الربانيّة تخلق الرجال

عالم رباني فقدته الأمة
نوفمبر 19, 2023
كادت عليه تصدع الأكباد
نوفمبر 19, 2023
عالم رباني فقدته الأمة
نوفمبر 19, 2023
كادت عليه تصدع الأكباد
نوفمبر 19, 2023

الربانيّة تخلق الرجال

د . جمال الدين الفاروقي *

كان ذلك في أول شهر سبتمبر الماضي عام 2022م ، حيث سنحتْ لي الفرصة لزيارة العلامة محمد الرابع الندوي في مقرّ ندوة العلماء بلكنؤ ، برُفقة أساتذة من كيرلا : د . مصطفى الفاروقي والدكتور عز الدين الندوي والدكتور محمد يوسف الندوي . ورغم الوهن والفتور الجسمي الذي عاوده إلا أننا رأيناه في غاية النشاط ، وكانت اللحظات التي قضيتها جوار الشيخ سعيدة جداً غمرها البهاء الرباني الذي يشعّه شخصيته . ولم يكن بحسباني أن ذلك آخر لقائي معه ، والأمر كله بيد الله . وقد لبـّى نداء ربه في أيام رمضان العابق بالخير والبركات ، ونأمل من الله أن يرفع درجاته في عداد النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقاً .

وقد اهتزت قلوبنا حين استمعنا إلى كلامه ، وفيه تواضع العلم ووقارة العالم وحصافة الخبرة والفطنة ، مما يجعلنا نستنتج : أن الشجاعة والحماسة والصرامة لم تكن هي التي تصنع الرجال ، بل الربانية هي الوحيدة التي تخلق الرجال ، تلك السمة العالية التي تنطلق منها عناصر الشخصية المثلـى .

نعم ، العلامة محمد الرابع الندوي من أولئك الرجال الأفذاذ الذين صنعوا التاريخ ، وقدَّموا للأمة المسلمة خير نموذج للإصلاح والاسترشاد ، وكانت تلك اللحظات معه تذكّرنا قوله صلى الله عليه وسلم :              ” خياركم مَن إذا رُأوا ذُكـِر اللهُ ” ( ابن ماجـه ) ، وهو بحُسن نزاهته ودوام إخباته وتواضع شخصيته خير مثال لما وصفه النبيّ صلى الله عليه وسلم . وحياته في حركاتها وسكناتها ، وحلّها وترحالها توحي إلينا ماذا كانت رسالته وكيف كان يعمل لتحقيقها .

الشخصية المزدانة بالعلم والورع :

للبيئة أثر قوي في تكوين ثقافة الإنسان ، وذلك أيضاً يتبلور في شخصية العلامة ، كان ينحدر من أسرة ذات جذور عريقة في العلم والثقافة ، أسرة الحسني التي يشد عراها بالرعيل الأول ، أسرة منهج حياتهم عقيدة التوحيد واتباع السنة وخدمة العلم باللسان والقلم ، وكانت أعمالهم تطبيقاً لهذا المنهج ، ورجالها معروفون بصفات الاستقامة والنبل والتضحية ، والأمجاد من هذه الأسرة المباركة مثل العلامة عبد الحي الحسني ونجله أبو الحسن علي الندوي والشيخ محمد الحسني والشيخ محمد واضح رشيد الندوي ، ممن قاموا بدورهم القيادي في إثراء مجال التعليم والتربية ، ورثوا تلك الشعلة المقدسة عن العالم الرباني الإمام أحمد السرهندي والإمام ولي الله الدهلوي والإمام أحمد بن عرفان الشهيد ، حافظوا عليها وزادوها بهاءً ونوراً ليرثها الأجيال القادمة للسير في درب الحياة بثبات وثقة .

وقد سمع العالم الإسلامي من بيئتهم التربوية مفهوم ” الجمع بين القديم الصالح والجديد النافع ” . وله أهمية قصوى في هذه الأيام ، ونحن نرى العالم يتسارع وراء التعلم والتعليم القشوري المادي الذي لا يخلق إلا المثقفين الفاقدين روحهم . وهذا المفهوم هو الذي يخلق الرجالَ ربانيين ويصنع الأعاجيب في حياة الفرد والمجتمع ، ولعل العلامة محمد الرابع الندوي تحمّس لتأليف كتابه المعروف بـ ” التربية والمجتمع ” من منطلق هذه البيئة الأسرية التي لا يكاد يحظى به الكثير من السادة والقادة . والكتاب الذي ترجمه الشيخ محمد إبراهيم الندوي والدكتور محمد أكرم الندوي إلى العربية ، خير دليل لاهتمامه بالتربية الروحية التي تهدف إلى التنوير الذاتي . والعلامة يؤكدُ ضرورة إيجاد القدوة الفاضلة لهذه التربية المنشودة المتمثلة في الآية الكريمة : ( وَلَـٰكِنْ كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ ٱلْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ) والتربية لا تتم بمجرد النظريات ، وهي أحوج إلى التطبيق الدائم ليلمس العالم منه منافعها وفوائدها بعين اليقين .

قد حظيَ مع انخراطه في دار العلوم بصحبة زمرة من العلماء من أمثال المحدث محمد حليم عطا ، والمفتي محمد سعيد والسيد حميد الدين والشيخ محمد أويس النجرامي وعبد الفتاح أبو غدة ، ممن كان لهم دور قياديّ في تكوين شخصيته العلمية ، وخصوصاً العلامة           أبو الحسن الندوي الذي كان يدرسه الإنشاء العربي . كما قضى بعض السنوات في دار العلوم ديوبند حيث درس التفسير والحديث والفقـه على علمائها ، والعلامة كذلك تلقّى العلوم من الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي ، المحدّث الهنديّ الكبير وصاحب المصنّفات المشهورة في علوم الحديث .

الداعي المعلّم والأديب والصحافي :

كان جُلّ اهتمامه تسهيل الطرق للدعوة إلى الله وإيجاد الفرص المواتية لها . المحاضرات التي ألقاها في المنابر الوطنية والدولية والدروس التي لقّنها على الطلاب ، ومؤلفاته وتصرفاته وتوجيهاته في مختلف المناسبات تحتضن هذه الفكـرة . وقد كتب كثيراً في الأردية ، أما الكتابات العربية فهي ناطقة بعلوّ كعبه في اللغة ، يظهر فيها ملامح حنكته وتجاربه وتضلّعه من اللغة ، وقد امتلك بناصية اللغة تعبيراً وتحريراً ، وهي تفيض على لسانه وقلمه بصورة تلقائية خالية من التكلف والصناعة . وكتابه ” الأدب الإسلامي – فكرته ومنهاجه ” يبلور مدى اهتمامه بصياغة الأدب في قالب القيم والأخلاقيات  ، وهو الأدب الوحيد في نظره يستطيع تغيير الواقع وقيادة المجتمع ، أما السقطات والسفسطات فإنها من الأدب التافه الذي لا يُقام له وزن في الحياة ، ويجب أن ينهض الأديب المسلم بواجبه تجاه صناعة الأدب الهادف الذي يسري في الوجدان ويثير العواطف نحو الحق والعدل ، ويقاوم الجور والباطل ، وقد نادى الفقيد المجتمع في خلال ممارساته الأدبية للإقلاع من الخلاعة إلى النزاهة ، ومن الابتذال إلى الاحتشام ، ومن الفسوق والمجون إلى العفة والفضيلة .

أما التعليم فهو المجال الأكثر وضوحاً لبصماته ، قام به أكثر من خمسين سنةً ، حتى يمكن القول : إنه يكاد يتمثل فيه من شخصية المعلّم المثالي ما يشير إليه أحمد شوقي عميد الشعراء وهو يقول :

قمْ للمعلّم وفِّــه التبجيلا           كاد المعلّمُ أن يكــون رســولا

وكل طالب تخرّج من دار العلوم ندوة العلماء ، استطاع أن يغترف من نمير علمه الفياض طيلة هذه الفترة . وهو بالنسبة إليه معلّمهم ووالدهم في الوقت الواحد ، عاش معهم بدوره في التعليم والتربية ، ليجدوا في حضانته من الحنان والشفقة ما يُسلّيهم في وحشتهم ويؤنسهم في غُربتهم ، وكيّفَهم لإصلاح الباطن في سِرّهم وعلنهم .

أما الصحافة العربية ، فقد أخذ العلامة زمامها في القارة الهندية ، وكم من صفحات مزدانة بمقالاته ذات الروعة في معناها ومغزاها ! ويكفينا الاطلاع على مجلة ” البعث الإسلامي ” التي كانت ولا تزال تشعّ نور العربية الناصعة من بلاد الهند منذ أكثر من 68 سنة ، وما من مجلة من المجلات العربية الصادرة من الهند كُـتب لها من البقاء والاستمرارية مثل ما ناله ” البعث الإسلامي ” الغراء . ومجلة ” ثقافة الهند ” التي أنشأها مولانا أبو الكلام آزاد ، كان لها قدم سبق في المجال . وكان العلامة في طليعة من قاد البعث الإسلامي من حسن إلى أحسن في صياغة هيكلها وإثرائها بما يُحبِّذ به القـراء من العرب والعجم . وكانت مقالاته العربية والأردية تتناول القضايا الاجتماعية والثقافية الأكثر مادةً تشغل الرأي العام .

ورغم فراق العلامة محمد الرابع الندوي إلا أن الحسنات والخدمات التي قدّمها للأمة لا تموت ولا تبلى ، بل تظلّ تبقى رمزاً حيّاً لفضل صاحبها . تزدان بها صفحات التاريخ في كل عصر ومصر ، ويستلهم منها شباب المستقبل دروس البقاء والنضال ، مما يجعل الراحل في عِداد من ذكرَه الشاعر :

قد مات قومٌ وما ماتتْ مآثــرهم        وعاش قـوم ، وهُمْ في الناس أمــوات

رحم الله العلامة محمد الرابع الندوي . إنه في عمره الواحد عاش جيلاً قد مضى استلهم منهم تجاربهم ، وجيلاً رافقه نوّر لهم دربهم ، وجيلاً يأتي بعده يقتدون بمآثره . وتُوفي ليعيش في قلوب العباد إلى أبد الآبدين .


* ويناد – كيرالا