الحكم النبوية البليغة ومن أروع حكم الصحابة ومن تبعهم رضي الله عنهم

التناص القرآني وتجلّياته في كتاب ” ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ” للإمام أبي الحسن الندوي
يوليو 13, 2021
دور مجموعة ” حكايات الكورونا ” القصصية في تعزيز القيم الإيمانية
يوليو 13, 2021
التناص القرآني وتجلّياته في كتاب ” ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ” للإمام أبي الحسن الندوي
يوليو 13, 2021
دور مجموعة ” حكايات الكورونا ” القصصية في تعزيز القيم الإيمانية
يوليو 13, 2021

دراسات وأبحاث :

الحكم النبوية البليغة ومن أروع حكم الصحابة

ومن تبعهم رضي الله عنهم

الحافظ كليم الله . يس *

الحمد لله ربِّ البريَّة ، والصَّلاة والسَّلام على معلِّم البشريَّة ، أدَّبه ربُّه فأحسن تأديبه ، فكان أحسن الناس قولاً وأعذبهم منطقاً ، وأفصحهم بياناً . . . وبعد !

فأقول مستعيناً بالله فإن أجلَّ الكلام بعد كلامِ الله كلامُ خاتم أنبيائه محمَّد عليه الصَّلاة والسَّلام ، وسنَّته هي المصدر الثَّاني للتَّشريع ، وقد جاءت مبيِّنة لما في القرآن الكريم من أحكام ؛ ففصَّلت مجمله ، وقيَّدت مطلقه ، وخصَّصت عمومه ، ووضَّحت مشكله . وليس غريباً أن يوليها المسلمون عنايةً خاصةً ، بدأت بتدوين الحديث الشَّريف ، واستنباط الأحكام منه والآداب ، إلى غير ذلك من جوانب العناية .

الحديث النبوي الشريف هو المصدر الثاني من مصادر التشريع في الإسلام بعد القرآن ، وربما جاء في نفس المرتبة لأن الله قد أعطى لنبيه حق التشريع في بعض الأمور ، فالقرآن احتوى على أصول الدين وقواعد الأحكام العامة ، ونص على بعضها وترك بيان بعضها الباقي للرسول . وتتخلص وظائف الحديث في توضيح القرآن وتفصيل إجماله وتقييد إطلاقه وتخصيص عمومه .

فكلام النبي صلوات ربي وسلامه عليه آية في الفصاحة والبلاغة وقمة في البيان ، وهو أبلغ كلام صدر عن بشر ، ولكن بلاغة القرآن في أفق لا تناله بلاغة الإنسان . وترجع بلاغة النبي إلى عدة أسباب :

أولها : أنه مؤيد بالوحي والإلهام ، وما كان ينطق عن الهوى ، بل إن هو إلا وحي يوحى إليه .

ثانيها : موهبته الفطرية التي خلقها الله تعالى عليها سليمة .

وثالثها : نشأته في قريش واسترضاعه في بني سعد ، وهم أفصح العرب .

ورابعها : تضلعه من لغة القرآن وعلمه بلغة العرب الفصحى .

ومن معاني الحكمة في اللغة العربية : العلم والتدبير ووضع الشيئ في موضعه وإتقان العمل والفعل والحكمة أيضاً الحجة والبرهان ، وهذه المعاني كلها تصب في واد واحد ، وهو التعقل وإحسان التدبير في الأمور ويكون صاحب هذه الصفات ذا ملكة عقلية تميز بين الإفراط والتفريط في الأعمال والأقوال والأفعال وما إلى ذلك .

وجاء في كتاب ( الكليات ) لأبي البقاء قوله : ” الحكم في اللغة الصرف والمنع للإصلاح ، ومنه حكمة الفرس وهي الحديدة التي تمنع عن الجموح ، ومنه الحكيم لأنه يمنع نفسه ويصرفها عن هواها والإحكام والإتقان أيضاً ، ومنه قوله تعالى : ( أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ) أي منعت وحفظت عن الغلظ والكذب والباطل والخطأ والتناقض ، ومنه اسم الحكيم أي العالم صاحب الحكمة والمتقن للأمور ، ومعنى الحكيم في الله بخلاف معناه إذا وصف به غيره ، ومن هذا الوجه قال تعالى : ( أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَحْكَمِ ٱلْحَاكِمِينَ ) ( سورة التين : 8 ) ، والحكم أيضاً الفصل والبت والقطع على الإطلاق و ( آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ ) معناه أحكمت عباراتها بأن حفظت من الاحتمال أو محكمات مشددة أي ذوات حكمة لاشتمالها على الحكم [1] .

معنى الحِكْمَة اصطلاحاً :

قال ابن القيِّم : الحِكْمَة : فعل ما ينبغي ، على الوجه الذي   ينبغي ، في الوقت الذي ينبغي [2] ، وقال النَّووي : ( الحِكْمَة ، عبارة عن العلم المتَّصف بالأحكام ، المشتمل على المعرفة بالله تبارك وتعالى ، المصحوب بنفاذ البصيرة ، وتهذيب النَّفس ، وتحقيق الحقِّ ، والعمل به ، والصدِّ عن اتِّباع الهوى والباطل ، والحَكِيم من له ذلك [3] . وقال ابن دريد : كل كلمة وعظتك أو زجرتك أو دعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة ، ومنه الحديث : إن من الشعر حكمة [4] .

الحكمة عندهم هي العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه ، وارتباط الأسباب بالمسببات ، وأسرار انضباط نظام الموجودات ، والعمل بمقتضاه ، وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْراً كَثِيراً [5] .

إن الحِكْمَة النبوية طريق إلى معرفة الله عزَّ وجلَّ ، موصلة إليه ، مقرِّبة منه ، وحينها ينقطع العبد عمن سواه ، ولا يطمع في غيره ، وهي سِمَة ممتازة من سمات الأنبياء والرسل والصَّالحين ، والحكمة ميزات للعلماء الربانيين ، وأنَّها ترفع الإنسان درجات وتشرِّفه ، وتزيد من مكانته بين النَّاس ، فعن  أنس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” إن الحكمة تزيد الشريف شرفاً ، وترفع العبد المملوك حتى تجلسه مجالس الملوك ” [6] .

الحكمة دلالة على كمال عقل صاحبها وعلوِّ شأنه ، وهذا يجعله قريباً من النَّاس ، حبيباً لقلوبهم ، ومَهْوَى أفئدتهم ، يقول فيسمعون ، ويأمر فيطيعون ؛ لأنَّهم يدركون أنَّ رأيه نِعْم الرأي ، ومشورته خير  مشورة . وأنَّها تدعو صاحبها للعمل على وفق الشَّرع ، فيصيب في القول والفعل والتَّفكير ، ويسير على هدى وبصيرة . قال أبو القاسم الجنيد بن محمد : وقد سئل : بم تأمر الحِكْمَة ؟ قال : ( تأمر الحِكْمَة بكلِّ ما يُحْمَد في الباقي أثره ، ويطيب عند جملة النَّاس خبره ، ويُؤْمَن في العواقب ضرره ) .

في الحقيقة أن الأحاديث النبوية مليئة بالحكم ، وكيف لا ؟ ما كان نبينا عليه الصلاة والسلام ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى ، لو تدبرنا في أحاديثه ( صلى الله عليه وسلم ) لوجدنا جل أقواله مبنية على الحكم ، ما من حكمة مروية من الخلق أجمعين ، وهي تابعة مذللة لحكمة نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) وحكمه بلغت أعلى درجات الحكمة والفصاحة والبلاغة لم يسبق إليها أحد من الثقلين . وكان كلامه عليه الصلاة وأفضل التسليم قليلاً موجزاً يحفظه من كان في مجلسه ، فخير الكلام ما قل ودل ، لم يسرد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كلامه بل ينتقي العبارات القصيرة ذات المعاني الجليلة البليغة مع روعة الفصاحة وسهولة النظم ، وكان يحب الإيجاز في الحديث كما روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يحدث حديثاً لو عده العاد لأحصاه [7] .

نعتقد أن الحديث النبوي الشريف هو ثاني المصادر التشريعية الأصلية في الفقه الإسلامي بعد القرآن ، فليس من العجيب أن يوليه العلماء منذ القديم أهمية بالغة أتت على شرحه وتحديد مصطلحاته مما يخصّ الرواية وقواعدها ، المعيارية ، العقلية التي لا تبلى مع تقدم   العصور ، وليس ينكرها الوجدان المعتدل والنظرة الموضوعية . كما كان للعلماء جهود في إبراز الشكل الفني للحديث النبوي ، فقدموا من خلال الشروح أحياناً وفي كتب البلاغة بعض الجهود كشفت عن شيئ من المعالم الجمالية في الحديث النبوي ثم وفق ما يناسب عصرهم وتطلعاتهم الفنية والمعايير الجمالية التي وصفوها ، ثم جاء المعاصرون الذين أفادوا من النقد الحديث بمناهجه المختلفة فدرسوا البلاغة النبوية دراسة أقرب إلى التأمل النفسي مستفيدين في أغلب الأحيان من معطيات البلاغة العربية ، فكانت هذه الدراسات تترجح بين الفتور والجمود ، وبين الإبداع والابتكار متأثرةً بالثقافة الفنية التي يتمتع بها الدارس .

علم الحديث الشريف بعد القرآن الكريم هو أفضل العلوم ، وأعلاها منزلةً ؛ لأنَّـه وحيٌ من الله عز وجل ، مكمِّـل لدينـه ، متمِّم لشرعـه ، ولا غنى لمسلم عن فهمه واتباعه ، فهـو الأصل الثاني من أصول التشريع الإسلامي بعـد القرآن الكريم ، وهـو إمَّا مؤكِّد لحكم جاء  فيه ، أو مبيـِّن ومفصِّل له ، أو مشرِّع لحكم جديد لم يرد فيه . وإنَّ أعلى العلماء قدراً وأعظمهم منزلةً هم علماء الحديث ، ولا يجوز العدول عنهم في النقل إلى غيرهم .

يتفق دارسو الحديث النبوي الشريف قديماً أنَّ بلاغته ( صلى الله عليه وسلم ) تتبوأ سُلَّم البلاغة العالية . إذ يجد الباحث في كتب هؤلاء أنَّهم قد أعطوا البلاغة النبوية بعض حقها حين نثروا في كتبهم فصولاً تحدثوا فيها عن جمال الأسلوب النبوي وخصائصه الفنية كالذي نجده عند الجاحظ ( ت 255هـ ) إذ وصف كلام الرسول ( صلى الله عليه  وسلم ) وسمات ألفاظه وجمله ، وموقعه في النفس بقوله : ” هو الكلام الذي قلَّ عدد حروفه ، وكثُرَ عدد معانيه ، وجلَّ عن الصنعة ، ونُزِّهَ عن التكلّف . . . واستعمل المبسوط في موضع البسط ، والمقصورَ في موضع القصر ، وهجرَ الغريب الوحشي . . . ثم لم يَسمَعِ الناسُ بكلام قط أعْمَّ نفعاً ، ولا أقصدَ لفظاً ، ولا أعدلَ وزناً ، ولا أجملَ مذهباً ، ولا أكرمَ مطلباً ، ولا أقصدَ لفظاً ، ولا أحسنَ موقعاً ، ولا أسهلَ مخرجاً ، ولا أفصحَ معنى ، ولا أبينَ فحوى من كلامه صلى الله عليه وسلّم كثيراً ” [8] .

وذكر الحُصَريّ القيروانيّ ( ت453 ) أنّ كلامه ( صلى الله عليه وسلم ) : ” هو النهاية في البيان ، والغاية في البرهان ، المشتمل على جوامع الكلم وبدائع الحكم . . . وليس بعض كلامه أولى من بعض بالاختيار ولا أحق بالتقديم والإيثار [9] ووافق من سبقه ابن الأثير ( 606هـ ) ما ذهب إليه من سبقه ، إذ رأى أنّ بلاغة النبي الكريم ( صلى الله عليه وسلم ) تأييد إلهي إذ يقول : ” أفصحُ العرب لساناً ، وأوضحُهم بياناً ، وأعذبُهم منطقاً ، وأسدُّهم لفظاً وأبينُهم لهجةً وأقومُهم حجةً وأعرفهم بمواقع الخطاب وأهداهم إلى طرق الصواب ؛ تأييداً إلهياً ، ولطفاً سماوياً ، وعنايةً ربانيةً ، ورعايةً روحانيةً .

وقد كان من تمام التكليف وتمام التأييد والنصرة أن يخص الله جل وعلا نبيه المصطفى بقوة الفصاحة والبلاغة ويزينه بالمنطق الحسن حتى يستطيع قرع خصومه ومجابهة أعداء عصره وتقوى حجته في البيان ، وقد صدق الرافعي في قوله فليس إلا أن يكون ما خُص به النبي – صلى الله عليه وسلم – من ذلك قد كان توفيقاً وإلهاماً من الله ، أو ما هذه سبيله ، مما لا ننفذ في أسبابه ، ولا نقضي فيه بالظن ، فقد علَّمه الله من أشياء كثيرة ما لم يكن يعلم ، حتى لا يعيا بقوم إن وردوا عليه ، ولا يُحصر إن سألوه ، ولا يكون في كل قبيل إلا منهم ؛ لتكون الحجة به أظهر ، والبرهان على رسالته أوضح ، وليعلم أن ذلك له خاصة من دون العرب ، فهو يفي بهم في هذه الخصلة البينة ، كما يفي بهم في خصال أخرى كريمة ” .

ثم يعود الرافعي في بيان السبب الآخر – وقد أولى النشأة اللغوية قدراً هائلاً من الاهتمام – فيذهب إلى أنه – صلى الله عليه وسلم – ” قد كان في اللغة القرشية التي هي أفصح اللغات وألينها ، بالمنزلة التي لا يدافع عليها ، ولا يُنافس فيها ، وكان من ذلك في أقصى النهاية ، وإنما فضلهم بقوة الفطرة واستمرارها وتمكنها مع صفاء الحس ، ونفاذ البصيرة ، واستقامة الأمر كله بحيث يصرف اللغة تصريفاً ، ويديرها على أوضاعها ويشقق منها في أساليبها ومفرداتها ما لا يكون لهم إلا القليل منه ” ، كما أرجع أكبر الشأن في اكتساب المنطق واللغة للطبيعة والمخالطة والمحاكاة ، ثم ما يكون من سمو الفطرة وقوتها ، يقول :       ” وقد نشأ النبي – عليه الصلاة والسلام – وتقلب في أفصح القبائل وأخلصها منطقاً ، وأعذبها بياناً ، فكان مولده في بني هاشم ، وأخواله في بني زهرة ، ورضاعه في بني سعد بن بكر ، ومنشؤه في قريش ، ومتزوجه في بني أسد ، ومهاجرته إلى بني عمرو ، وهم الأوس والخزرج من الأنصار ، لم يخرج عن هؤلاء في النشأة واللغة [10] .

وبالجملة فإن بلاغته صلى الله عليه وسلم بلغت المنتهى ، وأجمع عليها جماهير العلماء وطوائف الأدباء ، كيف لا ؟ وقد قال النبي عليه السلام : أنا أفصح العرب بيد أني من قريش ، واسترضعت في بني سعد بن بكر ، فكلامه عليه السلام مستوحى من مشكاة النبوة ، محلى بلآلئ الحكمة البالغة ، مؤيد بتوفيق الإله الكريم ، لذا رأيت أن أجمع بعضاً من أقوال النبي – صلى الله عليه وسلم – التي تحتوي على حكم وكلها حكم ، من أبواب الزهد في سنن ابن ماجة مع شرحها من تفسيرات وأقوال أهل العلم ليستوعب معناها الشرعي بعيداً عن التفسير بالهوى الذي برع فيه البعض من أهل الأهواء والبدع دون النظر إلى عواقب ذلك ، والله المستعان .

نبذة من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام :

لقد أوتي نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ستاً لم يعطهن أحد قبله من المرسلين كما ثبت في الحديث الصحيح عن العلاء ابن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال : فضلت على الأنبياء بست : أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً وأرسلت إلى الخلق كافة وخُتم بي النبيون [11] ، ومن جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم بالإيجاز :

1.      إنما بعثت فيكم لأتمم مكارم الأخلاق

2.      الجنة تحت ظلال السيوف

3.      ليس الغنى عن كثرة العرض ، ولكن الغنى غنى النفس

4.      ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه

5.      العلماء ورثة الأنبياء

6.      من سرَّه أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أجله فليصل رحمه

معنى الحكمة عند شراح الحديث النبوي الشريف :

(1) رأي النووي رحمه الله :

لقد جاء في صحيح مسلم بشرح النووي : وأما الحكمة ففيها أقوال كثيرة مضطربة قد اقتصر كل من قائليها على بعض صفات الحكمة ، وقد صفا لنا منها أن الحكمة عبارة عن العلم المتصف بالأحكام المشتمل على المعرفة بالله تبارك وتعالى ، المصحوب بنفاذ البصيرة وتهذيب النفس وتحقيق الحق والعمل به والصد عن اتباع الهوى والباطل ، والحكيم من له ذلك ، وقال أبو بكر بن دريد : كل كلمة وعظتك وزجرتك أودعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة وحكم ، ومنه قول النبى صلى الله عليه وسلم : إن من الشعر حكمة [12] .

(2) رأي ابن حجر رحمه الله المتوفى عام ( 852هـ ) :

جاء في كتاب فتح الباري في شرح البخاري لابن حجر : وَاخْتَلَفَ الشُّرَّاح فِي الْمُرَاد بِالْحِكْمَةِ هُنَا فَقِيلَ : الْقُرْآن كَمَا تَقَدَّمَ ، وَقِيلَ : الْعَمَل بِهِ ، وَقِيلَ : السُّنَّة ، وَقِيلَ : الإِصَابَة فِي الْقَوْل ، وَقِيلَ : الْخَشْيَة ، وَقِيلَ : الْفَهْم عَنْ اللَّه ، وَقِيلَ : الْعَقْل ، وَقِيلَ : مَا يَشْهَد الْعَقْل بِصِحَّتِهِ ، وَقِيلَ : نُور يُفَرَّق بِهِ بَيْن الإِلْهَام وَالْوَسْوَاس ، وَقِيلَ : سُرْعَة الْجَوَاب مَعَ الإِصَابَة . وَبَعْض هَذِهِ الأَقْوَال ذَكَرَهَا بَعْض أَهْل التَّفْسِير فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى :       ( وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَان الْحِكْمَة ) . وَالأَقْرَب أَنَّ الْمُرَاد بِهَا فِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس : الْفَهْم فِي الْقُرْآن [13] .

وقال ابن حجر : في قَوْله : ( ذِكْر اِبْن عَبَّاس ) أَيْ عَبْد اللَّه بْن الْعَبَّاس اِبْن عَمّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يُكَنَّى أَبَا الْعَبَّاس ، وُلِدَ قَبْل الْهِجْرَة بِثَلاثِ سِنِينَ ، وَمَاتَ بِالطَّائِفِ سَنَة ثَمَان وَسِتِّينَ ، وَكَانَ مِنْ عُلَمَاء الصَّحَابَة حَتَّى كَانَ عُمَر يُقَدِّمهُ مَعَ الأَشْيَاخ وَهُوَ شَابّ ، أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثه قَالَ : ” ضَمَّنِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ ، وَقَالَ : اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَة ، وَفِي لَفْظ عَلِّمْهُ الْكِتَاب ” وَهُوَ يُؤَيِّد من فَسَّرَ الْحِكْمَة هُنَا بِالْقُرْآنِ [14] .

(3) قال صاحب مرقاة المفاتيح في شرح مشكاة المصابيح رحمه الله : الحكمة عبارة عن معرفة الفضلاء الأشياء بأفضل العلوم ، والحكيم الذي يحكم الأشياء ويتقنها [15] .

(4) قال إبراهيم بن يوسف بن أدهم الوهراني الحمزي ، أبو إسحاق ابن قرقول ( المتوفى : 569هـ ) قوله – عليه السلام – : ” الْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ ” [16] الحكمة : ما منع من الجهل ، والحاكم : هو المانع من الظلم والعداء ، ومنه : ” إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً ” [17] ، ويروى : ” لَحِكَمًا ” [18] أي : ما يمنع من الجهل ، وقيل : الحكمة : الإصابة في القول من غير نبوة ، وقيل ذلك في  قوله : ” اللهُمَّ عَلِّمْهُ الحِكْمَةَ ” [19] . وقيل : الحكمة : الفقه في الدين والعلم به . وقيل : الخشية . وقيل : الفهم عن الله .

وهذا كله يصح في تفسير : ” الْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ ” . وفي قوله : ” عَلِّمْهُ الحِكْمَةَ ” ولا سيما مع قوله : ” الْفِقْهُ يَمَانٍ ” [20] . وقد قيل : الحكمة : النبوة . وقيل : هذا كله في قوله تعالى : ( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ ) .

(5) قال محمَّدُ بنُ عزِّ الدِّينِ عبدِ اللطيف بنِ عبد العزيز بن أمين الدِّين بنِ فِرِشْتَا ، الرُّوميُّ الكَرمانيّ ، الحنفيُّ ، المشهور بـ ابن المَلَك ( المتوفى : 854هـ ) عن الحكمة : قيل : هي الفقه ، وقيل : هي الإصابة في الأقوال ؛ إنْ نَطَق نطق بالله ، وإن سكت سكت مع الله [21] .

(6) والحكمة هي : الإصابة لما يرضى به الله ، وما يحبه ، وترك ما يسخطه ويكرهه ، ولا ينال ذلك إلا برقة القلب وصفائه ، فيشهد فيه زواجر الحق ، لأن زواجر الله في قلب كل مؤمن ، فمن كان أصفى قلباً فإنه أحسن إدراكاً لذلك الزاجر ، وأشد إصابةً له ، لذلك نسب الحكمة إلى من رق قلبه [22] .

من أروع الحكم والأقوال من الصحابة ومن تبعهم رضي الله عنهم :

  1. قال ابن مسعود رضي الله عنه : وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكياً محزوناً حكيماً حليماً عليماً سِكِّيتاً ، وينبغي لحامل القرآن أن لا يكون جافياً ولا غافلاً ، ولا صخاباً ، ولا صياحاً ، ولا حديداً ” [23] .

لما حضر عبد الله بن مسعود الموت دعا ابنه فقال : يا عبدالرحمن بن عبد الله بن مسعود ! إني أوصيك بخمس خصال فاحفظهن عني : أظهر اليأس للناس ، فإن ذلك غنى فاضل ، ودع مطلب الحاجات إلى الناس فإن ذلك فقر حاضر ، ودع ما تعتذر منه من الأمور ولا تعمل   به ، وإن استطعت ألا يأتي عليك يوم إلا وأنت خير منك بالأمس   فافعل ، وإذا صليتَ صلاة فصل صلاة مودع كأنك لا تصلّي بعدها .

  1. وكتب سلمان إلى أبي الدَّرداء : ( إنَّما العلم كالينابيع ، فينفع به الله من شاء ، ومَثَلُ حِكْمَة لا يُتَكلَّم بها ، كجسد لا رُوح له ) [24] .
  2. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : ( كونوا ربَّانيِّين حُكَماء فقهاء ) [25] .
  3. وقال عمر بن عبد العزيز : ( إذا رأيتم الرَّجل يطيل الصَّمت ، ويهرب من النَّاس ، فاقْرَبوا منه ؛ فإنَّه يُلقَّى الحِكْمَة ) [26] .
  4. وقال سليمان بن عبد الملك : ( يا أبا حازم ! من أعقل النَّاس ؟ فقال أبو حازم : من تعلَّم الحِكْمَة وعلَّمها النَّاس ) [27] .
  5. وقال وهب بن منبه : ( إنَّ الحِكْمَة تسكن القلب الوَادِع السَّاكن ) [28] .
  6. وقال حماد بن أبي حنيفة : ( كان يقال : من يستقبل وجوه الآراء ، عرف مواقع الخطأ ، ومن عُرِف بالحِكْمَة لمحته الأعين بالوقار ) .
  7. وعن ابن عيينة قال : كان يقال : إنَّ أفضل ما أُعطي العبد في الدُّنيا الحِكْمَة ، وفي الآخرة الرَّحمة ) [29] .
  8. وقال وهب بن الورد : بلغنا أنَّ الحِكْمَة عشرة أجزاء : تسعة منها في الصَّمت ، والعاشرة في عزلة النَّاس ) [30] .
  9. وعن كثير بن مرَّة قال : لا تحدِّث الباطل للحُكَمَاء فيمقتوك ، ولا تحدِّث الحِكْمَة للسُّفهاء فيكذِّبوك ، ولا تمنع العلم أهله فتأثم ، ولا تضعه في غير أهله فتجهل . إنَّ عليك في علمك حقًا ، كما إنَّ عليك في مالك حقاً [31] .
  10. وقال أبو بكر بن دريد : كلُّ كلمة وعظتك وزجرتك ، أو دعتك إلى مكرمة ،أو نهتك عن قبيح ، فهي حِكْمَة ) [32] .
  11. وقال عبد الرَّحمن الحبلي : ( ليس هديَّة أفضل من كلمة حِكْمَة تهديها لأخيك ) [33] .
  12. وقال أبان بن سليم : ( كلمة حِكْمَة لك من أخيك ، خير لك من مال يعطيك ؛ لأنَّ المال يطغيك ، والكلمة تهديك ) [34] .
  13. قال الحسن البصري رحمه الله : رأس مال المسلم دينه فلا يخلفه في الرحال ولا يأتمن عليه الرجال . قال طلق بن حبيب : إذا وقعت الفتنة فأطفئوها بالتقوى ، قالوا وما التقوى ؟ قال : أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله ، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله[35] . قال رجل لعمر بن عبد العزيز : اجعل كبير المسلمين عندك أباً ، وصغيرهم ابناً ، وأوسطهم أخاً ، فأي أولئك تحب أن تسيئ إليه [36] .
  14. قال يحيى بن معاذ الرازي : ليكن حظ المؤمن منك ثلاثةً : إن لم تنفعه فلا تضره ، وإن لم تفرحه فلا تغمه ، وإن لم تمدحه فلا تذمه [37] .
  15. قال ابن تيمية رحمه الله : الخوف من الله يستلزم العلم به ، والعلم به يستلزم خشيته ، وخشيته تستلزم طاعته [38] .
  16. قال إبراهيم بن سفيان رحمه الله : إذا سكن الخوف القلوب أحرق مواضع الشهوات منها وطرد الدنيا عنها [39] .
  17. وقال ذو النون : الناس على الطريق ما لم يزل عنهم الخوف ، فإذا زال عنهم الخوف ضلوا عن الطريق [40] .
  18. وقد أجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم ، وأن من آثر الراحة فاتته الراحة وأن بحسب ركوب الأهوال واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة فلا فرحة لمن لا همَّ له ولا لذة لمن لا صبر له ولا نعيم لمن لا شقاء له ولا راحة لمن لا تعب له بل إذا تعب العبد قليلاً استراح طويلاً وإذا تحمل مشقة الصبر ساعة قاده لحياة الأبد وكل ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة ، والله المستعان ولا قوة إلا بالله [41] .
  19. قال ابن القيم رحمه الله : الذكر هو باب الله الأعظم المفتوح بينه وبين عبده ما لم يغلقه العبد بغفلته . قال الحسن البصري رحمه الله : تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء : في الصلاة ، وفي الذكر ، وفي قراءة القرآن ، فإن وجدتم ، وإلا فاعلموا أن الباب مغلق [42] .
  20. قال الإمام أحمد : الناس إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب ، لأن الرجل يحتاج إلى الطعام والشراب في اليوم مرةً أو مرتين ، وحاجته إلى العلم بعدد أنفاسه [43] .
  21. تكلم الشافعي عن نفسه ، فقال : كنت أتصفح الورقة بين يدي الإمام مالك ، تصفحاً رقيقاً ، يعني في مجلس العلم ، هيبة لأن لا يسمع وقعها [44] .
  22. قال عمر بن عبد العزيز : إنّ الليل والنهار يعملان فيك ، فاعمل أنت فيهما [45] .
  23. معاذ بن جبل الصحابي الجليل : معاذ بن جبل حين حضرته الوفاة وجاءت ساعة الاحتضار نادى ربه قائلاً : يا رب ! إنني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك ، اللهم إنك تعلم أنني ما كنت أحب الدنيا لجري الأنهار ولا لغرس الأشجار ، وإنما لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق العلم ، ثم فاضت روحه بعد أن قال : لا إله إلا الله . روى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : نعم الرجل معاذ بن جبل . وروى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أرحم الناس بأمتي أبوبكر . . . إلى أن قال : وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ رضي الله عنه .
  24. بلال بن رباح : حينما أتى بلالاً الموت قالت زوجته : واحزناه ، فكشف الغطاء عن وجهه وهو في سكرات الموت ، وقال : لا تقولي واحزناه وقولي : وافرحاه ثم قال : غداً نلقى الأحبة ، محمداً وصحبه .
  25. أبو ذر الغفاري : لما حضرت أبا ذر الوفاة بكت زوجته فقال : ما يبكيك ؟ قالت : وكيف لا أبكي وأنت تموت بأرض فلاة ، وليس معنا ثوب يسعك كفنا . فقال لها : لا تبكي وأبشري ، فقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لنفر أنا منهم : ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض يشهده عصابة من المؤمنين ، وليس من أولئك النفر أحد إلا ومات في قرية وجماعة ، وأنا الذي أموت بفلاة ، والله ما كذبت ولا كذبت فانظري الطريق . قالت : أنى وقد ذهب الحاج وتقطعت الطريق . فقال : انظري فإذا أنا برجال فألحت ثوبي فأسرعوا إلي فقالوا : ما لك يا أمة الله ؟ قالت : امرؤ من المسلمين تكفونه . فقالوا : من هو ؟ قالت : أبو ذر . قالوا : صاحب رسول الله . ففدوه بآبائهم وأمهاتهم ودخلوا عليه فبشرهم وذكر لهم الحديث وقال : أنشدكم بالله لا يكفنني أحد كان أميراً أو عريفاً أو بريداً . فكل القوم كانوا نالوا من ذلك شيئاً غير فتى من الأنصار فكفنه في ثوبين لذلك الفتى وصلّى عليه عبدالله بن مسعود فكان في ذلك القوم . رضي الله عنهم أجمعين .
  26. أبو الدرداء : لما جاء أبا الدرداء الموت قال : ألا رجل يعمل لمثل مصرعي هذا ؟ ألا رجل يعمل لمثل يومي هذا ؟ ألا رجل يعمل لمثل ساعتي هذه ؟ ثم قبض رحمه الله . سلمان الفارسي : بكى سلمان الفارسي عند موته ، فقيل له : ما يبكيك ؟ فقال : عهد إلينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ” أن يكون زاد أحدنا كزاد الراكب ، وحولي هذه الأزواد . وقيل : إنما كان حوله إجانة وجفنة ومطهرة الإجانة : إناء يجمع فيه الماء . الجفنة : القصعة يوضع فيها الماء والطعام . المطهرة : إناء يتطهر فيه .

وختاماً أسأل الله تعالى أن يرزقنا الحكم البالغة والعمل الصالح ويبارك لنا في رزقنا . وصلى الله على نبينا محمد وبارك وسلم ، والحمد لله رب العالمين .

* الباحث في مرحلة الدكتوراه بجامعة عالية – كولكاتا .

[1] الكليات لأبي البقاء ، 1/592 .

[2] مدارج السالكين ، 2/479 .

[3] زهر الأكم في الأمثال والحكم ، 1/7 .

[4] الديباج على مسلم ، 1/69 .

[5] الكشكول ، 2/306 .

[6] الجليس الصالح والأنيس الناصح ، 1/109 .

[7] البخاري : 3567 .

[8] البيان والتبيين : 1/221 .

[9] زهر الآداب وثمر الألباب : 1/34 .

[10] الشخصية المحمدية ، لصادق الرافعي ، ص 505 .

[11] سنن الترمذي : 1553 ، هذا حديث حسن صحيح ، قال الشيخ الألباني : صحيح .

[12] شرح صحيح مسلم للنووي : 2/33 .

[13] فتح الباري : 1/123 .

[14] المصدر السابق : 11/58 .

[15] مرقاة المفاتيح : 18/18 .

[16] البخاري ( 3499 ، 4388 ، 4390 ) ، ومسلم : ( 52 ) من حديث أبي هريرة .

[17] البخاري : ( 6145 ) من حديث أبي بن كعب .

[18] رواه الطيالسي : 4/394 ( 2792 ) .

[19] البخاري : ( 3756 ) من حديث ابن عباس .

[20] البخاري : ( 4390 ) ، ومسلم : ( 52 ) من حديث أبي هريرة .

[21] شرح مصابيح السنة للإمام البغوي : 4/461 .

[22] بحر الفوائد المشهور بمعاني الأخبار : 1/72 .

[23] موسوعة الأخلاق للخراز : 1/157 ، أحمد في الزهد : 133 .

[24] مصنف ابن أبي شيبة : 7/121 .

[25] فتح الباري : 1/192 .

[26] التبصرة لابن الجوزي : 2/289 .

[27] المجالسة وجواهر العلم لأبي بكر الدينوري : 8/151 .

[28] سنن الدارمي : 1/471 .

[29] السابق : 6/304 .

[30] شرح نهج البلاغة : 1/2789 ، العزلة للخطابي ، ص 19 .

[31] سنن الدارمي : 1/117 .

[32] شرح النووي على صحيح مسلم : 2/33 .

[33] سنن الدارمي : 351 .

[34] بهجة المجالس وأنس المجالس لابن عبد البر : 5/1 .

[35] زاد المهاجر لابن القيم : 1/10 .

[36] جامع العلوم والحكم : 1/336 .

[37] جامع العلوم والحكم : 1/336 .

[38] الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية : 2/24 .

[39] مدارج السالكين لابن القيم : 1/513 .

[40] مدارج السالكين لابن القيم : 1/513 .

[41] مفتاح دار السعادة لابن قيم الجوزية : 2/15 .

[42] مدارج السالكين : 2/424 .

[43] تهذيب المدارج : 2/770 .

[44] أرشيف ملتقى أهل الحديث : 6/72 .

[45] المصدر السابق .