الحسنُ بن الهَيثم – رائدُ البحثِ العلمي

نوفمبر 5, 2022
48/ سنةً
نوفمبر 5, 2022
نوفمبر 5, 2022
48/ سنةً
نوفمبر 5, 2022

( الحلقة الأولى )

رجال من التاريخ :

الحسنُ بن الهَيثم – رائدُ البحثِ العلمي

( الحلقة الأولى )

الدكتور محمد أنظر الندوي *

الحسن بن الهيثم المقلب بـ بطليموس الثاني ، والفيزيائي ، في الحقيقة رائد البحث العلمي . ذاع صيته في آفاق تاريخ العلم والفلسفة ، وهو معروف في أوروبا بأكملها باسم ” الهازن ” ( Alhazen ) ، وهو تحريف لكلمة الحسن . قد تطور العديد من العلوم كالرياضيات والميكانيكا والفيزياء والفلك والهندسة بسبب هذا العالم المسلم ، نال الشهرة العظيمة بتأسيسه لعلم البصريات وطب العيون على وجه التحديد .

أنجز ابن الهيثم في مجال الفيزياء وعلم البصريات بالتحديد ، فكان أول من أثبت أن الضوء ينعكس من جميع النقاط في الأجسام إلى العين بعكس ما كان شائعاً في تلك الفترة بأنّ العين هي التي تطلق الأشعة فترى الأجسام . ابتكار الكاميرا هو الآخر من إنجازاته ، وإنه سمَّاها بالبيت المظلم ، ومن معطياته الأولوية أنه كان أول من شرّح العين وبيّن أعضاءها ووظائفها . ومن خيراته العلمية إدراكه بالحقيقة أن القمر يعكس ضوء الشمس من جميع النقاط على سطحه . وكانت له نقاشات في نظرية التجاذب ، كما أنّه فرّق في أعماله بين علم التنجيم وعلم   الفلك . قام بتأليف كتاب في علم عقود الأبنية وكيفية شق الأنهار وتنقية القنى وسد البئوق وتنضيد المساكن . ألف كتاباً في علم المساحة .

ابن الهيثم من مواليد البصرة في عام 965م في عهد الخلافة العباسية ، انتقل إلى مصر بطلب من الحاكم بأمر الله ليطبق بعض أفكاره على نهر النيل ، إلا أنه لم يستطع فعل ذلك لعدم وجود الإمكانيات اللازمة لذلك ، فادعى الجنون خوفاً من غضب الحاكم ، واحتجز في منزله ، وألف كتابه الشهير ” المناظر ” ، وعقب وفاة الحاكم بأمر الله تنقّل في أرجاء البلاد من الشام إلى الأندلس وما إليها ، وأثرى المكتبات بمؤلفات عديدة في المواضيع المتضاربة نحو ” المناظر ” ،           و ” الجامع في أصول الحساب ” ، و ” تقدم الصناعة الطبية ” ، وما إلى ذلك . قام بتحضير إسهامات عديدة في الرياضيات كبيانه للأعداد المثالية ، وله العديد من المؤلفات والأعمال المختلفة في هذه العلوم ونحوها كالفلسفة والدين والنفس ، وهي موجودة في مكتبات أوروبية وعربية وإسلامية .

العصر الذهبي للعلم :

قرأ ابن الهيثم وهو لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره معظم الكتب المترجمة بمكتبات البصرة ، حيث كان العصر الذي يعيش فيه وهو القرن الرابع الهجري هو أزهى العصور الثقافية في تاريخ الدولة الإسلامية كلها ، فقد تمت فيه ترجمة كل الكتب من ثقافات العالم أجمع من فارسية ويونانية وهندية ومصرية قديمة إلى اللغة العربية . وقد نجم عن حركة الترجمة هذه بروز قمم جديدة من العلماء العرب مثل ” أبي بكر الرازي ” حجة الطب ، و ” جابر بن حيان ” أعظم عالم كيميائي ظهر في الوجود ، و ” الخوارزمي ” عالم الرياضيات العربي الشهير ، ومبتكر الكثير من بحوث الجبر ، و ” ثابت بن قرة ” العلامة المتعدد المواهب الذي نبغ في الطب والرياضيات والفلسفة والفلك ، وغيرهم من العباقرة ، فأضافوا إلى الكتب المترجمة كتباً غزيرةً أخرى [1] .

عاش ابن الهيثم في العصر الذهبي للعلم ، وكان آنذاك – كما أسلفت الذكر – في الحضارة العربية الإسلامية عدد كبير من كبار العلماء مثل البيروني وابن عراق وابن يونس وابن السمح والخجندي والكرجي وكوشيار الجبلي وابن سينا والنسوي والكرماني والسرقسطي وغيرهم [2] . وكان العقل العربي في تلك المرحلة عقل شرح وإبداع في الوقت ذاته ، وراح العلماء المسلمون يشرحون ويصححون وينقحون كل ما يجيئ في التراجم الإغريقية والهندية والفارسية [3] .

الإلمام بالنشاط الفكري :

وهذا العصر كان يموج بمختلف التيارات العلمية والفلسفية وشتى الاتجاهات الفكرية والأدبية . وطبعاً تأثر ابن الهيثم بما يدور حوله من صراعات العقل ، فألم بنواحي النشاط الفكري السائد في ذلك العصر .

وفي مثل هذه البيئة ، وبين خضم الكم الهائل من الكتب استطاع ابن الهيثم أن يقرأ من الكتب القديمة أصول هندسة إقليدس ومخروطات أبولونيوس ، ومقالات العالم ” أرشيمدس ” في مراكز أثقال الأجسام والمرايا المحرقة ، وما ألفه إقليدس وبطليموس في علم المناظر [4] .

وما إن جاوز العشرين من عمره ببضع سنوات ، حتى كان قد درس علم الفلك ، ثم اتجه إلى الفلسفة ، فدرسها بفروعها الثلاثة ، المنطق والطبيعة وما بعد الطبيعة ، واعتمد في دراساته هذه على كتب أرسطو أعظم فيلسوف يوناني ظهر قبل الميلاد .

ممارسات التلخيص والتدوين والتأليف للكتب :

وفي نفس العمر ، كان قد قرأ كل ما وقعت عليه عيناه من علوم الطب وخاصةً كتب جالينوس رائد هذا العلم . وكتب المتقدمين والمتأخرين من الإسلاميين . لم يكتف ابن الهيثم بقراءة هذه المؤلفات ، ولكنه بذل جهداً بالغاً في تلخيصها ، واستخراج أهم ما فيها من المعارف الأساسية ، ثم تدوين ملاحظاته ومذكراته حول الموضوعات التي يدرسها ، لكي يدرك دقائق معانيها ولكي تستقر هذه المعاني في ذهنه [5] .

توخى ابن الهيثم من النقل والتلخيص والتصنيف أن تكون مراجع يستفيد منها طلاب العلم عامة ، وهو يقول : ” وأنا ما مدت لي الحياة باذل جهدي ومستفرغ قوتي في مثل ذلك متوخياً منه أموراً ثلاثة :

أحدها : إفادة من يطلب الحق ويؤثره في حياتي وبعد مماتي . والآخر : إني جعلت ذلك ارتياضاً لي بهذه الأمور في إثبات ما تصوره وأتقنه فكري في تلك العلوم . والثالث : إني صيّرته ذخيرةً وعدةً لزمان الشيخوخة وأوان الهرم [6] .

ما يزال ابن الهيثم في العشرين من عمره ، ألف كتاب يسمى       ” الجامع في أصول الحساب ” ، وهو كتاب في أصول الهندسة والحساب والتحليل الهندسي والتقدير العددي ، حيث وضع فيه تعديلات جديدةً في أصول الهندسة والحساب ، ثم ألف كتاباً في الطب بعنوان ” تقدم الصناعة الطبية ” ، وهو كتاب ضخم أشبه بالموسوعة الطبية ، وأعقبه بكتاب في الرد على أحد الأطباء الكبار ينتقده لمخالفته رأياً طبياً للطبيب الشهير القديم ” جالينوس ” .

ومن خلال هذه الكتب فوجئ الجميع بتأليفه لكتاب في مجال الهندسة ، وإنه قد عني في هذا الكتاب بعلم عقود الأبنية وكيفية شق الأنهار وتنقية القنى وسد البثوق وتنضيد المساكن ، وهذا الكتاب عظيم المنفعة في عمارة المدن والقلاع والمنازل وفي الفلاحة . ثم ألف كتاباً في علم المساحة ، وهو علم يتعلم منه مقادير الخطوط والسطوح والأجسام ، فيستفيد الناس منه في كيفية حسبة الخراج وقسمة الأرض وتقدير المساكن وغيرها . وبعد مرور عدة أشهر ألف عدة كتب أخرى في مجال الفلسفة ، نقد فيها العديد من آراء الفلاسفة .

والحري أن يذكر أن عدداً محدوداً من الناس كان يقرأ الكتب ، والعلماء لا يكتسبون من تأليف الكتب . فقد اشتد على ابن الهيثم الفقر . وعلماً بهذا ، أسرع رئيس ديوان البصرة بإلحاقه بالعمل في الديوان للاستفادة من مواهبه الخارقة في الحسابات ، وما إن ضم بسلك العمل في الديوان إنه قد صار ذا شأن كبير في الديوان ، وظهر نبوغه الفائق في هندسة البناء ، حتى صار أعظم مهندس معماري في مدينة البصرة كلها ، مما جعل أهالي مدينة البصرة كلها ، يلجئون إليه ليضع لهم رسوم وتصميمات بيوتهم الهندسية ، ثم يعهدون إلى البنائين والعمال بأمر تنفيذها وإنجازها .

تواضعه في البحث العلمي :

عظمة ابن الهيثم لم يمسها ضعف من الخلق ، بل زادها متانة الخلق وجمال التواضع حتى في البحث العلمي ، فمن أقواله المأثورة قوله : ” إذا وجدت كلاماً حسناً لغيرك فلا تنسبه إلى نفسك ، واكشف عن استفادتك منه ، فإن الولد يلحق بأبيه ، والكلام بصاحبه ” [7] .

وهو إن ابتكر فكرةً جديدةً أو تناول بحثاً لم يسبقه إليه أحد ، قنع بالإشارة إلى ذلك بمثل قوله : ” ولا نعرف أحداً من المتقدمين ولا من المتأخرين بين هذا المعنى ولا وجدناه في شيئ من الكتب ” [8] .

ابن الهيثم أول من قال بالسد العالي في مصر :

يقال : إن ابن الهيثم أول من قال بالسد العالي لمعالجة نظام الري في مصر . قصة هذه المقولة طريفة . اشتهر ابن الهيثم بمعرفة العلوم والفلسفة وبالبراعة في الهندسة قبل أن يجاوز الشباب ، ثم اشتهر عنه أنه كان يقول :  ” لو كنتُ في مصر لعمِلتُ في نيلها عملاً يحصل به النفعُ في كل حالة من حالاته ، أي في السيطرة على تصريف مياه الفيَضان . وبلغ ذلك إلى الحاكم بأمر الله الفاطمي الذي تولى الحكم في مصر سنة 386هـ/996م ، فاستقدم ابنَ الهيثم ، وأكرمه ثم عهد إليه بتنفيذ ما كان يقوله . ودرس ابن الهيثم مجرى النيل حتى وصل إلى أسوانَ فوجد أن المصريين قد قاموا ، منذ الزمن الأبعد ، بكل ما كان هو يفكر به ، وعلى نمَطٍ أتمَّ . فاعتذر إلى الحاكم بخطئه في التقدير ، فعذره الحاكمُ و ولاه ديواناً واستمر في إكرامه ، فتولاه رهبةً لا رغبةً . غير أن ابنَ الهيثم خشِيَ أن يتبدّل قلبُ الحاكم عليه – وكان الحاكمُ معروفاً بالتقلب والإقدام على سفك الدماء – فأظهر الجنونَ . ومع ذلك فإن الحاكم لم ينقُص من إكرامه شيئاً ولا قصّر في العناية به .

ولما احتجبَ الحاكمُ ( 411هـ/1021م ) عاد ابن الهيثم إلى حاله ، وآوى إلى الجامع الأزهر ، وأخذ ينسَخ الكتب الرياضية والفلكية ويقتات بثمنها ، ويبدو أنه لم يكن مسروراً من إقامته في مصر . ومع أن ابن الهيثم كان – في سنة 418هـ – في بغداد ، فإنه عاد إلى مصر ، وتوفي فيها سنة 430هـ/1039م أو بعدها بقليل [9] .

مكانته واتجاهه :

أحاطت معرفة ابن الهيثم بموضوعات كثيرة مع الدقة والصحة ، وشملت مؤلفاته موضوعات متنوعةً مثل الهندسة والطبيعة والمنطق والفلسفة العقلية وما وراء الطبيعة والإلهيات وعلم الكلام والسياسة والأخلاق والآداب . إنه ألف تهذيب المجسطي ، والمناظر ، ومصادرات إقليدس ، ومساحة المجسم المتكافئ ، والأشكال الهلالية ، وصورة الكسوف ، والعدد والمجسم ، هيئة العالم ، كيفية الأرصاد ، البرهان على ما يراه الفلكيون في أحكام النجوم . لقد نيفت كتب ابن الهيثم عن المأتين ، منها ثلاثة وأربعون في العلوم الفلسفية والطبيعية ، وفي العلوم الرياضية والتعليمية خمسة وعشرون كتاباً ، فضلاً عن كتاب في الطب يقع في ثلاثين جزءاً [10] .

كفانا كتب ابن الهيثم لمعرفة اتجاهه في العلم والحياة ، على الرغم من ذلك إنه بسّط لنا ذلك كله بخط يده في آخر سنة 417هـ/أول سنة 1027م ، وهو في الثالثة والستين من عمره [11] : ” إني لم أزل منذ عهد الصبا مرتاباً في اعتقادات هذا الناس المختلفة ، وتمسُّكِ كل فرقة منهم بما تعتقده من الرأي ، فكنتُ متشكِّكاً في جميعه ، موقناً بأن الحق واحد ، وأن الاختلاف فيه إنما هو من وجهة السلوك إليه . فلما كمُلْتُ لإدراك الأمور العقلية انقطعتُ إلى طلب معدِن العلم ، ووجهتُ رغبتي وحِرصي إلى إدراك ما به تنكشف تمويهاتُ الظنونِ ، وتنقشع غياباتِ المتشكك المفتون ، وبعثتُ عزيمتي إلى تحصيل الرأي المقرّب إلى الله جل ثناؤه المؤدي إلى رضاه الهادي لطاعته وتقواه . . . . فكنتُ لا أعلم كيف تهيأ لي ، منذ صبايَ – إن شئتَ قلتَ باتفاق عجيب ، وإن شئتَ قلتَ بإلهام من الله ، وإن شئتَ قلت بالجنون ، أو كيف شئتَ أن تَنسِب ذلك – أني ازدريتُ عوامَّ الناس واستخففتُ بهم ولم ألتفتْ إليهم ، واشتهيتُ إيثار الحق وطلب العلم . ( ثم ) استقر عندي أنه ليس ينال الناس من الدنيا شيئا أجودَ ولا أشد قربة إلى الله من هذين الأمرين . فخضتُ لذلك في ضروب الآراء والاعتقادات وأنواع علوم الديانات فلم أحظَ من شيئ منها بطائلٍ ، ولا عرفتُ منها للحق منهجاً ، ولا إلى الرأي اليقيني مسلكاً جَدَدَاً . فرأيتُ أنني لا أصل إلى الحق إلا من آراء يكون عنصرُها الأمورَ الحسيةَ وصورتُها الأمورَ العقليةَ ، فلم أجدْ ذلك إلا في ما قرره أرسطوطاليسُ من علوم المنطق والطبيعيات والإلهيات التي هي ذاتُ الفلسفة وطبيعتُها . . . . ” .

إنجازاته وكشوفه العلمية :

  1. برهن على أن الرؤية تحدث من جراء الأشعة الضوئية التي تنبعث من الجسم المرئي إلى عين المبصر .
  2. برهن على أن الشعاع الضوئي ينتشر في خط مستقيم في وسط متجانس .
  3. اكتشف ظاهرة انعكاس النور ، كما اكتشف ظاهرة انعطاف الأشعة الضوئية .
  4. وضع بحوثاً قيمةً في مسألة تكبير العدسات .
  5. شرّح العين تشريحاً وافياً وبين وظيفة كل قسم منها [12] .

أدت أبحاثه في العلوم الرياضية إلى التقدم الذي نلحظه في علم الفلك ، كما مهدت أبحاثه الهندسية الطريق إلى الهندسة المستوية والهندسة الفراغية [13] .

أفادنا الأستاذ الدكتور عبد المجيد نصير أن كوهل ( K. Kohl ) رأى في دراسة ابن الهيثم لضوء القمر على ” أنها أول محاولة دراسة فيزيائية فلكية تفصيلية ” في مؤلفه ” مقالة في ضوء القمر ” . وفيها اقترب ” حتى من دراسة ضوء القمر بأدوات تجريبية ” . إنه الأول الذي استعمل الحجرة السوداء ( Camera Obscura ) مما يوضح  أنه كان باحثاً طبيعياً ، وأنه ” المؤسس للبحث الطبيعي الحديث ” [14] .

” أورد له سيزكين 36 مؤلفاً في الرياضيات مخطوطاتها موجودة ، حقق عدداً منها رشدي راشد ، وعلي عبد اللطيف وغيرهما . في الهندسة المستوية والمجسمة ، وفي خواص المقطوع ، وفي الحساب ، وفي علم العدد ، وفي الأوسعيات ، وغير ذلك . . . . . عرف الأوربيون مسألة ابن الهيثم وأولوها اهتماماً خاصاً حتى سميت عندهم مسألة الحسن ( Al-Hazen Problem ) . . . . . في الهندسة له كتب عديدة نحو ” كتاب في حل شكوك إقليدس في الأصول وشرح معانيه ” و ” شرح مصادرات     إقليدس ” . . . . [15] .

له إنجازات عظيمة في الفيزياء ، وأهمها في علم المناظر ، وكتابه الذي يحمل هذا الاسم شاهد على ذلك ، وقد ألفه سنة 1021 . وقد حققه الدكتور عبد الحليم صبرة . والكتاب من سبع مقالات  . . . ” [16] .

ذكر الأستاذ محمد فتحي صبري أهمية كتاب المناظر قائلاً :    ” بعد وفاة ابن الهيثم بعدة أعوام ترجم كتابه ” المناظر ” إلى اللغة اللاتينية ، فراح الغرب يدرس النسخة المترجمة ويستفيد منها في علوم الضوء والرياضيات .

فقد قلب ابن الهيثم بالقوانين والنظريات التي توصل إليها في هذا الكتاب كل المفاهيم القديمة في علم الضوء ، وأرسى لدى العلماء مفاهيم جديدة ، وهي التي لولاها لما تقدمت البشرية . . . فكيفية الرؤية الصحيحة أدت إلى اكتشاف العدسات بأشكالها من محدبة ومقعرة ، واستفادت من خلالها البشرية في التوصل إلى الميكروسكوبات التي أدت إلى اكتشاف الأجسام المتناهية في الصغر والتي تسبب أخطر الأمراض ، فاستطعنا معرفتها والقضاء عليها ، وإلى التلسكوبات التي مهدت للوصول إلى غزو الفضاء . . . كما استفادت البشرية من فكرة الغرفة المظلمة والتي صارت فيما بعد أساساً لفكرة صندوق التصوير الفوتوغرافي ، والتي أدت إلى التصوير . . . ثم السينما فيما بعد ” [17] .

يقول الأستاذ محمد فتحي صبري : ” وبالرغم من أن ابن الهيثم قد فشل من ألف عام في إنشاء سد يقي مصر أخطار الفيضانات والجفاف الذي يؤدي إلى المجاعات . . فإن الفكرة كانت سابقة على عصرها بألف عام . . فلما جاء عصرها الفعلي الذي وجدت فيه الآلات العملاقة والتكنولوجيا العالية تم تنفيذ الفكرة . . فكرة أعظم عالم في شتى المجالات . . الحسن بن الهيثم ” [18] .

التفكير العلمي والطريقة العلمية :

” للمنهج العلمي أسلوب دقيق للتوصل إلى الحقائق ووضع النظريات والقوانين ، فهو يعتمد على جمع الحقائق العلمية ، وتسجيل الملاحظات والمشاهدات ، وتصميم التجارب بدقة وعناية ، ثم تأتي مرحلة الاستقراء العلمي المنطقي لهذه المشاهدات والنتائج لاستنباط الحقائق وخروج النظريات والقوانين متمشية مع المنطق والواقع ، ويحتاج ذلك إلى الإلهام الحسي واستخدام الملكات العقلية ، فالعقل البشري إذن يشكل أداة أساسية في البحث العلمي ، حيث يسترشد الباحث إلى جانب البصر بالبصيرة ، وهي موهبة العقل والحكمة . يُطلق هذا التسلسل المنطقي ، الطريقة العلمية ” [19] .

إسهام العلماء العرب والمسلمين :

لعب العرب دوراً ملموساً في خدمة العلم ، وأقاموا أسس المنهج العلمي الحديث على دعائم وقواعد متينة يستحيل أن ينكرها أحد . دعائم المنهج العلمي الإسلامي تعتمد على الوسط العدل واليسر والوضوح والتصور الجلي للحياة والهدف المرسوم والغاية التي تخلو من كثرة التأويل والجدال [20] .

إن علماء المسلمين هم بحق الذين وضعوا أصول المنهج العلمي الحديث فربطوا بين العلوم النظرية والعلوم العملية ، وبين الحدس والتجربة وبين الاستنباط والاستقراء والدراسة المكثفة للسنن الكونية وماهيات الأشياء ، فسبقوا فرنسيس بيكون إلى إنشاءها ، بل إنهم زادوا على طريقة بيكون التي لا تتوافر فيها جميع العناصر اللازمة في البحوث العلمية [21] .

يقول الدكتور وسمية عبد الله الحوطي أستاذ مساعد في قسم العلوم البيولوجية ، بجامعة الكويت في كتابه ” مدخل إلى علم الأحياء والطبيعة ” :

” . . . ويذهب البعض إلى أن فرانسيس باكون هو مبتدع الطريقة العلمية ، . . . . . . وقد عرف العرب الطريقة العلمية في أسلوبهم وتفكيرهم العلمي ، بل إن بعضهم قد سبق باكون في إدراكها ، فقد تميزت مؤلفات الخوارزمي بالدقة في التفكير والوضوح في العرض ، كما اعتمد الفارابي وابن سينا على الأسلوب المنطقي والإيجاز والعمق ، كما توافرت لا بن الهيثم في بحوثه ونظرياته ومبتكراته مميزات التفكير العلمي الصحيح ، كذلك كان جابر بن حيان في أسلوبه العلمي يهتم بالتجربة ، ويدقق في الملاحظات ، ويتأنى في استنباط النتائج . أما ابن النفيس فقد مارس بنفسه التشريح وسجل مشاهداته بدقة .

كما سجل الجاحظ مشاهدات وملاحظات عجيبة في سلوك الحيوان وأجرى بعض التجارب بجمع الحيوانات ووضعها مع بعضها تحت أواني زجاجية ليدرس سلوكها ، كما جَرّب أثر الخمر على الحيوانات ، ولذا يُعدّ الجاحظ عالماً تجريبياً .

ويعتبر الرازي مبتكر ما يسمى بالتجربة الضابطة ، فكان يجرب العلاج على نصف مرضاه ، ويترك النصف الآخر عامداً ليرى أثر العلاج على من يتناوله ، ويقارنهم بمن لا يتناولونه ، ولا يدل ذلك إلا على أن العلماء العرب اهتموا بالمشاهدات ، واتبعوا الأسلوب العلمي التجريبي ، وهو أساس البحث العلمي الحديث ” [22] .

ثم يقول الدكتور وسمية عبد الله الحوطي : ” وإذا انتقلنا إلى العصر الحديث نجد أن ” باكون ” كان بارعاً في جمع الحقائق وتنسيقها وربطها ببعض ، والاستنباط منها بطريقة منطقية حيث يضع الفروض ، ويحاول إثباتها من الحقائق والمشاهدات ، ولذلك ينسب إليه أنه مبتكر الطريقة العلمية ، وإن كان واضحاً أن العلماء العرب قد طبقوا هذه الطريقة قبل باكون بعدة قرون إلا أن المؤرخين لتجاهلهم العصر الإسلامي يعتقدون أن باكون قفز بالتفكير العلمي قفزةً كبيرةً ، ووضع مع ” رينيه ديكارت ” أسس التفكير العلمي في العصر الحديث ” [23] .

( للحديث بقية )


* أستاذ مشارك ، قسم الدراسات العربية ، جامعة اللغة الإنجليزية واللغات الأجنبية ، حيدرآباد – 500007 anzar@efluniversity.ac.in

[1] محمد فتحي صبري : الحسن بن الهيثم رائد البحث العلمي ، القاهرة ، دار الفكر العربي ، 1996م ، ص 4 .

[2] أ . د . عبد المجيد نصير : الحسن بن الهيثم في عجالة ، ( مقالة ) ، مجلة الكون ، العدد الثالث ، أكتوبر – ديسمبر 2015م ، ص 5 .

[3] ابن أبي أصيبعة : عيون الأدباء في طبقات الأطباء ، القاهرة ، مطبعة مصطفى وهبي ، 1299هـ/1882م ، ص 550 ، الحسن بن الهيثم : رائد علم الضوء ، ص 17 .

[4] محمد فتحي صبري : الحسن بن الهيثم رائد البحث العلمي ، ص 4 .

[5] المرجع السابق ، ص 4 ، مصطفى نظيف : الحسن بن الهيثم – بحوثه وكشوفه البصرية ، مصر ، مطبعة نوري بمصر ، 1361هـ/1942م ، ص 11 – 12 .

[6] مصطفى نظيف : الحسن بن الهيثم – بحوثه وكشوفه البصرية ، ص 12 .

[7] سعد بن العزيز : فلاسفة الإسلام ، القاهرة ، مطبوعات الشعب ، ص 102 ، مروان القدومي : دور ابن الهيثم في البحث العلمي ، ( مقالة ) ، ص 5 .

[8] د . عبد الحليم منتصر : تاريخ العلم ودور العلماء العرب في تقدمه ، ص 149 .

[9] عمر فروخ : تاريخ العلوم عند العرب ، بيروت ، دار العلم للملايين ، 1390هـ/1970م ، ص 361 – 362 ، ابن العبري : تاريخ مختصر الدول ، بيروت ، المطبعة الكاثوليكية ، 1958 ، ص 182 ، ابن القفطي : أخبار العلماء بأخبار الحكماء ، بيروت ( لبنان ) ، دار الآثار للطباعة والنشر والتوزيع ، ص 114 .

[10] مروان القدومي : دور ابن الهيثم في البحث العلمي ، ( مقالة ) ، مجلة جامعة النجاح للأبحاث ، ( العلوم الإنسانية ) ، المجلد 16 (1) ، 2002م ، ص 7 .

[11] طبقات الأطباء ، ج 2 ، ص 91 – 96 . نقلاً عن تاريخ العلوم عند العرب لعمر فروخ ، ص 366 – 368 .

[12] الموسوعة العلمية ، المجلد السابع ، جنيف ، الطبعة الأولى عام 1985م ، ص 1168 ، مروان القدومي : دور ابن الهيثم في البحث العلمي ( مقالة ) ، ص 7 .

[13] محمد فتحي صبري : الحسن بن الهيثم رائد البحث العلمي ، ص 39 .

[14] K. Kohl, Uber das Licht des Mondes in SPPMSE. 306/1927-1926

[15] أ . د . عبد المجيد نصير : الحسن بن الهيثم في عجالة ، ( مقالة ) ، ص 5 – 6 .

[16] المرجع السابق ، ص 6 .

[17] محمد فتحي صبري : الحسن بن الهيثم رائد البحث العلمي ، ص 38 – 39 .

[18] المرجع السابق ، ص 39 .

[19]  د . وسمية عبد الله الحوطي : مدخل إلى علم الأحياء والطبيعة ، الكويت ، جامعة الكويت ، الطبعة الأولى ، 2002م ، ص 35 .

[20] د . حسن الشرقاوي : المسلمون علماء وحكماء ، الإسكندرية ، دار المعرفة الجامعية ، ص 105 – 107 .

[21] قدري طوقان : الخالدون العرب ، بيروت ، دار العلم للملايين ، 1954م ، ص 9 – 10 .

[22] د . وسمية عبد الله الحوطي : مدخل إلى علم الأحياء والطبيعة ، ص 36 .

[23] المرجع السابق ، ص 36 .