العلامة السيد سليمان الندوي : مآثره العلمية

الدكتور مراد هوفمان : شخصية علمية
أغسطس 12, 2020
الإمام أشرف علي التهانوي المصلح الكبير والكاتب الجليل
أكتوبر 20, 2020
الدكتور مراد هوفمان : شخصية علمية
أغسطس 12, 2020
الإمام أشرف علي التهانوي المصلح الكبير والكاتب الجليل
أكتوبر 20, 2020

 

العلامة السيد سليمان الندوي : مآثره العلمية

( 1302هـ/ 1884م – 1373هـ/ 1953م )

بقلم : العلامة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي

تعريب: محمد فرمان الندوي

ولادته وتعليمه :

ولد العلامة السيد سليمان الندوي في 22/ نوفمبر 1884م ، في دسنة قريباً من بتنة عاصمة ولاية بهار ( الهند ) ، كان والده الطبيب أبو الحسن عالماً متديناً ، وشيخاً ربانياً ، بدأ العلامة السيد سليمان الندوي تعليمه عند أخيه الأكبر الشيخ أبو حبيب ، كما درس من والده رحمه الله ، ثم ذهب إلى زاوية فلواري ببلدة بتنه عام 1899م ، ودرس عند الشيخ محي الدين رئيس الزاوية سنةً كاملةً ، والتحق بدار العلوم لندوة العلماء بلكناؤ عام 1901م ، وتخرج منها عام 1906م ، نال في ندوة العلماء عناية أستاذه الجليل شبلي النعماني ، فصقل هو مواهبه وكفاءاته العلمية ، وكان لدى أستاذه موثوقاً به ، فأسند إليه أستاذه قبل وفاته مشروعه العلمي العملاق حول سيرة النبي صلى الله عليه وسلم .

جهوده العلمية :

انتخب العلامة السيد سليمان الندوي بعد تخرجه من دار العلوم لندوة العلماء مديراً لمجلة الندوة العلمية الشهيرة الصادرة من ندوة العلماء منذ عام 1904م ، وكتب خلال ذلك مقالات ودراسات حول العلوم  والفنون ، أعجب بها أوساط العلم والأدب ، ومن مقالاته العلمية : الإسلام والاشتراكية ، وعلم الهيئة والمسلمون ، ومراصد إسلامية ، ومفردات القرآن ، وطبقات ابن سعد . كما عين أستاذاً للغة العربية في دار العلوم لندوة العلماء ، فقام بالتدريس هنا إلى مدة ، ثم انتقل إلى كلية ” بونه ” بولاية مهاراشترا ، وظل أستاذ العلوم الإسلامية فيها ، وواصل دراساته العلمية والتحقيقية ، ولما توفي أستاذه العلامة شبلي النعماني 1914م انتقل إلى دار المصنفين بأعظم جراه ، وانتخب كذلك مستشاراً تعليمياً لندوة العلماء ، واشتغل في دار المصنفين بإتمام مشروع أستاذه شبلي النعماني المعروف بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأصدر من دار المصنفين مجلةً علميةً باسم : معارف ، فكسبت هذه المجلة – تحت رئاسته – مكانةً علميةً .

كان العلامة السيد سليمان الندوي من أعلام شبه القارة الهندية ، ساهم في كفاح الهند مساهمةً بارزةً قبل تحرير الهند ، مع رموز الحرية الشيخ أبي الكلام آزاد والشيخ محمد علي جوهر ، وظلَّ رئيس تحرير مجلتي الهلال والبلاغ المشارك إلى سنوات ، فحرر خلال هذه المدة مقالات مؤثرةً مهمةً ، كما كتب في مجلة معارف افتتاحيات حول مواضيع مختلفة حوالي أربعين سنة ، وطبعت هذه الافتتاحيات في ثلاثة مجلدات باسم: الشذرات السليمانية .

رأي العلامة الشيخ أبي الحسن الندوي فيه :

يقول الشيخ أبو الحسن الندوي :

” كان العلامة السيد سليمان الندوي يمتاز من بين أقرانه بهمة عالية وولع شديد بتحقيق منجزات علمية ، وكان يقبل على إكمال كتاب يبدأ تأليفه كأنه أحب وآخر عمل يقوم به في حياته ، فكان يركز عليه جُل عنايته ، ويبذل فيه كل جهوده ، ويطالع مئات ، بل آلافاً من الصفحات لأجله ، ويجمع المعلومات ، ويحضر المواد ، ثم يستخدمها وينتفع بها في إخراج هذا الكتاب أو البحث ، وما كان ينتهي من عمل حتى يبدأ بعمل آخر ، بدلاً من أن يأخذ قسطاً من الراحة ، ويروح نفسه من التعب والعناء ، الذي لاقاه في البحث والتحقيق ، وكان يشتغل به بنفس النشاط والرغبة ، وقد أثّر ذلك في صحته ، فتعرَّض لأمراض مضنية وضعف وإعياء شديد ، وهو لا يفتر ولا يستريح ، ويبقى مشغول الخاطر بالموضوع الذي يبحث فيه أو يستعد له ، شأن من استأسره العلم ، وملك عليه مشاعره وتفكيره ، وملأ منه كل فراغ .

وكان مما ميّزه الله به ، سعة النظر واتزان الفكر ، وكان في ذلك نصيب للبيئة التي تلقى فيها تربيته العلمية والفكرية ، وفضلٌ لتوجيه الأساتذة والمربين الذين استفاد منهم ، فلم يكن فيه تزمّتٌ فكري ، أو عصبية مذهبية ، أو جمود علمي ، شأن كثير من العلماء في عصره وقبل عصره .

وكان بريئاً من ضحالة علمية ، وتسرُّع في الحكم ، وانبهارٍ بالحضارة الأوروبية ، كالطبقة المثقفة الجديدة ، بل كان واسع النظر ، رحب الصدر ، محباً للوسطية والاعتدال في كل شيئ من آرائه العلمية إلى مذهبه الفقهي ، ولو لم يكن كذلك لواجه حرجاً وعنتاً في كثير من المناسبات ، وفي صحبة الزعيم الهندي الكبير مولانا محمد علي في وفد الخلافة إلى إنجلترا ، وفي حضوره للمؤتمر الإسلامي في مكة المكرمة وسفره إلى أفغانستان ، وصلاته بالجامعة الإسلامية في عليكره ، والجامعة الملية الإسلامية في دلهي ، والمجامع الأدبية واللغوية والعلمية في أنحاء الهند التي كان فيها موضع احترام وإجلال وتقدير واعتراف .

كان السيد سليمان الندوي ربع القامة ، مائلاً إلى القصر ، له وجه مشرق ، تلوح عليه أمارات الهدوء والسكينة ، ويعلوه الوقار والرزانة ، له لحية كثة مستديرة ، وجبين واسع زاهر ، ممتلئ الوجنتين ، واسع العينين ، تشفان عن ذكاء وحياء ، أزجّ الحاجبين ، رقيق الشفتين ، نقي اللون بين سمرة وبياض ، نظيف الملابس دائماً ، لا يراه الناس قط في وسخ وتبذل ، ملتزماً للعمامة في الأسفار والمجامع ، مقلاً من الكلام ، كثير الصمت ، دائم الفكرة ، امتزج العلم بلحمه ودمه ، فلا يُعنى إلا به ، ولا يتحدث إلا عنه ، مديم الاشتغال بالمطالعة والبحث . دائم المذاكرة للعلماء في العلم والدين ، سلس القريحة ، سائل القلم في التأليف والتصنيف ، ليست الخطابة في المجامع العامة والخوض في السياسة من طبعه وذوقه ، فلا يتقدم إلى ذلك إلا متكلفاً أو مضطراً ، راسخاً في العلوم العربية وآدابها ، عالي الكعب ، دقيق النظر في علوم القرآن وعلم التوحيد والكلام ، واسع الاطلاع ، غزير المادة في التاريخ وعلم الاجتماع والمدنية ، منشئاً ، صاحب أسلوب أدبي في اللغة    الأردية ، كاتباً مترسلاً في اللغة العربية ، شاعراً مقلاً في اللغتين مع إحسان وإجادة ، حليماً صابراً ، يقهر النفس ، ويتسامح مع الأعداء والمعارضين ، ضعيف المقاومة في شئونه الشخصية ، يتحمل ما يرهقه ويشق عليه ” [1] .

مآثره العلمية :

ألف العلامة السيد سليمان الندوي تاريخ أرض القرآن ، وهو كتاب علمي وتاريخي ، ومأثرة عظيمة في جغرافية القرآن الكريم ، كان من تأليف هذا الكتاب أن مناطق وسط جزيرة العرب لم تنل عناية الباحثين وأهل الجغرافيا ، وكانت المواد العلمية قليلة الوجود ، فاستدرك العلامة السيد سليمان الندوي هذا النقص بدراسته الواسعة ، وكان هذا العمل جديراً بأن ينقل إلى لغات العالم ، ليطلع عليه أهل أوربا أن الدراسات الواسعة ليست تختص بهم ، بل توجد عند المسلمين في أحسن أسلوب يملؤه النصفة العلمية ، إن موضوع أرض القرآن وتاريخ الأنبياء والمرسلين توجد مواده في الكتب السماوية ، فتعلم لذلك العلامة السيد سليمان الندوي اللغة العبرانية ليستفيد مباشرةً من اللغة العبرانية ، وكان له إتقان باللغة الإنجليزية من  قبل ، فتيسر له تأليف هذا الكتاب ، وقد راجع في الموضوع القرآن والحديث ، فنبه على أخطاء الباحثين الأوربيين ، وقارن بين دراسات الكتب السماوية والقرآن الكريم ، فكان هذا العمل العلمي برئياً من كل انحياز طبقي ، يكتب العلامة السيد سليمان الندوي في مقدمة الكتاب :

” كان الغرض من تأليف هذا الكتاب أن تدرس أحوال أرض القرآن والعرب بوجه خاص ، دراسة علمية ، ليظهر لدارسي القرآن حقائق القرآن الكريم وأخطاء المستشرقين ” ، ويقول في موضع : ” لا يمكن لأحد غض النظر عن أهمية وحاجة هذا الموضوع ، ورد في القرآن كريم عشرات من أمم العرب ومدنهم ومواضعهم ، فلم يكن لدى العلماء معرفة تامة بها ، فضلاً عن العلماء ، ومما يستغرب أن كتاباً مثل كتاب أرض القرآن لم يدون على الموضوع خلال أربعة عشر قرناً ، فكان نتيجة ذلك أن المسلمين ظلوا جاهلين عن هذه الأحوال ، واعتبرها الأعداء للإسلام أسطورةً من الأساطير ” .

أما موسوعة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فقد ألف جزئيه الأولين أستاذه العلامة شبلي النعماني ، وألف بقية أجزائه العلامة السيد سليمان الندوي ( وهو في سبعة مجلدات ) ، وإذا مست الحاجة خلال المراجعة إلى ملاحظات في الجزئين الأولين علق عليهما بكل أمانة   واعتدال ، مراعياً آداب الاحترام لأستاذه ، وكان في الجزء الثالث فصل خاص عن المعجزات ، فكتب هذا الفصل على إيعاز من العلامة السيد سليمان الندوي صديقه الشيخ عبد الباري الندوي .

وللعلامة السيد سليمان الندوي مؤلفات حول الشخصيات الإسلامية : السيدة عائشة رضي الله عنها ، والإمام مالك رحمه الله ، والشاعر الفارسي عمر خيام ، وقد ألف حول العلاقات بين الهند    والعرب ، والملاحة عند العرب .

علاقته الروحية ووفاته :

وكان العلامة السيد سليمان الندوي يتصل اتصالاً روحياً بالعالم الكبير الرباني محمد أشرف علي التهانوي ، فكان الشيخ التهانوي يحبه    ويكرمه ، وكان من الموثوق بهم لديه ، بدأت علاقته بالمراسلة الفقهية ، ثم ازدادت مع مرور الأيام ، حتى نال منه الثقة الكاملة . استفاد العلامة السيد سليمان الندوي من العلامة شبلي النعماني والشيخ محمد أشرف علي التهانوي في مجالات مختلفة ، كما كانت له لقاءات مع الداعية الكبير الشيخ محمد إلياس الكاندهلوي في رحلته لمدينة لكناؤ وكانفور . عاش العلامة الندوي حياة علم وتقى ، حافلةً بالإنجازات الكثيرة حتى انتقل إلى رحمة الله تعالى عام 1953م في كراتشي ، بباكستان .

[1] شخصيات وكتب للعلامة الندوي : 60 – 62 .