طاعة النبي صلى اللّه عليه وسلم
فبراير 23, 2025النظافة في الحياة البشرية من خلال المصادر الإسلامية والدراسات الحديثية ( الحلقة الثالثة )
فبراير 23, 2025الدعوة الإسلامية :
الحوار وسيلة سلام للمجتمعات البشرية
د . محمـد أيوب تاج الدين الندوي *
التعايش بسلام في المجتمع البشري مقصد شريف يتطلبه كل فرد من أفراده . ولا يتحقق ذلك إلا إذا تفاهم الناس اختلافاتهم . والحوار أجل وسيلة لنشر السلام في المجتمعات البشرية . والعقلاء يبحثون عن فرص لتبادل الأفكار وتفاهم المواقف وحصول التجارب ، وهي جميعاً بدورها تقود الناس في المجتمع إلى معرفة أحوال الآخرين وظروفهم والتفاهم معهم . ومن المعلوم أن للتعددية الثقافية فوائد كثيرة ، ولكنها في نفس الوقت لها تحدياتها ومشكلاتها . وإن وجهة نظر دينية خاصة أو مذهبية يمكن أن تشعل شرارة الخلاف وحتى الصدام في المجتمعات البشرية .
إن الناس في العالم المتعدد الثقافات ينتسبون إلى ديانات عديدة وحتى إلى أقاليم ومناطق مختلفة . وإذا كانوا في دين واحد فهم يختلفون إلى مذاهب ومدارس فكرية متعددة . ولقد خلق الله تعالى الناس وجعلهم مختلفين في ألوانهم وأجناسهم وألسنتهم ، ولكن هذه الاختلافات ليست هناك ليتناكروا ويتنازعوا ، وإنما هي ليتعارفوا كما قال تعالى : ( يا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) [1] .
فالذين يستخدمون العنف لسيطرتهم في المجتمع وهيمنتهم على الناس أولئك هم السفهاء وطاشت عقولهم ، وأما الذين صبروا واختاروا التعقل والحكمة لحل المشكلات فأولئك هم الأذكياء وهم يعقلون . والحوار أجل وأجمل وسيلة يستخدمها العقلاء لحل المشكلات في المجتمع ، وهو أفضل منهج يتخذه أولو الألباب لنشر السلام في الناس . وإن العلماء المخلصين والفلاسفة المفكرين اتخذوا الحوار وسيلةً ودعوا إليها الآخرين في أيامهم حتى يسود الأمن والسلام في العالم المتعدد الثقافات .
في العقد الأول من القرن الحالي تكثف عقد برامج ومؤتمرات حوار الأديان في العالم ، وذلك بعدما اقترح الباحث السياسي صموئيل هانتغتون نظرية صراع الحضارات وآمنت بها أمريكا ، وبدأت تهاجم دول الشرق وخاصةً الدول الإسلامية منها مثل أفغانستان والعراق وبعدما عانت من خسائر فادحة في الأموال والأنفس ووجدت أن المسلمين بدؤوا يبغضونها بغضاً شديداً ، وخافت أن حربها الاستراتيجية في غرب آسيا تتحول إلى حرب صليبية جديدة ، لجأت أمريكا إلى حوارات للديانات المختلفة وخاصةً الإبراهيمية منها ، وحاولت أن تقلل غضب المسلمين وقدمت نظرية الحوار بين الأديان . ومن المعلوم أن الإسلام من أول يومه شجع الحوار والمجادلة مع أهل الكتاب ، وليس هذا أمراً جديداً ومستحدثاً لدى المسلمين ، وإن المسلمين دعووا دائماً – اتباعاً لرسولهم الكريم صلى الله عليه وسلم – إلى هدم الجدران وإقامة الجسور المتينة بين مختلف الأمم كي تتعارف الثقافات والشعوب ، وإلى إقامة الحوار بدل الصراع ، الحوار الحر الصادق انطلاقاً من قوله تعالى : ( قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلَمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ ٱشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) [2] .
إن الأوضاع الحالية التي يمر بها العالم ككل والعالم الإسلامي خاصةً تفرض على الدعاة وحملة الأقلام الدعوية مخاطبةً غير المسلمين أياً كان موطنهم بأسلوب الإقناع بعيداً عن العصبية ، لتغيير المفاهيم التي روج لها المستشرقون في الغرب ، واستغلها الساسة والمثقفون والكتاب الذين لهم موقف معاد للإسلام .
إن الإسلام يعتبر الناس أبناء عائلة واحدة ، وكلهم سواسية ، فكل الناس في جميع أقطار الأرض سواسية ، ولا فرق في ذلك بين أبيض وأسود ، ولا بين أسمر وأصفر ، لأن أباهم واحد ، وهو سيدنا آدم وأمهم واحدة وهي سيدتنا حواء ، وقد صرح بذلك بوضوح دستور الإسلام وكتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فيقول : ( يا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِى تَسَآءَلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ) [3] .
فالإسلام يرتفع بمستوى فكر الإنسان إلى منزلة عالية رفيعة ينظر منها إلى المرافق الدنيوية نظرة حقارة ، وكل الناس في العالم سواسية لا حدود بينهم ولا قيود ، يعيشون في هذه الأرض فلا فضل بينهم بسبب جنسية أو لون أو قبيلة ، فمثله كمثل رائدة فضاء أمريكية هندية سنيتا وليام التي قالت في اجتماع لها بالطلاب في المركز العلمي الوطني بنيو دلهي في أول أبريل عام 2013م : ” لقد غيرت بعثتي الفضائية وجهة نظري تجاه الناس ، فحينما كنا ننظر إلى الأرض لم نر حدوداً ولا ناساً من جنسيات مختلفة ، واكتشفنا حينئذ أننا جميعاً مجموعة من البشر ومواطنون في الكون بأكمله ” [4] .
وإن البشرية يختلف أفرادها في أجناسهم وألوانهم ، وفي لغاتهم ودياناتهم ، وليس هذا الاختلاف في الجنس واللون ، وفي اللغات والديانات إلا آيةً من آيات الله التي تدل على عظمة قدرة الله في خلقه ، إذ قال الله تعالى : ( وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِى ذٰلِكَ َلآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ ) [5] .
وإن التعايش بسلام بين الأديان الذي نقصده هو في الحقيقة تعايش الحضارات ، وليس صراع الحضارات ، وهو أن يتفق أهل الديانات والحضارات المختلفة لأجل سيادة الأمن والسلام في العالم حتى يعيش الناس في جو من الإخاء والتعاون على ما فيه الخير الذي يكون لصالح البشرية جمعاء . فهذا التعايش بسلام بين أصحاب مختلف الديانات وحتى من لا يؤمن بأي دين أمر مطلوب من عند رب الناس ، وبعد الثورة في تقنية المعلومات التي ربطت الناس في مختلف أصقاع الأرض بشبكة التواصل ، وحولت العالم إلى ما يشبه القرية الصغيرة وسهلت الترابط بين البشر من شتى الجنسيات والديانات ، ازدادت الأهمية للحوار والمفاوضات مباشرةً أو غير مباشر حتى يسهل التفاهم والتعايش السلمي بين الاتجاهات المختلفة والمتعارضة .
وقد أكدت اللجنة المشتركة للحوار بين الأزهر في مصر والكنيسة الأسقفية في بريطانيا ، أن الحوار بين الأديان لا يمس العقائد ، وإنما يسلم كل طرف للآخر بعقيدته وفقاً لمبدأ ” لكم دينكم ولي دين ” ، مع المناقشة بالحكمة والموعظة الحسنة ، لإعلاء قيم الحق والعدل والعلم والتقدم والسلام العادل وترسيخ مبادئ المواطنة والعمل على رفعة شأن الوطن وتحقيق الازدهار والتقدم للشعوب [6] .
وإن الإسلام يلح دائماً بالتعايش بين مختلف الطبقات في المجتمع البشري ، وإن هذا التعايش بين الأديان وبين مختلف الثقافات والحضارات هو في الحقيقة أساس ضروري لتعمير الأرض ، ولم يأت رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم قبل أربعة عشر قرناً إلا رسول سلام ورحمة للعالمين ، وما اتفاقية صلح الحديبية وميثاق المدينة ، وخطبته الأخيرة يوم حجة الوداع إلا نماذج أرست بدعائم السلام في المجتمع المتعدد الاتجاهات لكي يمكن للمسلمين من الأنصار والمهاجرين والمشركين واليهود والصابئين والوثنيين وغيرهم التعايش بسلام وحتى تكون الحرية للتفكير والدراسة الجادة لفهم الديانات المختلفة ، ويكون الخيار لقبول ديانة واختيارها بدون إكراه ، وهذا ما أكده ميثاق الأمم المتحدة في المنتصف من القرن الغابر .
وبما أن البشرية دخلت في القرن الواحد والعشرين مع شبكاتها السريعة للتواصل والترابط ، فمن الصعب أن يعيش الإنسان مع نفسه أو عائلته أو قبيلته دون أن يختلط مع بقية المجتمعات الأخرى التي تؤمن بغير دينه ، وهناك معاملات مالية أو اجتماعية في سفره وحضره ، يقوم بها الإنسان لمصالح ، أو أهداف ، أو ضرورات مشتركة ، فالأمل مازال معقوداً في أن يتعايش أصحاب الديانات المختلفة بين بعضهم البعض ، وإن هذا التعايش بسلام لابد أن يبتني على الثقة والاحترام المتبادلين ، وعلى الرغبة في التعاون لخير الإنسانية في المجالات ذات الاهتمام المشترك .
إن اللقاء والحوار بين أصحاب مختلف الديانات أمر لابد منه ، إذ أن التباعد يسبب في التنافر ، والتنافر يخلق الشبهات ، والشبهات تتعدى إلى الصدامات التي تجر البشرية إلى الخراب والهدم ، ( ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ٱلنَّاسِ ) [7] ، وإن رب هذا الكون لا يحب الفساد ولا المفسدين في أرضه . وإن الله تعالى خلق الأرض وما فيها بل وخلق الكون كله لصالح البشرية ، وإذا قامت عصابة لاستغلال ما في الأرض للأغراض الذاتية ، فعلى جميع الطبقات ردعها ومنعها من ذلك ، وإلا سوف تعاني البشرية مغبتها ونتائجها الوخيمة ، ولأجل ذلك لابد من الاتحاد والاتفاق بين جميع طبقات البشرية بغض النظر إلى الديانات أو الاتجاهات ، ولا يمكن ذلك إلا إذا جلسنا وتفاوضنا واتخذنا الحوار وسيلةً لإنقاذ البشرية من الدمار والهلاك .
إن المعروف معروف والمنكر منكر لدى أتباع جميع الديانات ، وهو ما تعودته الطبيعة البشرية وفطرة الإنسان السليمة . وإذا كانت التعصبات الفردية والجماعية قد صدأت هذه الفطرة السليمة فلابد من تصفيتها وتطهيرها بالجلوس والتفكير فيما هو في صالح البشرية ، والناس في عامة الأحوال في جميع الديانات صالحون يحبون السلام ويحبون التعايش بسلام ، وهم يتفقون في قيم وأقدار توارثوها هم عن آبائهم ولا ينازعهم فيها منازع ، وهي قيم إنسانية مشتركة ، ومن هذه القيم التسامح والتفاهم ، وحل الصراعات مع الآخرين ، والتعاون والعمل الجماعي ، والمسؤولية ، ومساعدة الآخرين ، وإشراك الآخرين ، والعمل التطوعي ، وأعمال الإغاثة ، واحترام الآخرين واحترام الوقت والمواعيد ، والتضامن وتقدير التراث الإنساني والقدرة على التكيف .
ومن أهم أسس التعايش هو الاعتراف بخصوصية كل دين ، وقبول الحوار فقط حول القيم الإنسانية المشتركة ، من أجل سعادة ورفاهية البشر وتقليص المنازعات وتوسيع الأخوة الإنسانية .
لقد أمر القرآن الكريم بالإحسان إلى من يعايش المسلمين ويعاشرهم معاشرةً حسنةً ولا يعمل على تدميرهم وإخراجهم من ديارهم . وأما من يعمل على قتال المسلمين وإخراجهم فقد أمر بقتالهم ونهى عن برهم مصداقاً لقوله تعالى : ( لاَّ يَنْهَاكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى ٱلدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوۤاْ إِلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ . إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِى ٱلدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ ) [8] . ولقد ظل التعايش قائماً بين المسلمين وغيرهم بسبب إقرار الإسلام حرية التدين لغير المسلمين سواء كانوا كتابيين أم غير كتابيين ، وذلك تثبيتاً لقوله تعالى : ( لاَ إِكْرَاهَ فِى ٱلدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَىِّ ) [9] ، وروي أن وفد نجران – وكان من نصارى العرب لما قدم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلوا مسجده وحانت صلاتهم فقاموا يصلون في المسجد ، فأراد الناس منعهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعوهم فصلوا صلاتهم ثم عقدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عهداً يدفعون بموجبه الجزية ، وكتب إلى أبي الحارث أسقف نجران رسالة فيها : ” أن لهم ما تحت أيديهم من قليل وكثير ، من بيعهم وصلواتهم ورهبانيتهم . . . لا يغير أسقف من أسقفيته ، ولا راهب من رهبانيته ولا كاهن من كهانته ، ولا يغير حق من حقوقهم ولا سلطانهم ، ولا شيئ مما كانوا عليه ” [10] .
فالإسلام كدين سماوي يقوم على مبادئ ثابتة وأسس واضحة لا يرفض التعايش إذا كانت الغاية منه تلقائيةً تهدف إلى خدمة الأهداف الإنسانية السامية وتحقق المصالح البشرية العليا ، وأهمها استتباب الأمن وانتشار السلام في الأرض وردع العدوان والظلم والاضطهاد الذي يلحق بالأفراد والجماعات والشعوب ، بشرط أن يكون هذا التعايش محكوماً بالاحترام المتبادل بين أصحاب الديانات والإنسانية جمعاء ، بما يدعم التقدم وخدمة القضايا الإنسانية العادلة وقيم الخير والعدل .
* أستاذ قسم اللغة العربية وآدابها ، الجامعة الملية الإسلامية ، نيو دلهي ، Email: mayub@jmi.ac.in
[1] سورة الحجرات : الآية 13 .
[2] سورة آل عمران : الآية 64 .
[3] سورة النساء : الآية 1 .
[4] The Hindu P 11 dated 02 April 2013
[5] سورة الروم : الآية 22 .
[6] http://gate.ahram.org.eg/News/275017.aspx-
[7] سورة الروم : الآية 41 .
[8] سورة الممتحنة : الآية 8 و 9 .
[9] سورة البقرة : الآية 256 .
[10] زاد المعاد لابن القيم ، ص 41 ، ج 2 .