الحياة آية كبرى على البعث

التعليم النبوي : طرقه وأساليبه ووسائله
يونيو 23, 2023
إصلاح ذات البين : فريضة دينية
يوليو 28, 2023
التعليم النبوي : طرقه وأساليبه ووسائله
يونيو 23, 2023
إصلاح ذات البين : فريضة دينية
يوليو 28, 2023

الدعوة الإسلامية :

الحياة آية كبرى على البعث

بقلم : د . غريب جمعة / جمهورية مصر العربية

ينكر الملحدون في العصر الحاضر قضية البعث والنشور وما يكون بعده من حساب وثواب وعقاب وما ينتهي إليه مصير الناس عند قيامهم لرب العالمين ، إما إلى نعيم مقيم أو إلى عذاب أليم .

ومن العجيب أن يحسب هؤلاء الملحدون أنفسهم أصحاب فكر حر تقدمي ( متقدم ) يرفض مثل هذه الأساطير البالية التي سيطرت على عقول المؤمنين بها قروناً عديدةً ، ولا تزال تتحكم في مسيرة حياتهم .

والحق أنهم ليسوا أصحاب فكر حر ولا تقدمي ، إنهم أصحاب فكر مقيد بقيود المادة وفي قمة الرجعية ، لأنهم قالوا ما قاله أسلافهم من عتاة الكفرة والملحدين ، وقد سجل القرآن عليهم ذلك في مواضع كثيرة نختار منها قوله تعالى : ( بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأوَّلُونَ . قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ . لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ  الأوَّلِينَ ) . [ المؤمنون : 81 – 82 ] .

والمعنى : أي قالوا مثل ما قال الأولون السابقون لهم من الأمم قالوا: أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً باليةً أئنا لمبعوثون أحياء ؟ وقالوا: لقد وعدنا نحن وآباؤنا مثل هذا من قبل كثيراً ، ولم يتحقق منه شيئ ، لأنهم لغباوتهم يفهمون أن الإعادة في الدنيا ، وقد قالوا ما هذا الوعد الذي نسمعه إلا أساطير الأولين وأحدوثة من أحاديثهم المكذوبة [1] .

ولن ندخل في جدل عقيم لا طائل تحته ولا سفسطة لا جدوى منها مع هؤلاء الزائغين ، ولكنا نوجِّه حديثنا إلى من يبحث عن الرشد بحث الخبير بقيمته ليمشي سوياً على صراط مستقيم حتى يتمتع بالحياة الطيبة في أولاه وأخراه .

إن من أشد الآيات وضوحاً وأكبرها دلالةً على إعادة الحياة والبعث والنشور هي آية إيجاد الحياة في ملايين الكائنات الحية التي تعيش على الكرة الأرضية ، وإليك التفصيل بعد الإجمال : إن العلم يحدثنا بأن الأرض كانت كتلةً ملتهبةً من النار ، ثم بردت قشرتها على تطاول الآماد ، ثم أوجد الله فيها الحياة آيةً كبرى على كبير قدرته وسعة علمه وسطوة إرادته جل جلاله .

ألا ترى إلى الذرات الميتة كيف تحدث منها الخلايا الحية ، وهذه الخلايا تحتوي على مدهشات المعجزات لأن كل خلية تحمل سنة من سنن التكوين التي أودعها الخالق فيها ، وما أكثر أنواع التكوينات الهائلة التي لا تكاد تحصى ، وتظهر فيها العجائب التي يهتف لسان حالها بسعة علم الله وعظيم قدرته جل جلاله .

وها نحن نشاهد كيف تنفلق الحبة الميتة بسر الحياة ويخرج منها العجب العجاب من الخلق ، بل نرى كيف يدرك نور الإصباح ظلمات الليل فتنفلق عن نور بهيج ساطع يتنفس فيه الصبح لتدب الحياة في الكائنات التي سكنت ليلاً طويلاً لو شاء الله جعله سرمداً إلى يوم القيامة .

يقول الله تبارك وتعالى : ( إنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَىٰ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ . فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) . [ الأنعام : 95 – 96 ] .

وتأمل قوله تعالى : ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ) [ الفلق : 1 ] .

‏‏إذ لا ريب أنه الاستعاذة برب الفلق إرشاد رائع إلى عظيم قدرة الله الذي قدرَّه وأجراه . وأل هنا للجنس والاستغراق .

وكون الحياة التي طرأت على الكرة الأرضية حقيقة ملموسة لكل العلماء ، وصدق المعري إذ يقول :

والذي أدهش البرية حيوان مستحدث من جماد

فحدوث الحياة على الكرة الأرضية أدهش البشرية كلها ، وإعادتها نزلة أخرى يدهش أكثر وأكثر ، وآية إعادتها تسلسل البشرية بنظام دقيق محكم مشاهد .

‏وقد منح الله الإنسان نعمة التعقل والتفكر من بين الأحياء ، وكرَّمه وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً ، ولا شك أن التعقل والتفكير يهدي إلى الإيمان بالبعث بعد الممات .

وهذا رجل ممن خلوا يمر على قرية أي بلدة قد تداعت عمائرها وصوَّحت أشجارها وحدائقها ، وأصبحت خاليةً من العمران بعد أن كانت تضج بالحياة والصخب والضوضاء .

‏فيدهش لرؤيتها ويأخذه العجب كل مأخذ ويتفكر – مستبعداً – كيف تعود الحياة لأحيائها الذين هلكوا ؟ وكيف تنضر الأرض وتخضر بعد الجفاف والتصويح ؟

فأراد الله تبارك وتعالى أن يريه حقيقة ذلك في نفسه وفي طعامه وشرابه وفي حماره الذي يمتطيه فأماته الله مأة عام ثم بعثه مرةً أخرى وأعاد عليه الحياة وأراه كيف أن طعامه لم يتغير ، وكذلك شرابه لم يأسن وأراه بالتالي حماره الذي كان عظاماً نخرةً كيف يجمعها وينشزها ويجري فيها الدم وتُعاد إليها الحياة .

‏وكيف لا يكون الله على كل شيئ قدير ، وهذه الكرة الأرضية تعج بالملايين من أمثاله وأمثال دابته ؟

‏وهنا يدرك علماء الأحياء أن الحياة إنما تجري في الخلية بالنفخة الروحية الإلهية فلما أعاد الروح إليه دبت الحياة فيه وفي دابته . وظل طعامه وشرابه محفوظاً أيضاً ليريه أسراره عز وجل في خلقه حقيقة ماثلة أمامه .

‏ولم يسعه حيال ذلك سوى أن يخضع ويضرع ويهتف من أعماق قلبه : سبحانك لا إله غيرك ولا رب سواك ، وإنك على كل شيئ قدير .

يقول الله تبارك وتعالى مصوراً ذلك المشهد العجيب : ( أَوكَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوبَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )    [ البقرة : 209 ] .

‏وهكذا يتبين لأولي البصائر والعلم أن الله سبحانه وتعالى خلق الحياة لأول مرة ، وأبقاها متسلسلةً مطردةً مشاهدةً للجميع وهو سبحانه القادر على أن يعيدها مرةً أخرى كما بدأها أول مرة .

‏ولكن الملحدين الدهريين أولي العمى والجهل ينكرون ذلك ولا يؤمنون به ، فهذا جدهم الكفور أُبًيُّ بن خلف ( وفي إحدى الروايات العاص بن وائل ) يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عظم رميم وهو يفتته ويذروه في الهواء وهو يقول :

يا محمد أتزعم أن الله يبعث هذا ؟

فقال صلى الله عليه وسلم : ” نعم يميتك الله تعالى ، ثم يبعثك ثم يحشرك إلى النار [2] .

ونزل قوله تعالى : ( أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوخَصِيمٌ مٌّبِينٌ . وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ . قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوبِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) [ يس : 77 – 79 ] .

‏أي لقد استبعد هذا الملحد الكفور وأمثاله إعادة الله ذي القدرة العظيمة – الحياة للأجساد والعظام الرميمة ونسي نفسه وأنه قد خلق من عدم فكان ما علمه من نفسه هو أعظم مما استبعده وأنكره ، ولهذا قال الله تعالى : ( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوبِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) .

‏أي يعلم جميع العظام في جميع أقطار الأرض أين دفنت وأين ذهبت وأين تفتت وتفرقت !!

‏والملحدون المنكرون للبعث ليسوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط ، بل هم موجودون في كل عصر كما أشرنا في البداية ومقالتهم واحدة وأهدافهم واحدة وهم صنفان وإن تعددت أسماؤهم واختلفت بواعث إلحادهم وكفرهم .

الصنف الأول :

صنف من العامة وأشطار المثقفين وهم أمعات يتبعون كل ناعق ‏ويصدقون بكل ما يسمعون ولا قدرة لهم على التمييز بين العلم والظن والوهم والإفك والدس وسوء التأويل والتهويش، ‏وهؤلاء لا علم لهم بحقائق الأشياء فالحقيقة عندهم ما يلقنونها تلقيناً كما تلقن الأموات ويثبتون عليها دون نقد أو درس أو تمحيص أو تدقيق أو تحقيق .

‏وهم لا يهمهم الوصول إلى حقائق العلم اليقيني والتعرف عليها بل يكرهون من يكشفها لهم ، هم جماد في جماد أو كما يقول النحاة في أيٌّ : ” أيٌّ هكذا خلقت ” .

ولو قلت : إنهم صخور صلدة غير قابلة للحركة والتجدد لا تعد والواقع حسبهم انحطاطاً أن كل أمرهم المعتمد منصرف إلى ما تنصرف إليه الحيوانات المرسلة : طعام وشراب وتناسل ثم موت وفناء !!

ولا مسؤولية عن الجرائم والفواحش التي ارتكبوها بل هي في زعمهم انتهاز وذكاء وعبقرية والاستمتاع بالحياة !!

‏وخلاصة أمرهم أنهم لا يرون وجود شيئ بعد الموت إلى التراب !! تتجدد به الحياة وتنتهي إليه وفيه ختم النهاية الأبدية .

هذا كل إيمانهم في نهاية الحياة ، وهم عنزيون لو اجتمع إليهم كل علماء الأرض وأقاموا لهم كل البراهين العلمية اليقينية فإنهم لا يؤمنون ، ولسان حالهم يقول : ” عنزة‏ ولو طارت ” والسلام .

الصنف الثاني :

صنف من العلماء الذين يتعمقون في دراسة علوم المادة ويرونها الأولى والأساس ، وكل العوالم ناجمة عنها فلولا المادة لما كان ثمة وجود ما .

ومعلوم أن المادة غير عاقلة ، وأنها لا تتصرف أي شيئ من أعمال الوجود بعلم وقدرة وإرادة بل هم الذين يتصرفون في هذا المنعطف ‏الضئيل من الكون بقدر ما تسمح به مدنيتهم .

وهذا الصنف من العلماء كالأميين من الملاحدة وأشطار المثقفين لا يؤمنون بوجود رب العالمين ، الذي بيده وحده الخلق والأمر والتصرف المطلق والهيمنة على كل المخلوقات دون شريك أو ند أو وزير أو معين .

‏ولا ريب أن الذي لا يؤمن بالله الخالق العظيم فإنه لا يؤمن بالآخرة ‏ونهاية أرواح البشرية إليها ، بل يعتقدون أن نهاية هذه العوالم المادية القائمة ليست نهاية تبديل وتغيير ، ثم يليها خلق جديد للأرض والسماء ثم الانتقال إلى الجنة أو إلى النار ، وإنما هي نهاية عدم سرمدي محصن .

‏ولا آخرة ولا جنة ولا نار ، إن هي إلى أساطير وخرافات وأحلام مصورة صوراً مخططةً في الأعصاب ورثناها من القدماء من مخاوفهم من النهاية المظلمة المهولة والحقيقة الماثلة في الوجود التي تهيمن عليه وتديره هي الصدفة العمياء الصماء ولا شيئ وراءها ، فمنها البداية وإليها النهاية !!

وها هو ذا القرآن المجيد المعجز المتحدي ينادي بحقائق الإيمان الأصيلة ويقدمها إلى البشرية كافةً ، بالبراهين العلمية اليقينية ‏الشاهدة على مدى المدنيات والتطورات العلمية الصاعدة .

ومع هذا الطلب الصريح من منطق آيات وحي الله القرآن المجيد نجد من يجحدونها تقليداً وتألباً لصالح العيش أو بحقد العنصرية أو بإيحاء الباطل ويقاومونها بكل أساليب الأبالسة العُتاه والفجرة الطغاة والظلمة القساة .

‏ويتميز القرآن بطريقته الفريدة في هداية الإنسان إلى العقيدة الصحيحة وإقامة الدليل عليها ، وهي عقيدة التوحيد وما يتبعها من إيمان باليوم الآخر وما فيه من البعث والنشور .

‏وهي طريقة فطرية يستطيع كل عقل أن يتجاوب معها دون الحاجة إلى فلسفة ومقدمات كلامية تعقد الأمور وتثقل على العقول وهذه الطريقة هي التفكر الهادي في الخلق تفكراً يخرج منه العقل السليم إلى الاقتناع ببطلان ما تفعله طوائف من البشر من عبادة بعض المخلوقات كالكواكب والنار والحيوان والأحجار بزعم أنها آلهة أو شركاء لله في ‏ألوهيته وبطلان ما يدعي أقوام من أن الحقيقة الماثلة في الكون التي تهيمن عليه وتديره هي المصادفة العمياء الصماء .

وينتهي بالعقل إلا أنه لا معبود بحق ولا خالق بحق إلا الله الذي يملك تمام القدرة وتمام النعمة .

وإذا كان القرآن يتحدث عن التفكر في خلق الله فإنه لم يتحدث عن ذات الله حديثاً مباشراً لأن الذات الإلهية لا يمكن وصفها ولا تصور كنهها ولا الإحاطه بها ولوعلى وجه التفريب .

‏يقول الشيخ محمد محمد المدني – يرحمه الله – : ( بتصرف  يسير ) وإنما نجد حديث القرآن في هذا الجانب على وجه السلب والنفي فيقول مثلاً : ( لَيْسَ كَمِثْلِه شَيْءٌ ) [ الشورى : 11 ] .

أي ليس مثل الله ذاتاً وصفات وأفعالاً شيئ من المخلوقات والعوامل المحيطة بالإنسان لأنه هو الذي خلقها وخلق ذواتها وأفعالها وصفاتها ولن يماثل المخلوق الخالق في شيئ من ذلك تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .

وبهذه الجملة القصيرة يضع القرآن قانوناً وقائياً عاماً نستعمله كلما احتجنا ‏إلى مدافعة وهم من الأوهام في تصور ذات الله تعالى [3] .

‏وهذا القانون هو ما عمي عنه المحجوبون عن الله فركبوا متن عمياء ليضربوا بها في بيداء من الضلال البعيد .

‏ولنقرأ معاً هذه الأبيات التي صدق ناظمها :

تــــبــــارك الله في عــــــلـــــيــــاء عزته  وكـــل كـــل لـسان عن تعاليه

لا كـــــون يــــحـصره لا عين تنظره  لا كشف يظهره لا جهر يبديه

حارت جميع الورى في كنه قدرته  فـــلــيس يُدرك معنى من معانيه

ســـــبـــــحـــــانه وتــــعـــالى في جلالته  وجل عزاً ولــــطـــفاً في تــساميه [4]

أما القول بأن المصادفة العمياء هي التي تهيمن على الكون وتديره فهو قول لن نطيل الحديث عنه لأنه بلغ من التهافت والسقوط درجةً جعلت أوله يركل آخره وآخره يصفع أوله !!

‏وتأمل ما يقوله أحد عباقرة الإغريق القدامى في العلم وهو           ” ديموقريطس ” في هذا الصدد يقول ذلك العبقري : ” لا يوجد شيئ في الطبيعة اسمه صدفة بل الصدفة خرافة اخترعت لتبرير جهلنا ” [5] . ثم يأتي من بعده الأستاذ ” أ . كريس موريسون ” ليغلق باب القول بالمصادفة بطريقة رياضية بحتة ، وذلك في كتابه القيم : ” العلم يدعو إلى      الإيمان ” ، يقول الرجل :

خذ عشرة ” بنسات ” كلاً منها على حدة وضع عليها أرقاماً مسلسلةً من (١) إلى (١٠) ثم ضعها في جيبك ‏وهزها هزاً شديداً ثم حاول أن تسحبها من جيبك حسب ترتيبها من (١) إلى (١٠) .

إن فرصة سحب البنس رقم (١) هي بنسبة (١) إلى (١٠) وفرصة سحب رقم (١) ، (٢) متتابعين هي بنسبة (١) إلى (١٠٠) وفرصة سحب البرنسات التي عليها أرقام (1، ٢، ٣) متتالية هي بنسبة (١) إلى (١٠٠٠) ‏وفرصة السحب (١ ، ٢ ، ٣ ، ٤) متتالية هي بنسبة (١) إلى (١٠٠٠٠) وهكذا حتى تصبح فرصة سحب البنسات بترتيبها الأول من (١) إلى (١٠) بنسبة (١) إلى (١٠) ملايين !!

أي عليك أن تحاول ١٠ ملايين محاولةً حتى تخرج هذه البنسات في ترتيبها الأول من (١) إلى (١٠) .

‏والقصد من هذا المثل البسيط أن أبين لك كيف تتكاثر الأعداد بشكل هائل ضد المصادفة [6] .

‏الله أكبر (١٠) ملايين محاولة لترتيب (١٠) بنسات من (١) إلى (١٠) فكيف بترتيب هذا الكون الذي لا يعلم حدوده إلا خالقه جل  جلاله ؟!!

هل تصنع الصدفة ذلك ؟

ما هذا الكون البديع الصنع ، وما هذا العالم المحكم الترتيب وما هذه السماء وأعاجيبها ، ‏وما بال نجومها وأفلاكها ،‏وهذه الشمس وضحاها والقمر إذا تلاها والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها والسماء وما بناها وما هذه الأرض وما طحاها أخرج منها ماءها ومرعاها وأنبت كل نبت فيها وأرساها وشق فيها أنهاراً وحلاها . وما هذا الليل والنهار وما هذا الفلك الدوار ، ليل يزحف بجحافله ، ونهار يختفي بمعالمه ، ثم لا يلبث أن تعاد الكره بنظام ومسرة .

‏فهل تصنع الصدفة ذلك كله أم أنه صنع الله الخبير البصير المحكم التدبير الواحد القدير [7] ؟! إن في ذلك لآيات لأولي الأبصار .

ولنقرأ معاً مرةً أخرى في الختام : ( أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوخَصِيمٌ مٌّبِينٌ . وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ . قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوبِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) [ يس : 77 – 79 ] .


[1] التفسير الواضح ، د . محمد حجازي ، طبعة الأزهر ، المجلد الرابع ، ج 18 ، ص 41 .

[2] تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن كثير ، طبعة دار الشعب ، ج 6 ، ص 579 .

[3] خصائص القرآن ، الجزء الأول ، ص 37 .

[4] مجاني الأدب ، جزء 2 ، ص 5 .

[5] قصة الحضارة ، وول ديورانت ، الجزء الثاني ، المجلد الثاني ، ص 202 .

[6] الفصل الأول ” عالمنا الفذ ” من كتاب ” العلم يدعوا إلى الإيمان ” ، ص 49 .

[7] التفسير الواضح ، المجلد الأول ، جزء 4 ، ص 95 و 96 ، طبعة الأزهر .