السلطانة : زنوبيا أو الزباء أو زينب
ديسمبر 15, 2020علم فريدلم ينصفه جيله ( المفكر الإسلامي والأديب الموسوعي الأستاذ أنور الجندي ) ( الحلقة الثانية الأخيرة )
يناير 6, 2021رجال من التاريخ :
الشيخ المحدث محمد زكريا الكاندهلوي :
أكبر شخصية في عصره
( 1898م – 1982م )
بقلم : سماحة الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي
تعريب : محمد فرمان الندوي
انتهى بوفاة الشيخ المحدث محمد زكريا الكاندهلوي رحمه الله ، العهد الذي كان حافلاً بالخير والبركة ، والعلم والدعوة ، وكانت بعض صفاته يكاد يندر وجودها في المستقبل ، فكان متفرداً ببعض مزاياه في عصره ، وكان أنموذج السلف الصالح في العلم والتقى والمعرفة الربانية . وكان الشيخ يتميز باشتغاله العلمي وتربيته الدينية وذكائه المتوقد وخلقه النبيل ، فاستفاد منه الناس على أوسع نطاق ، واهتدى به خلق كبير ، فترك وراءه بعد وفاته عدداً محترماً من التلامذة والمحبين .
جانبان من حياته :
وقف الشيخ الكاندهلوي حياته لغايتين مهمتين : التربية الدينية ، والإنجاز العلمي ، وقد جمع بين هذين العملين الجليلين بغاية من الاتزان ، وإذا استعرض رجل أشغاله العلمية شعر بأنه لا علاقة له بالشئون الدنيوية ، فإنه يشتغل بالدراسة والتحقيق ويستوفي جميع شروطهما ، وقد بلغ به الأمر إلى أنه كان يكلف تلامذته ومحبيه للبحث في أمر ما ، ثم يذكر اسمه بكل وضوح وأريحية ، وهذا دليل على سماحته ومثال رفيع للتحقيق والدراسة ، فصدرت له مؤلفات علمية قيمة في فن الحديث ، وفي جانب آخر إذا درس رجل تربيته الدينية وآثارها الإيجابية عرف أنه كان مكباً على هذا العمل بواقع من العناية الخاصة ، وإدراك النفسية ، والنهي عن الأمور المنكرة ، والاعتناء بالأعمال التي تزين سيرة الإنسان ، هذه بعض مزايا الشيخ التي يشعر بها أتباعه ، ويتلقون منه التنبيه على زلاتهم .
الشيخ الكاندهلوي وعلماء عصره :
عاش الشيخ الكاندهلوي رحمه الله وسط حياته مع العلماء والمشايخ البارزين في الهند ، فكان بعضهم من معاصري الشيخ ، وبعض منهم من أصدقائه ، يجدر بالذكر منهم العلامة الشيخ حسين أحمد المدني والشيخ الرباني عبد القادر الرايفوري ، فإذا اجتمع هؤلاء الثلاثة كانت مجالسهم مجالس خيرات وبركات ، وكان في ذلك العصر في مركز الدعوة والتبليغ بدهلي الشيخ محمد يوسف الكاندهلوي ، الذي ظل مشتغلاً بإصلاح آلاف من الناس بصمت ووقار ، وكان ابن عم الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي ، وأصغر منه ، وقد توفي والده الشيخ الداعية محمد إلياس الكاندهلوي رحمه الله عام 1944م ، فكان يعتبر الشيخ محمد زكريا بمنزلة الوالد ، وينال الشيخ من الرعاية والعناية به ، لكنه بخصائصه وميزاته الدينية كان الشيخ محمد يوسف من معاصري الشيخ زكريا ، وقد نال الشيخ زكريا الكاندهلوي من الشيخ محمد إلياس الكاندهلوي مثل هذه العناية الخاصة ، وأخيراً انفرط هذا السلك العلمي ، فانتقل أولاً إلى رحمة الله تعالى الشيخ محمد إلياس الكاندهلوي عام 1944م ، ثم الشيخ حسين أحمد المدني عام 1958م ، ثم الشيخ عبد القادر الرايفوري عام 1962م ، ثم الشيخ محمد يوسف الكاندهلوي الذي توفي عام 1965م ، ولم يبق من هذه الجماعة إلا الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي ، الذي صبر على هذه الحوادث العظام ، وتحمل كل ذلك بصبر وثبات بالغين ، ولا شك أن أحزان العلماء والمشايخ تختلف من عامة الناس ، فإنهم يحزنون من داخل القلوب ، وأحياناً تظهر هذه الأحزان على أسرة وجوههم ، لكن لا يتطرق إليهم اليأس والقنوط ، لأنهم يعتقدون أن العيش عيش الآخرة ، وهذه الدنيا هي ممر ، وليست دار قرار ، ولا اعتبار فيها لإقامة طويلة أو مختصرة ، وكان دأب الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي رحمه الله تعالى بمثل هذه المناسبات الالتزام بالصبر والمواظبة على الأوراد والأدعية ، ويشتغل بتلاوة القرآن الكريم ، ولا تؤثر فيه هذه الأحوال الطارئة ، كما يدل على ذلك رسائله الموجهة من قبله إلى ورثة المغفور له .
والفارق الأساسي بين وفاة العلماء الآخرين وبين وفاة الشيخ الكاندهلوي أنهم لما فارقوا الدنيا كان بعدهم من ينوب عنهم ، ولكن لما فارق الشيخ الكاندهلوي الدنيا انتهت سلسلة هذه الجماعة الربانية ، والصفوة المختارة التي كان الناس يجتمعون عندهم للاستفاده منهم والانتفاع بمجالسهم .
صفات الشيخ الكاندهلوي :
كان الشيخ يتصف بإكرام الضيوف ، فكان عنده ازدحام لهم ، وإذا كانت هناك مناسبة خاصة أكثر الشيخ لها من الاهتمام والعناية ، كأنها مأدبة وليمة ، وكان الشيخ يكرم كل ضيف حسب مكانته ، وينبسط له ، ويلقاه بوجه طلق ، ويعتني بتربية الضيوف ، حتى لا يصابوا بالإعجاب بالنفس ، وإذا صدر من أحدهم خطأ نبهه علناً ، ولا يراعي في ذلك شيئاً ، فكان أتباعه يخافون منه مع حبهم إياه ، وكان التجوال في الأسواق ، والاشتغال بالأمور اللاغية جريمة لدى الشيخ الكاندهلوي ، وكان من جمله المشهورة : لا حظر على النوم والطعام ، لكن لا يُسمح بالتجول هنا وهناك ، وكانت علاقة الشيخ زكريا قويةً بالمدارس الكبرى في الهند بوجه خاص أمثال مدرسة مظاهر العلوم بسهارنفور والجامعة الإسلامية دارالعلوم بديوبند ودارالعلوم لندوة العلماء بلكناؤ ، وكان يرغب في الإخلاص في شئونها وأمورها ، ويدعو لها ، وحينما عقد المهرجان التعليمي لندوة العلماء بمناسبة مرور 85/ عاماً على تأسيسها اشتغل بالدعاء له والتضرع إلى الله تعالى .
ظلت شخصيته مرجعاً للخاصة والعامة في الفترة الأخيرة من حياته ، يسافر الناس إليه جماعات ووحداناً ، سواءً كانت إقامته في سهارنفور أو في الحجاز ، وكانوا يزدحمون عنده في إجازة المسلسلات النبوية ، وكل ما قرأنا في الكتب عن السلف الصالح رأينا مناظره في مجالس الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي ، أما شهر رمضان عنده فكان بمثابة مهرجان روحاني ، يأتيه آلاف من الناس ويعتكفون شهر رمضان بكامله أو بعض عشراته ، وكان الشيخ يعتبر هذا الشهر مخيماً تربوياً يحضره الناس من أقاصي البلاد وأدانيها .
عوامل تكوين شخصيته :
تجشم الشيخ الكاندهلوي في بداية حياته في سبيل التربية والتعليم مشاق كثيرةً ، قام في ظل تربية والده الجليل الشيخ محمد يحيي الكاندهلوي ، ثم مربيه وشيخه المحدث خليل أحمد السهارنفوري ، وقد أحرز الشيخ ثقته به حتى اعتبر خلفاً له بعد وفاته ، ومرجعاً للناس ، وقد ساعده الشيخ الكاندهلوي في أعماله العلمية ، واعتنى بطبع مؤلفاته بعد وفاته . ترك الشيخ خلفه ثروةً علميةً قيمةً ، طبعت في حياته ، وحازت مؤلفاته حول الحديث وإصلاح المجتمع قبولاً واسعاً ، وانتشرت في العالم الإسلامي ، وأكبت عليها الأوساط العلمية وخاصةً جماعة الدعوة والتبليغ كثيراً .
صلتي بالشيخ محمد زكريا الكاندهلوي :
زرت الشيخ المحدث محمد زكريا الكاندهلوي ثم المدني لأول مرة عام 1946م ، وذلك حينما كنت في مرحلة دراستي الابتدائية ، وقد بعثني خالي المكرم الشيخ الطبيب السيد عبد العلي والشيخ السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي ، إلى سهارنفور لأقضي أيام دراستي هنا تحت إشرافه ، فتكرم الشيخ بقبول طلبهما ، وجعلني مرتبطاً بمنزله ، وكنت ضيفاً عليه ، فحصلت منه على عناية خاصة وإشراف تعليمي ، ولم يقدر لي أن أسكن في سهارنفور كثيراً ، لكن وجدت من خلاله عناية الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي رحمه الله ، التي ظلت طول حياتي ، ولا يزال يلاطفني الشيخ ، ويرد على رسائلي الموجهة إليه ، ويعتني بإصلاحي وتربيتي ، وقد سبقني أخي الأكبر الشيخ محمد الثاني الحسني بقضاء سنة كاملة في تربيته ، فكان موثوقاً به لديه .
وفاته :
كانت ولادة الشيخ في شهر رمضان المبارك عام 1315هـ الموافق 1898م ، وتوفي عام 1402هـ الموافق 1982م في المدينة المنورة [1] ، فعاش 80/ سنةً من حياته ، فلم يتعب ولم يمل في توجيه الناس وتربيتهم ، ورغم شدة المرض لا يزال يفيد آلافاً من الناس بكلماته وتوجيهاته ، انتقل الشيخ إلى رحمة الله تعالى ، لكن مؤلفاته لا تزال منبع استفادة واسعة ، أما أتباعه فقد انتشروا في طول الأرض ، وهم ينابيع الخير والبركة بإذن الله تعالى ، رحمه الله رحمةً واسعةً ، وأمطر عليه شآبيب رضوانه ، وجزاه عنا وعن جميع المسلمين خيراً كثيراً .
[1] كنت يوم وفاته في المدينة المنورة وحضرت مجلسه التربوي بعد صلاة الفجر ، وقبل صلاة الظهر يوم ذاك لبى نداء ربه ، فصُلي عليه في المسجد النبوي ، وتم تدفينه في مقابر ( جنة البقيع ) . ( سعيد الأعظمي ) .