الحنين إلى الوطن في شعر المهجر الأمريكي
ديسمبر 4, 2021أدب الأطفال وأهدافه في المنظور الإسلامي
يناير 2, 2022دراسات وأبحاث :
العلامة الشيخ ولي الله الدهلوي :
نابغة الدهر وعبقري الزمان
( الحلقة الأولى )
بقلم : الأستاذ الدكتور أختر الواسع *
تعريب : د . قمر شعبان الندوي §
العلامة الشيخ ولي الله بن عبد الرحيم الدهلوي ( 1114 – 1176هـ / 1703 – 1762م ) شخصية نابغة الدهر ، ولايكون عبثاً أن نقول : إن ( الشاه ) ولي الله الدهلوي أحد عباقرة التاريخ الإسلامي ورجالاته ، ولا يكتمل تاريخ العلم والفكر للهند الإسلامية من دون ذكره ، وفي شخصيته الجامعية والاعتدال ، والوسطية ، والعبقرية النادرة ، وقد ترمز شخصيته ومآثره إلى اطلاعه الدقيق على مجريات العصر ، وإلى بُعد مداه ، ولخدماته العلمية والفكرية جوانب تمتاز بها شخصيته ، وينفتح بها دور جديد لعلوم الإسلام ، وحضارته ، وأفكاره ، ونظرياته في الهند ، فالدور الذي أداه ولي الله الدهلوي في تجديد الدين وإحيائه في شبه القارة الهندية لا يوجد له نظير لدى الشخصيات الأخرى ، ولم يترك إمامنا الدهلوي شعبةً من شعب الحياة والمجتمع ، ومجالاً من مجالات العلم والفكر إلا وقد قام فيه بتجديد الدين والملة .
وُلد العلامة الشيخ ولي الله الدهلوي في أسرة علمية ، كان والده الشاه عبد الرحيم عالماً مميزاً ، وشيخاً صوفياً في وقته ، وله المساهمة في تدوين : ” الفتاوى العالمكيرية ” في عصر عالمكير ، أكمل ولي الله الدهلوي علومه الظاهرة والباطنة على يد والده الكريم ، واشتغل بالتدريس والتحقيق بعدما أكمل دراسته في باكورة شبابه ، وقد حصل له النضج في العلم والمعرفة والسلوك ، ثم توجه إلى الحجاز ، وتلقى العلوم من كل الجوانب ، ومن كل المذاهب الفقهية خلال مدة سنة ونصف بها ، فنجد بعض أساتذته عالماً حنفياً ، وبعضاً مالكياً ، وأحب أساتذته الشيخ أبو طاهر الكردي المدني ممثل المذهب الشافعي ، وتتلمذه على يده رسم في صدره نقوشاً عميقةً للحديث والسنة ، إضافةً إلى بركات الحرمين الشرفين ، وفيوضهما بتعبداته ومناجاته التي ذكرها في كتابه : ” فيوض الحرمين ” الذي هو بمثابة وثيقة تاريخية لأحوال حياته .
بدأت تتجلى علامات نبوغ الشيخ ولي الله الدهلوي ، ومميزاته الاجتهادية ، والتجديدية منذ بواكير حياته ، توسع نطاق خدماته بعدما انتهل من رحلته إلى الحرمين الشريفين ، وأصبحت أكثر استقصاءً واستيعاباً ، فالآثار الفكرية والعلمية والعقلية والتنظيرية التي خلفها الدهلوي في مدة حياته القصيرة يعتز بها العالم الإسلامي فضلاً عن مسلمي الهند ، والتي صارت منارة نور للقرون المقبلة .
تتمثل مآثر ولي الله الدهلوي في شتى الحقول والجوانب ، قدم أفكاراً اجتهاديةً نيرةً في كل مجال من مجالات العلوم الإسلامية ، سواءً كانت علوم القرآن أم الحديث والسنة ، أم الفقه الإسلامي ، والتصوف ، أم تاريخ الإسلام ، وكذلك إنه كشف الستار عن رموز الشريعة الإسلامية وأسرارها ، وقدم التفسير العقلي للدين وأحكامه ، وأوضح مبادئ الاقتصاد ، والقيادة السياسية ، بالإضافة إلى تشخيص أمراض الأمة العقلية والفكرية والروحية ، وتقديم حلول ناجحة وناجعة للإصلاح ، وتربية الأفراد ، وهذه هي العناوين المتجلية التي تتوافر حولها الآثار التأليفية ، والفكرية والتجديدية للشاه ولي الله الدهلوي بين أيدينا اليوم .
تتبلور أهمية خدماته التجديدية في مقياس ظروف العصر ، الذي ولد وعاش فيه إمامنا الدهلوي ، وحقاً هو أشد العصور ، وأخطر الأدوار ظلمةً ومحنةً طوال التاريخ الإسلامي في الهند ، لقد اهتزت أسس الحكم المغولي بعدما توفي عالمكير أورنك زيب للاضطرابات والفوضى ، ولم يقدر خلفه المترفون أن يدعموا الحكومة المغولية ، ويمنعوا جدرانها من السقوط والانهدام ، وكانت القوات المرهتية ، والسكهية ، والجاطية مشمرة عن ساق جدها لتمزيق الإمبراطورية المغولية شر ممزق ، وكاد أن يطوى بساط الحكومة الإسلامية ، وينتهي دورها ، وفي جانب آخر ، كان الجمود سائداً في أوساط العلماء ، والمثقفين على مستوى العلم والفكر ، كأن مسيرة الفكر الإسلامي قد تعطلت ، ولا تقدر أن تخطو خطاها إلى الأمام ، فكان العلماء والفقهاء فرائس الخلافات النظرية بين الإفراط والتفريط ، منغمسين إلى الحروب الداخلية المذهبية ، ومنفكين في المناظرات والمجادلات الطبقية ، وكان الصوفية مشغوفين بالدنيا ، تاركين طريق الزهد والتقوى ، ويمكن تخمين قلق ولي الدهلوي على هذه الأوضاع المذهبية ، والسياسية ، والاجتماعية المتأزمة من الفقرات التي خاطب بها هذه الطائفة في كتابه : ” التفهيمات الإلهية ” ( المجلد الأول ) ، كتب العلامة سيد سليمان الندوي :
” لقد كانت شمس السلطنة على أفولها ، وكانت المحدثات والتقاليد فاشيةً فيما بين المسلمين ، وكان المشايخ والصوفية الاسميون قاعدين أو متقاعدين على المساند في مقابر أوليائهم مع بعض السرج الموقدة ، وكانت زوايا المدارس مجلجلةً بصخب المنطق والفلسفة ، وكان كل المفتي محصوراً بقيود مفردات من الفقه والفتوى ، وأصبح التتبع والتدقيق في مسائل الفقه جريمةً عظيمةً في المذهب الفقهي ، وكان المتخصصون متغفلين ، ومهملين عن معاني القرآن الكريم ، ودلالات ألفاظه ، ومعاني الحديث ، وأحكام الشريعة ، وأسرار التفقه في الدين ، ومصلحته فضلاً عن عامة الناس ” [1] .
والقرآن الكريم الذي هو مفتاح كل العلوم ، ورسالة الهداية الموثوق بها لا للأمة المسلمة فحسب بل للإنسانية جمعاء ، خطط الإمام الدهلوي مخططات من عدة جهات لربط الأمة بهذا القرآن ، ولتبليغ رسالته إلى كل فرد من أفراد الأمة ، ثم بذل هو وأبناؤه النبغاء الأكفاء مساعيهم في تحقيق هذا الغرض المنشود ، وأقوى وأجرأ خطوة خطاها إمامنا الدهلوي هي ترجمته لمعاني القرآن الكريم في ظروف محرجة للغاية ، حيث كانت عملية الترجمة موضوع النقاش والخلاف ، أنها تجوز أم لا ؟ لقد أخذ الدهلوي على كاهله ترجمة معاني القرآن الكريم في لغة عامة الناس المفهومة ، وقدم الترجمة الكاملة لمعاني القرآن الكريم باللغة الفارسية التي هي الآن بمتناول الأيدي بعنوان : ” فتح الرحمن ” ، وهذه هي الخطوة التي سجلت تاريخاً جديداً ، وربطت عامة الناس بكلام الله تعالى ، ولقد أحسن مولانا عبد الماجد الدريابادي حيث قال :
” إن الحديث عن فهم القرآن الكريم الذي نجده اليوم ، وهذه الترجمات التي صدرت بعشرات اللغات من الأردية والإنكليزية واللغات الأخرى ، يكتب الجزء الأكبر من أجور كل ذلك في حسنات الإمام الدهلوي ، إذ تنورت هذه المصابيح كلها من المصباح الذي كان أوقده الإمام الدهلوي ” [2] .
ولابد أن نتذكر هنا أنه هو العهد الذي كانت لغةً جديدةً قيد التنشئة والتشكيل على المستوى العام في الهند ، وتتنبأ لمستقبلها المشرق باسم ” الأردية ” ، لقد اختار أنجال الدهلوي لترجمة معاني القرآن الكريم هذه اللغة النامية المتطورة ، ولم يكن واحد بل اثنان من أنجاله قاما بترجمتين اثنتين لمعاني القرآن الكريم بجوانب مختلفة جداً ، ترجم الشاه رفيع الدين نجل ولي الله الدهلوي الثاني الترجمة اللفظية ، وترجمه ابنه الثالث الشاه عبد القادر في أسلوب أدبي حي بعنوان : ” موضح القرآن ” ، وهذه الترجمة لا تزال تنال إعجاب القراء وتقديرهم حتى يومنا هذا ، فانظر مدى حبهم لخدمة القرآن الكريم ، وعواطفهم الجياشة لإصلاح الأمة ، وتربيتهم بواسطة القرآن الكريم ، أن ثلاثة أفراد من أسرة واحدة تابعوا ترجمة معاني القرآن الكريم ، ولم يبال أحد بأن لا حاجة هناك إلى ترجمة بتوافر ترجمة أخرى في اللغة نفسها .
لقد دبّج ولي الله الدهلوي مقدمةً ضافيةً على ترجمته الفارسية لمعاني القرآن الكريم ، بين فيها أصول الترجمة ومبادئها ، وفي أي أسلوب تكون الترجمة أفيد وأنفع ، ومن أروع أعمال الدهلوي في علوم القرآن رسالته في أصول التفسير بعنوان : ” الفوز الكبير ” باللغة الفارسية ، التي صدرت لها ترجمات باللغة العربية وباللغات الأخرى ، يعترف أصحاب التخصصات بأن هذه الرسالة الصغيرة الحجم تفوق الكثير من الأسفار الضخمة في عمق علمها ، ومعالجة المباحث ، والقضايا القرآنية ، وحل المسائل الصعبة ، ومن أجل ذلك اندمجت إلى المقررات الدراسية للمراحل العليا في دور العلوم الدينية الكثيرة .
اشتغال الدهلوي بالحديث ، والسنة نشراً ، وتدريساً ، وتأليفاً من أجلى العناوين لخدماته ، والحق أن هناك تاريخاً طويلاً لإهمال الناس ، وعدم اعتنائهم بالحديث في الهند ، صور الطبيب السيد عبد الحي الحسني والد الشيخ السيد أبي الحسن الندوي إهمال الناس عن الحديث في القرون الوسطى من تاريخ الهند بكلمات تالية :
” كانت قصارى نظرهم في الحديث في مشارق الأنوار للصغاني ، فإن ترفع أحد إلى مصابيح السنة للبغوي أو إلى مشكاة المصابيح ظن أنه وصل إلى درجة المحدثين ، وما ذلك إلا لجهلهم بالحديث . . . . . والقليل منهم كانوا يقرؤون المشكاة لا غير ، وهذا على طريقة البركة لا للعمل به ” [3] .
حاول أن ينور الشيخ عبد الحق المحدث الدهلوي مصابيح علوم الحديث في هذه الآونة التي كان اعتناء الناس بالحديث شبه مفقود ، ولكن كما كتب سماحة الشيخ أبو الحسن الندوي في المجلد الخامس من كتابه : ” رجال الفكر والدعوة في الإسلام ” أنه لم يتهيأ للحديث أن يحظى المكانة اللئيقة به في الأوساط العلمية والفكرية لوجوه ، على رأسها الغلو في تقليد المذاهب الفقهية .
ومما لاشك فيه أنه من المآثر العظيمة للشاه ولي الله الدهلوي أنه بعدما انتهل من مناهل الحرمين الشريفين وعاد إلى وطنه غرس الشجرة الطيبة للحديث ، التي لا تزال تجتني من ثمارها الأجيال الإسلامية في الهند ، وسوف تظل تستفيد منها إلى قيام الساعة – إن شاء الله – . وأهم مآثر ولي الله الدهلوي في الحديث حلقاته لتدريس الحديث في المدرسة الرحيمية علاوة على ما خلفه من مؤلفاته الحديثية ، من أمثال : المسوى ، والمصفى ، وشرح تراجم أبواب البخاري ، وأجلى عناوين تدريسه : التطبيق بين الحديث والفقه ، وهذه العملية من أجلّ وأعظم ما قام به ولي الله الدهلوي من خدمات ، فإنه وطّد علاقة الفقه بالحديث النبوي الشريف تحت هذه النظرية ، كما وقد انتقد انتقاداً شديداً ما اتخذه الناس الحديث هجراً مهجوراً ، وكذلك ما رجحوا أقوال الأئمة الفقهاء على الحديث ، وأولوا الحديث وفق آراء الفقهاء ، ولم يكتف الدهلوي بتدريس الحديث جالساً على مسند والده ، كما لم يكتف بإعداد جيل فحسب بل إنه قام بترويج الحديث فيما بين المشتغلين به ، وفيما بين واضعي القانون رواجاً متيناً ، فآراؤه في هذا المجال قيِّمة ومحققة تماماً ، لقد ذكر في كتابه : ” حجة الله البالغة ” طبقات كتب الحديث ، ومدارجها ، وأحل صحيح البخاري ، وصحيح الإمام مسلم ، ومؤطأ الإمام مالك في الطبقة الأولى ، وأحل المؤطا بالرقم الأول فيما بين هذه الطبقة ، وأصح الكتب بعد كتاب الله تعالى على وجه الأرض هو مؤطأ الإمام مالك في رأي الإمام الدهلوي ، وهذا هو اللقب الذي لقب به جمهور علماء الإسلام الجامع الصحيح للإمام البخاري – رحمه الله – ، لقد وفر ولي الله الدهلوي أسساً علميةً لهذا الرأي ، ومن أجل الأهمية الكبرى للمؤطأ كتب الدهلوي شرحين له ، أحدهما بالفارسية اسمه : ” المصفى ” ، وآخرهما بالعربية اسمه : ” المسوى ” ، إضافةً إلى ذلك ، كتب شرحاً لتراجم أبواب البخاري ، وألقى الضوء على دقائق المعاني ، ومدلولات الحديث .
( للمقال بقية )
* رئيس جامعة مولانا آزاد ، جودهـفور ، راجستهان ، الهند .
- أستاذ مساعد ، قسم اللغة العربية ، كلية الآداب ، جامعة بنارس الهندوسية ، فارانسي ، الهند . E-mail: q.shaban82@gmail.com
[1] العلامة سيد سليمان الندوي : مقالات سليماني ، ص : 44 .
[2] الفرقان : عدد ممتاز عن الشاه ولي الله الدهلوي ، بريلي ، ص : 31 .
[3] رجال الفكر والدعوة في الإسلام ، الجزء : 5 ، ص : 182 نقلاً من : الثقافة الإسلامية في الهند .