الشاعر أحمد التهانيسري وقصيدته الدالية في المديح النبوي

زبدة التفاسير للقدماء المشاهير لشيخ الإسلام بن قاضي القضاة عبد الوهاب الغجراتي : دراسة تحليلية ( الحلقة الثالثة الأخيرة )
أغسطس 3, 2024
زبدة التفاسير للقدماء المشاهير لشيخ الإسلام بن قاضي القضاة عبد الوهاب الغجراتي : دراسة تحليلية ( الحلقة الثالثة الأخيرة )
أغسطس 3, 2024

رجال من التاريخ :

الشاعر أحمد التهانيسري وقصيدته الدالية في المديح النبوي

د . إحسان الله خان *

يُعدّ أحمد بن محمد التهانيسري ( 820هـ ) أحد الشعراء الهنود الأوائل الذين فاضت قرائحهم بشعر عربي رصين ورائع في موضوع المديح النبوي ، حيث نجدهم يُكثرون في قصائدهم من ذكر المدائح النبوية كونهم علماء أجلاء درسوا سيرة الرسول الكريم وحياته دراسةً مستفيضةً ، فجاءت قصائدهم تحمل في طياتها كلاماً يُبيّن صفحات من سيرة الرسول الحبيب العطرة ، ويُوضّح شمائله الحسنة وأخلاقه الطيبة . وقد عُرف الشاعر أحمد التهانيسري كغيره من الشعراء الهنود بقصيدته الماتعة في موضوع المديح النبوي الذي صار أكثر الأغراض الشعرية اهتماماً لدى الشعراء الهنود ، ربما لأن الكثرة الكاثرة منهم كانوا علماء الدين وخبراء بالسيرة النبوية وجوانبها المتعددة .

ومن المعروف لدى الأوساط الأدبية أن الشعراء الهنود أكثروا من قرض الشعر في موضوع المديح النبوي نظراً لما قد تربوا عليه من تربية دينية ، وما نشأوا فيه من بيئة علمية وثقافية دينية مميزة ، ولذا لم يغب عن أذهانهم وهم ينتجون شعراً عربياً ، الاهتمام بالمواضيع الدينية ، ومن هنا نراهم يعتنون بالمواضيع الدينية اعتناءاً كبيراً في أشعارهم وقصائدهم . ويأتي اسم الشاعر والعالم أحمد التهانيسري ضمن طليعة الشعراء الهنود الذين أولوا اهتماماً متزايداً بهذا اللون من الشعر العربي . ويقول الدكتور أحمد إدريس في كتابه : ” الأدب العربي في شبه القارة الهندية حتى أواخر القرن العشرين ” بهذا الصدد : ” شعراء العربية في شبه القارة الهندية لم يخرجوا عن تقليدية الموضوعات ، فالرثاء ومدح الرسول والسلاطين والأمراء هي الموضوعات الأساسية التي شكلت العمود الفقري للشعر العربي في شبه القارة ، وإن وجدت موضوعات أخرى فهي ثانوية لا أساسية ” [1] .

هذا ، ويُعتبر الشاعر أحمد التهانيسري من الشعراء المقلين ، ومع ذلك فإن شعره جاء مفعماً بروعة شعرية في أسلوب رصين ، وهو يستخدم في ذلك كلمات جزلةً وفخمةً تحمل في ثناياها معاني سامية تهدف إلى غرس بذور الحب للنبي الكريم والتحلّي بالقيم الدينية والخلقية والإنسانية التي أتى بها ، ونشرها بين الناس أجمعين .

وتدلّ قصيدته الرائعة في المديح النبوي دلالةً واضحةً على امتلاكه ناصية البيان والأدب ، فضلاً عن دلالته على علو مكانته ، وطول باعه في مجال قرض الشعر العربي الرصين على أساليب الشعراء القدامى الكلاسيكيين على ما كان عليه أدبهم من قوة في البيان ، واهتمام بلوازم الفن الشعري العربي ، ورصانة في الشكل وجزالة في الكلمات وسمو في المعاني .

ونظراً إلى مكانته الكبيرة في قرض الشعر العربي في المديح النبوي مدحه الشيخ السيد عبد الحي الحسني في كتابه ” نزهة الخواطر ” قائلاً إنه ” المشهور من أدباء الهند المفلقين ، وفضلائها البارعين ، كانت له يد بيضاء في الفقه والأصول والعربية ” [2] .

ونرى كذلك الشاعر غلام علي آزاد البلكرامي المعروف بـ ” حسان الهند ” يشيد به في كتابه ” سبحة المرجان في آثار هندوستان ” قائلاً ” هو عالم يشبه اللآلي تحريره ، وشاعر يحكي السلسال تقريره المقتبس للنور المعنوي والمريد للشيخ نصير الدين الأودي الدهلوي قدس سره ” [3] .

وقصيدته في المديح النبوي تُعدّ من أفضل القصائد التي قدّمها الهنود في موضوع المديح النبوي ، وفي ذلك نجد السيد صديق حسن خان يذكر في كتابه ” أبجد العلوم ” : ” وله شعر جيد حسن ، وقصيدة بديعة مدح بها النبي صلى الله عليه وسلم ” [4] .

لقد ذكرنا في السطور الماضية أن الشاعر أحمد التهانيسري كان من الشعراء المقلين في اللغة العربية حيث إننا لا نجد في كتب السير والتراجم والتاريخ إلا ذكر قصيدته الوحيدة في المديح النبوي لأسباب أحالها بعض العلماء إلى إمكانية عبث الدهر بقصائده الأخرى بالضياع والتلف ، إلا أننا لو وجدناها مصونةً وموروثةً لنا إلى يومنا هذا ، فإننا ربما وجدنا فيها زاداً علمياً كبيراً وتراثاً شعرياً مميزاً ورائعاً . على أي حال ، فإن قصيدته الرائعة في المديح النبوي تنبئنا عما قد وصل إليه هذا العالم الجليل والشاعر الهندي الكبير من فكرة متقدة ، وخيال خصب ورؤية ثاقبة . وقد تناول الشيخ عبد الحق المحدث الدهلوي قصيدته هذه في كتابه ” أخبار الأخيار ” وأثنى عليه ، وقال ” له قصيدة رنانة فصيحة بليغة وانتخبت منها هذه الأبيات ” [5] ، كما ذكرها كل من السيد غلام على آزاد البلكرامي في كتابه ” سبحة المرجان في آثار هندوستان ” والشيخ السيد عبد الحي الحسني في كتابه ” نزهة الخواطر ” .

وإذا استعرضنا قصيدته هذه فإننا وجدناه يتطرق فيها إلى المواضيع التي تناولها الشعراء العرب القدامى وبعض الشعراء المحدثين ، إلا أنه في الأغلب والأعم ، يحاكي الشعراء القدامى من حيث البناء الفني للقصيدة على غرار الشعراء الهنود الآخرين ، فنجده يبدأ قصيدته بالتشبيب منتهجاً في ذلك نهج الشعراء العرب الجاهليين وشعراء عصر صدر الإسلام نظراً إلى ما كان قد قرأه الشعراء الهنود من نماذج شعرية منذ العهد الجاهلي حتى صدر الإسلام وما بعده ، فتأثروا بها من حيث الشكل ، وإن لم يكن ذلك كلياً من حيث المضمون .

وبالنسبة للمواضيع التي تناولها الشاعر أحمد التهانيسري في قصيدته فإننا نراها تتعلق بجوانب مضيئة ومشرقة لحياة النبي الكريم فضلاً عن حديثه عن الأخلاق الفاضلة والخصال الحميدة التي تحلّى بها النبي الحبيب ودعا إليها دعوةً واضحةً . ومن الأبيات التي تطرقت إلى هذا الجانب ، نجد هذا البيت الشهير الموجود في قصيدته حيث يقول فيه الشاعر :

العدل سيرته ، والفضل طينته   والبذل شيمته في الوجد والوبد [6]

فالعدل ، وإقامته والبذل والعطاء والعمل عليه ، والتحلي بقيم الكرم والفضل من الأمور المهمة التي تدخل في صميم تعاليم ديننا الحنيف ، وتنبع من قلب قيم ديننا الإسلامي . ونجد كذلك في قصيدته بيتاً يمجّد فيه خلق النبي الكريم ، وبأنه أفضل البشر ونبي الحق ، والبر ، والخير والرشد ، فنراه يقول في أحد أبياته الشعرية :

يا ربّ صل وسلم دائماً وأبداً على النبي نبي الحق والرشد [7]

وعلاوةً على ذلك ، أتى الشاعر بأبيات أخرى رائعة في تمجيد خلق النبي الكريم فضلاً عن التغني بسمات شخصيته التي اتسمت بالفضل ، والرفق ، والرحمة واللطف والبر والإحسان للإنسانية جمعاء ، فيقول الشاعر عن النبي الكريم :

بالعلم مكتنف ، بالحلم مـتصف  باللطف ملتحف ، بالبر مــتســد

بالخلق مشتمل ، بالرفق مكتحل  بالحق متصل ، بالصدق مــتفرد

بالشرع معتصم ، للدين مـــنـــتــقـم  في الله مجتهد ، بالله مـــقـتصد

بالفقر مفتخر ، بالزهد مـــشــتهر  بالشكر متزر ، بالحمد منجرد [8]

وعند قراءتنا لأبياته الرائعة ، نجد أنه يحنّ إلى لقيا النبي الكريم ويحثّ الناس على ذلك حيث نجده يجرفه تيار الشوق إلى لقاء النبي صلى الله عليه وسلم ، فنراه في ذلك يقول :

أفـــــديــــك بالــــروح والـقلب المشوق معاً والنفس والمال والأهــــلـــين والولد

قد عافني البعد عن مرماي يا سكني وطال شوقي إلى لقياك يا سندي

ويا حــــيــــاتــي ويا روحـــي ويـــا جسدي  ويا فؤادي ويا ظهري ويا عـضدي [9]

ونرى الشاعر كذلك يذوب شوقاً إلى زيارة الأماكن التي وطئتها قدما النبي الكريم كما يتحرق شوقاً إلى التمسك بما جاء به ويلتمس منه أن يشفع له عند الله سبحانه وتعالى ، وفي ذلك يقول الشاعر :

أرجو الـــوفــــادة في أرض حللت بــها  يا لهف نفسي إذا ما كنت لم أفد

عطفاً عليّ ، ورفقاً بي ، ومكرمةً فــــلــيس غــيـرك يا مولاي ملتحدي

واشفع إلى الله لــــي في أن يــثــبطني عن الـهــوى وذوي الدنيا وعن سدد

يا رب صل وسلم دائـــــــمــــــاً وأبــداً  على النبي ، نبي الـــحــــق والرشد [10]

ذكرنا فيما مرّ بنا الموضوعات التي تناولها الشاعر في قصيدته في موضوع المديح النبوي ، أما إذا أخذنا قصيدته واستعرضناها من الناحية الفنية والأسلوبية فإننا وجدناها من أروع القصائد التي كتبها الهنود لما تحتوي عليه من محاكاة مع شعر الشعراء العرب القدامى من حيث بنائها الفني والشكلي ، واستهلاله للقصيدة بالتشبيب على غرار الشعراء القدامى وتدرجه في ذكر الصحاب وهجر الرفاق وصولاً إلى الغرض الرئيسي من القصيدة . وهنا نرى الشاعر يبدأ قصيدته – كما ذكرنا فيما سبق – بالتشبيب على نهج الشعراء الجاهليين وشعراء عصر صدر الإسلام وبعده ، فنجده يقول في مستهل قصيدته :

أطار لبي حسن الـــطائر الــــغــــرد  وهـــاج لــوعة قلبي التائه الكمد

وأذكرتي عهودا بالحمى سلـفت  حمامة صدعت من لاعج الكبد

باتت تؤرقني والقوم قد هـــجـــعوا  من بين مــضطجع منهم ومســتند [11]

ثم نرى الشاعر يذكر أيامه الهانئة التي أمضاها مع أصدقائه وهو مشحون بذكريات حلوة تتقاذفها ذاكرته ، فهو يحن إليها ويسردها في لهفة وشوق جارفين ، فها هو يقول في قصيدته :

ليت الهوى لم يكن بيني وبينكم    وليت حبل وداد غـــــيــــر مــنعقدي

كـــــــــانـــــــت مــواسـم أيام وغرتها    ولّت سراعاً عـــلــى رغـــم ولــم تعد

عشنا بها وعــــيـــــون الـــبيــن راقدة    والقلب في جذل ، والدهر في رقد [12]

كما نجده في شعره يحاكي الشعراء العرب القدامى ممن أبدعوا في شعر المديح النبوي ، ومن بينهم الشاعر البوصيري الذي اشتهر بقصيدته المعروفة بـ ” قصيدة البردة للبوصيري ” ، ونجد العديد من الشعراء العرب يقومون بقرض شعر المديح النبوي على منواله ، ونجد أحمد التهانيسري أيضاً يذكر جزءاً من بيت البوصيري على وجه التضمين حيث يقول :

يا رب صل وسلم دائماً وأبداً على النبي نبي الخلق والرشد [13]

وهو في ذلك يذكر على وجه التضمين جزءاً من البيت الشعري     ” يا رب صل وسلم دائماً وأبداً ” من بيت قصيدة البوصيري في المديح النبوي حيث يقول فيها البوصيري :

يا رب صل وسلم دائماً وأبداً على حبيبك خير الخلق كلهم

هذا ، ونجد في قصيدة التهانيسري كلمات ومفردات لغويةً مرصعةً في صورة تُضفي على شعره موسيقى عذبة لها إيقاعاتها وعذوبتها وسحرها ، فأتت أبيات قصيدته حاملةً بداخلها كلمات متناغمة ذات دلالات واضحة وألحان ساحرة في صورة موحية ومشرقة وخلابة .

خلاصة الكلام هي أن أحمد بن محمد التهانيسري قدّم إسهاماً بارزاً في شعر المديح النبوي الهندي ، وقصيدته في المديح النبوي تُعتبر من أروع ما جادت به قرائح الشعراء الهنود ، لما تشتمل عليه من روعة فنية وبلاغية ، وتناولها لمواضيع مهمة تستوحي موادها من مصادر الإسلام الصافية ، وفضلاً عن ذلك ، تُخبرنا أبيات قصيدته في المديح النبوي عن اطلاعه الواسع على جوانب مهمة من سيرة النبي الكريم ، ودرايته الكاملة بشتى القصائد المهمة التي قيلت في المديح النبوي منذ العصر القديم إلى العصر الحديث .

* الأستاذ المساعد ، قسم اللغة العربية وآدابها ، جامعة علي كره الإسلامية ، علي كره ، الهند .

[1] الأدب العربي في شبه القارة الهندية حتى أواخر القرن العشرين ، الدكتور أحمد إدريس ، ط ا ، مؤسسة عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية ، القاهرة ، 1998م ، ص 226 .

[2] نزهة الخواطر ، السيد عبد الحي الحسني ، ط 3 ، مطبعة مجلس دائرة المعارف   العثمانية ، حيدر آباد ، الدكن ، الهند ، ص 4 .

[3] سبحة المرجان في آثار هندوستان ، السيد غلام علي آزاد البلكرامي ، ط 1 ، معهد الدراسات الإسلامية ، جامعة علي كره الإسلامية ، علي كره ، الهند ، 1976م ، ص 92 .

[4] أبجد العلوم ، النواب صديق حسن خان ، المطبعة الصديقية في بلدة بهوبال الهند ، 1295هـ ، ص 893 .

[5] أخبار الأخيار ، السيد عبد الحق الدهلوي ، مطبع مجتبائي ، دهلي ، 1913م ، ص 144 .

[6] نزهة الخواطر ، السيد عبد الحي الحسني ، المرجع السابق ، ص 9 .

[7] نفس المرجع ، ص 10 .

[8] نفس المرجع ، ص 8 .

[9] نفس المرجع ، ص 9 .

[10] نفس المرجع ، ص 10 .

[11] نفس المرجع ، ص 7 .

[12] نفس المرجع ، ص 7 .

[13] نفس المرجع ، ص 10 .