومبرهن لتعريف العرب بالغزل الأردي ، بقراءته يتسنى للقارئ العربي بسهولة الاطلاع على الفروق الدلالية والصورية والتعبيرية للشعر العربي والفارسي والأردي ، إضافةً إلى اطلاعه على النماذج الغزلية الرفيعة للغزل ، وأصحابه ، وميولهم الطبيعية والنفسية والفكرية ، انطلاقاً من تاريخه المبكر ، ومروراً بعصر الاستعمار حتى العصر الحديث . لو كان الكتاب أكثر تفصيلاً من حيث موضوعه لكان أكثر نفعاً . وكذلك ، لو كان المؤلف عالج الغزل الأردي في كتابه معالجةً نقديةً لازدادت قيمة الكتاب الأدبية والفنية .

ومع ذلك ، على الرغم من الإيجاز ؛ شمولية الكتاب ، ومناقشات المؤلف المنطقية جميع جوانب الموضوع ، والترجمات العربية الرائعة للشعر الفارسي ، والأردي تكشف للقارئ الذوق الأدبي للمؤلف ، ودراسته العميقة والمكثفة للأدب العربي والفارسي والإنجليزي والأردي . وهكذا ، هذا الكتاب هدية عظيمة لتعريف العرب بالغزل الأردي .


* أستاذ مساعد ، قسم اللغة العربية ، كلية الآداب ، جامعة بنارس الهندوسية ، فارانسي ، الهند .Email: q.shaban82@gmail.com