العلامة المحدث الشيخ حليم عطاء : أستاذ المحدثين والعلماء في عصره

قصيدة أسماء القرآن للشيخ مير شجاع الدين حسين : دراسة فنية
مارس 1, 2020
علماء أهل الحديث في الهند
يوليو 25, 2020
قصيدة أسماء القرآن للشيخ مير شجاع الدين حسين : دراسة فنية
مارس 1, 2020
علماء أهل الحديث في الهند
يوليو 25, 2020

رجال من التاريخ :

العلامة المحدث الشيخ حليم عطاء :

أستاذ المحدثين والعلماء في عصره

بقلم : العلامة الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي

( رئيس ندوة العلماء ، لكناؤ – الهند )

لقد كان لدى دار العلوم ندوة العلماء كنز ثمين فضاع ، وكانت عندها ثروة فائضة فزالت ، وكانت لديها شخصية جليلة لا تنجب الأيام من أمثالها إلا نادراً فحُرمتها وفقدتها ، ولن تنسى مكتبة دار العلوم تلك الأقدام الهادئة الرفيقة ، وذلك السير الخفيف البطيئ ، ولن تنسى ذلك الأنس الذي ظلت تسعد به ردهة من حياتها غنية بتلك الشخصية الجليلة العاملة ، شخصية الشيخ محمد حليم عطاء رحمه الله تعالى .

كانت أسرته أسرة الأولياء والمشايخ العظام ، فقد منح الإمبراطور أورنك زيب عالمغير الشيخ عطاء كريم من هذه الأسرة مشيخة في بلدة      ” سلون ” بمديرية رائي بريلي ، وجعلها مركز الإصلاح والتربية ، وظلت هذه السلسلة إلى تقسيم البلاد ، وكان الشيخ نعيم عطاء يُعتبر عالماً كبيراً في هذه الأسرة أيضاً ، وكان له اطلاع واسع على العلوم الدينية ، وكان أصغر إخوته العالم الكبير الشيخ حليم عطاء ، وظل الشيخ نعيم عطاء مشتغلاً بالإصلاح والتربية في بلدة سلون ، وعُين أخوه الشيخ حليم عطاء أستاذ الحديث الشريف حتى نال مشيخة الحديث في دار العلوم لندوة العلماء لكناؤ ، الهند .

كان الشيخ حليم عطاء رغم علو مرتبته في الحديث ساذج  الطبيعة ، إذا احتاج إلى شراء شيئ من السوق ذهب بطالب واشتراه ، وله ثلاثة أبناء ، كلهم أذكياء وأصحاب العلم والفهم ، أكبرهم الأستاذ شبير عطاء الندوي ، مارس التعليم والدراسة ، وعُيّن أستاذاً في دار العلوم لندوة العلماء ، ثم انقطع عن التدريس وعكف على الإصلاح والتربية في بيته إلى آخر حياته .

كانت علاقة الشيخ حليم عطاء وأفراد أسرته بأسرتي وطيدةً ، وبما أن مديريتنا واحدة وأعضاء الأسرتين يشتغلون بالعلم فاستحكمت هذه العلاقة ، فكان الشيخ حليم عطاء يلاطف معي ملاطفةً حسنةً ، وكان مشرفاً ومربياً لي من جهة .

إن الشيخ محمد حليم عطاء كان زينةً للمكتبة ، وكانت المكتبة له كل شيئ ينعم بكتبها ويتمتع بمستودعاتها ويقرأ الكثير منها ومن دونها ولا يتعب ، كأن التعب في القراءة أو الملل في المطالعات لم يكونا من شأنه ، كان يدرس في دار العلوم عديداً من العلوم الشرعية الإسلامية وكان له غرام شديد على الأخص بعلمي التفسير والحديث ، ودام مشتغلاً بتدريسهما مدى الحياة ، وكان ولوعاً بإفادة نفسه وإفادة غيره إلى حد المبالغة والمغالاة ، ولم يكن من الميسور أبداً للطلاب الذين يدرسون عليه أن يقنعوه بالاقتصار في الدرس أو الامتناع عن تعليمه حتى ينفد الوقت المحدد ويضطر إلى القيام لدق الجرس التعليمي ، وحينما تكون الحصة التعليمية التالية فارغةً كان يستغرقها في درسه كذلك والطلبة يهابونه لجلالة علمه ويوقرونه توقيراً لا يوقرون غيره مثله ، وكان يهدي الطلبة في المشاكل العلمية ، ويدلهم على الحقائق الغامضة والمعاني التي يصعب استخراجها أو العثور عليها من بين الكتب فتنحل العُقد العلمية دون جهدٍ مضنٍ من الدارس أو الملتمس بكل سهولة ويسر ، وبدون طلب منهم إلى ذلك ، وكان غرام الشيخ وولوعه بالكتب والعلم ينشطه لكل ذلك ويجعله يلتمس دائماً من يجلس إليه ويستمع إلى فوائده ، فكان مكتبةً ضخمةً تحتوي على كتب منوعة كثيرة من كل باب من العلم بنفسه ، وكان مفتاحاً ناجحاً لفتح مستغلقات المسائل وكشف مجاهيل المعاني والحقائق ، وكان الجميع يعرفونه بذلك فيتوجهون إليه دائماً على خط مستقيم ويستفيدون منه وتكون لهم فيما يقول أو يشير إليه ، الكفاية .

كان ذا ذاكرة قوية فذة يستودعها كل ما يمر بعينيه ، أما دراسته للكتب المختلفة فلا يمكن لرجل لم يعرفه أن يتصورها إذ قلما يرى إعلاناً لكتاب طبع في بلد عن العلوم الإسلامية إلا اجتهد لاقتنائه ولا يدعه إلا إذا فرغ من قراءته وإفراغ معانيه في عقله وصون محتواه في ذاكرته ، وقد بلغ من قوة ذاكرته ووصولها إلى المبتغى بكل سرعة وسهولة لأنه كان يدل على المعنى المطلوب والمراد المبغى بكل دقة من صفحات الكتاب ومما إذا كانت في الجانب الأيمن أو الأيسر ، أما الذي كثر منه لدى الجميع فهو دلالته على وجود الكتب في المكتبة وعلى مظانها ، فدأب لذلك تلامذته والمتصلون به على أن يتوجهوا إليه لا يلوون على شيئ ويعرضوا عليه غاياتهم من الدراسة والفحص عن الأشياء الغامضة ويستهدونه في هذا الطريق ، فما أوسع صدره حينذاك لم يكن يقتنع بأن يخبرهم بالمظان فحسب في أحيان كثيرة ، بل إنما كان يذهب معهم ويطلب الكتاب من دولابه ويفتحه من حيث كان يتوخى ، وأظن قلما يوجد كتاب في مكتبة دار العلوم ندوة العلماء مع سعتها ووفرة الكتب التي فيها على أنواعها لم يصل إليه نظر الشيخ ، ولا أظن أن كتاباً نافعاً تتضمنه مكتبتنا لم يقرأه الشيخ ، ويكفي حجةً على ذلك أن مكتبته هو نفسه التي جمعها بما كان يبتاع من الكتب الإسلامية بأنواعها ، تحتوي على كتب كثيرة يبلغ عددها إلى عدة آلاف ، ولا شك أنه أتمها جميعاً قراءةً ، وكثيراً منها إعادةً وتكراراً .

كان أكثر اشتغاله بالكتب التي هي في علوم الحديث والتفسير والتاريخ ، لكنه لم يقتصر عليها فحسب ، بل وسع نطاق معرفته توسيعاً عظيماً يؤهله بأن يصبح مرجعاً في علوم عديدة حتى كنا في المدرسة نرجع إليه في مختلف الأحيان ونستفسره في مختلف العلوم ونتلقى من عنده رداً مقنعاً وجواباً شافياً في أكثر المناسبات ، كان عظيماً حقاً ، بيد أن سذاجته وبساطته في الحياة الفردية والاجتماعية على السواء تغلبت على عظمته وسموه ، يُرى ضعيفاً مستضعفاً هيناً ليناً ، مع أن عارفه لا يجهل العظمة التي كان يتصف بها ، وما أكثر المناسبات التي استفسره فيها المحاضر أثناء محاضرته عما استغلق عليه أو غاب عن ذهنه من علوم ومعارف فساعده بذات ذاكرته وعلمه ، وأفاده بنكت منه وحقائق ، فما أعظم ما حُرمناه ، وما أشد خسارتنا فيه وما أجل من فقدناه في هذا العام 2/ نوفمبر 1955م .

لا شك أن أحداً من الناس لا يبقى ولن يبقى أبد الدهر ، وإن كل شخصية مهما سمت مكانتها وجلّت رتبتها محتسية لكأس المنية آجلاً أو عاجلاً ، غير أن الخسارة التي وقعت في الوقت الحاضر ليست عاديةً ، وليست من حوادث الزمن المستمرة أو الحوادث العامة بل إنها خسارة بالغة من العظمة مبلغها ، والفراغ الذي تركه شيخنا الشيخ محمد حليم عطاء لا نحسبه يُملأ بيسر ، ولن يعرف ذلك إلا من استفاد منه واتخذه لنفسه مرجعاً في مهمات العلم وعقده ، وتعلم من يديه فلمس ذلك العطف الخالص وتلك العناية البالغة التي تنفع طالبه وتحيطه بالمعرفة الواسعة ، ومن الغريب النادر أن الطلبة الكسالى لم يكن بوسعهم كذلك أن يتخلصوا مما يبغي الشيخ رحمه الله إحاطتهم به مهما تخلصوا من المدرسين أو تسللوا منهم ………… وذلك يرجع إلى شدة عطفه على الطلاب وعظم ولوعه بتعليمهم الكثير دون اكتراث لتعبه وتعبهم ، ولا أدري هل كان العلم غذاءه فلا يتعب منه مهما كثر وعظم ، أو كان متعةً له وجمالاً فلا يمل منه ويسأم إذ لم يكن من برامجه غير التعليم الكثير والدراسة الواسعة والمطالعة المستفيضة حتى يغلبه النوم ، لم يكن يعرف العناء والتعب مع شيخوخته وسنه الكبيرة ووهن أعصابه وعضلاته وهجوم العلل والأسقام عليه في آخر عمره ، ولم يدع الاشتغال بالعلم والتعلم ولم يزهد فيه حتى خطفته براثن المنية .

ازدان به منصب تعليم الحديث دهراً ، افتخر به طلابه وذكروه في كل مناسبة لعظمة الجميل الذي أسداه الشيخ إليهم ولا يرون أعناقهم تتجرد منه ما دام لهم في ساحة العلم اسم يُذكر أو ذكرٌ يبقى ، لقد كان عظيماً حقاً ، فإن عدة صفحات على ترجمته لا تقوم بحقه فلا مناص من الصبر على هذه الرزيئة ، وفي ذمة الله الراحل الكريم والرجل العظيم .