فضيلة الأستاذ الدكتور عبد الفتاح بركة
يناير 9, 202348/ سنةً
يناير 9, 2023( الحلقة الثانية الأخيرة )
رجال من التاريخ :
الحسنُ بن الهَيثم – رائدُ البحثِ العلمي
( الحلقة الثانية الأخيرة )
الدكتور محمد أنظر الندوي *
دور ابن الهيثم في البحث العلمي :
إن ابن الهيثم كان متسماً بالفضول ، وبهذا استطاع إماطة اللثام عن كثير من أسرار الطبيعة ومعرفة أسبابها وطرق معالجتها ، وكان يعشق العلم مخلصاً له ، وكان لا يجعله وسيلةً لكسب المال والثروة . وكان يقصد من منهجه العلمي إحقاق الحق وإبطال الباطل ، وكان منعزلاً عن العقائد الموروثة والميول والتقاليد [1] .
وتتضح لنا من التجارب والأفكار التي وردت في كتابه ” المناظر ” ، ومن المنهج الذي كان يسير عليه في بحوثه ، ومن غرضه في جميع ما يستقر به ويتصفحه ، استعمال العدل لا اتباع الهوى ، وإنه يتحرَّى في سائر ما يميزه ، طلب الحق لا الميل مع الآراء [2] .
إلا أنه كان يربط آراءه العلمية بعقيدته الإسلامية الثابتة المتينة ، فالربط بين العلم والإيمان هو هدف المنهج الإسلامي العظيم ، وقد انتصرت العقلية الإسلامية عندما التزمت بتطبيق هذا المنهج فكراً وعملاً وسلوكاً . فيقول : ولعلنا ننتهي بهذا الطريق إلى الحق الذي يثلج الصدر ، ونصل بالتدريج والتلطف إلى الغاية التي عندها يقع اليقين ، ونضعه مع النقد والتحفظ بالحقيقة التي يزول معها الخلاف ، ويحسم بها موارد الشبهات ” [3] .
ومن ثم نرى ابن الهيثم قد رسم الروح العلمية الصحيحة ، وبيّن أن الأسلوب العلمي ، هو في الواقع مدرسة للخُلق العالي ، فقواعده التجرد عن الهوى ، والإنصاف بين الآراء ، وبهذا يكون قد سبق علماء هذا العصر ، في كونه لمس المعاني وراء البحث العلمي [4] .
وإنه لم يقم في كل مؤلفاته بأي عملية من عمليات السطو على بحث عالم أو اكتشافه ، ولم يتعرض لواحد منهم بالتجريح ، فقد كان يعتبرهم الرواد الأوائل والأساتذة الذين تعلم على أيديهم ، وهذا هو الوفاء لمن سبق من العلماء .
يقوم المنهج العلمي الحقيقي على دعائم الفحص والتصحيح ، ويرفض الاعتناق بالمسلمات ، التي لا تقبل الجدل أو الدراسة ، والتحقق من ثبوتها . . . . وفي ضوء الدراسة نتوصل إلى أن ابن الهيثم لم يقم إلا بهذا الفعل في عمل البحث .
يرتكز منهج ابن الهيثم العلمي في البحث والتنقيب بقوة إلى الأصول الجذرية للحقائق العلمية ، ويبتعد كل الابتعاد عن النزوات والأهواء والتلوين الذاتي لحقائق الحياة . أطلق ابن الهيثم صرخةً في مجال البحث العلمي ، وهي صرخة ” لا ذاتية في العلم ” ، وكان يؤمن بأنه ليس في وسعنا أن نخضع حقائق الوجود وحقائق القوانين العلمية لأي مستوى من مستويات الانفعال الشخصي أو الاتجاه الذاتي . . . إن الحقيقة أكبر من عملية الاحتيال عليها [5] .
” ونحن لسنا براء مما هو في طبيعة الإنسان من كدر البشرية ” هذه الجملة وثيقة علمية وفلسفية وتاريخية أعطاناها ابن الهيثم في ميدان البحث العلمي . وهذه كلمات تلخص نفسية ابن الهيثم وما ينطوي عليها من الموضوعية والتواضع . وهو يعترف أن شوائب الذاتية وعكرها هي توجد في النفوس الإنسانية ، وأن العقل البشري ليس في إمكانه اللاتخطي .
منهج ابن الهيثم في البحث العلمي :
بالرغم من أن ابن الهيثم كان لا يغادر المكتبة ليذهب داره قبل أن تغيب الشمس ، إلا أنه ما يكاد يدخل داره ، حتى يدخلها وكأنه قد قدم لتوه من أحد المنتزهات ، وقد جدَّد نشاطه ، ليقوم بنشاط آخر . . . نشاط لم يقم أحد من العلماء به من قبل . . . وهو كيفية اتباع الطريقة العلمية في البحث العلمي [6] .
فلقد وجد ابن الهيثم أن الحس والعقل هما الطريقان اللذان يوصلان إلى الحقيقة ، وليس بالعقل وحده . . . . ولا بالحس وحده . . . فالطريقة تبدأ بمشاهدة الباحث للأمور الطبيعية على ما هي عليه في الواقع ، ثم يلي ذلك جمع الحقائق التي شاهدها الباحث ، ثم لتبويبها ليبحث : هل توجد علاقة بين تلك الحقائق ؟ . . . وهذه العلاقة بين تلك الحقائق يطلق عليها قانون أو نظرية علمية .
وإذا توصل الباحث إلى هذا القانون العلمي أو النظرية العلمية يقوم بالبحث عن صحة هذه النتايج التي توصل إليها ومطابقتها للواقع بالمشاهدة أو التجربة . . . فإذا تحققت تلك النتائج على هذه الصفة ، كان ذلك دليلاً على صحة تلك العلاقة . وإذا تبين قصورها بعدم اتفاقها مع الواقع ، بالرغم من محاولة تعديلها ، فتطرح هذه العلاقة جانباً لأنها لا تتفق مع الواقع . . . وهذه الطريقة التي اتبعها الحسن بن الهيثم هي أسلوب البحث العلمي في وقتنا الحالي [7] .
يعدّ ابن الهيثم مؤسساً رئيساً للمنهج العلمي قبل الأوربيين بقرون . على أنه سار على خطى جابر بن حيان الذي اهتم بالتجربة ، وسماها ” الدربة ” [8] .
وقد لخص الدكتور عمر فروخ منهج ابن الهيثم في كتابه ” تاريخ العلوم عند العرب ” بالنقاط التالية : ” اتبع ابن الهيثم في بحوثه كلها – وخصوصاً ما كان منها في الضوء – منهاجاً علمياً بناه على الاستقراء ( استخراج القاعدة العامة من مفردات الوقائع ) في الأكثر ، وعلى الاستنباط ( تفريع الأحوال المفردة من القاعدة العامة ) أحياناً . وهو في ذلك كله يلجأ إلى القياس ( الموازنة بين الوقائع المختلفة والمقارنة بين النتائج ) . وكان سبيله إلى ذلك المشاهدة ( النظر في الأمور الجارية في بيئتها المخصوصة ) والملاحظة ( التفطّن لما يتفق وما يختلف من هذه الأمور ) ، ثم كان يقوم بتجاربه على هذه الأسس كلها مرةً بعد مرة ” [9] .
عمر فروخ يضيف قائلاً : ” وقد بالغ ابن الهيثم في اعتماد التجارب حتى إنه أعاد إجراء التجارب على عدد من الأمور التي كان الأقدمون ( اليونان ) قد جرّبوها واستخرجوا قواعدها . انتهج ابن الهيثم هذه الخطة العلمية حيث إنه كان عالماً رياضياً وفيلسوفاً نظرياً ، وكان يحيط بالعلوم الطبيعية ، فالرياضيات مكنته من تنظيم بحوثه ، والفلسفة ساعدته على حُسن تخيّل الأمور . ثم إن إعجابه بمنطق أرسطو وتفهّمه الدقيق لأقسام ذلك المنطق زاده مهارةً في التنظيم عند تتبع البحث وإجراء التجارب . ثم إنه كان حَسَنَ التبويب في تدوين النتائج التي وصل إليها . . . وكذلك سكَّ ابن الهيثم ألفاظاً وأسماء أصبحت مصطلحات فنية في علم الضوء ( البصريات ) وخصوصاً فيما يتعلق بتشريح العين . ولا يمكن البحث في علم أو فن ما لم تتحددْ ألفاظه وتتعينْ مصطلحاته ، وحينئذ فقط يصبح البحث فيه ممكناً ومُجْدِياً ” [10] .
” هذه الخطة التي سار عليها ابن الهيثم في معالجة علم الضوء خاصة هي التي سمَّاها الباحثون فيما بعد بالأسلوب العلمي . والأسلوب العلمي هذا هو الذي أدى إلى النتائج الرائعة التي وصل إليها العقل الإنساني في كل ميدان من ميادين العلم وفي كل منحى من مناحي الحياة . وإن كثيراً مما يُنسب إلى روجر بايكون خاصةً [11] – من أنه أبو الأسلوب العلمي والمُبتكر لعدد من الحقائق في علم الضوء – قد أخذه روجر بايكون عن ابن الهيثم ثم نقله إلى الغرْب الأوروبي ، كما قال نفر من علماء الغرْب أنفسهم ” [12] .
كتب الأستاذ محمد فتحي صبري ” . . . . وأما ما نشاهده اليوم من تقدم في كافة مجالات حياتنا والذي يرجع إلى أسلوب البحث العلمي الذي أرسى مفهومه الفيلسوف جورج بيكون . . فهو في الحقيقة الأسلوب الذي أخذه جورج بيكون نفسه من فكر الحسن بن الهيثم . . أسلوب البحث التجريبي ” [13] .
خلاصة القول :
لا مراء في القول أن الإنجازات التي حاز عليها الفيلسوف الفيزيائي الحسن بن الهيثم ، تكفي لكي تضعه في قائمة العلماء العظماء الذين أعطوا البشرية حصاد عقلهم ، وبسببه دخلوا التاريخ من أوسع بواباته وأطلوا على الإنسانية من أكبر نوافذها . إن أعظم خدمة أسداها ابن الهيثم للعلم ، هو إبداع الأسلوب العلمي ، والنتايج البديعة التي أسفرت عنها تجاربه وتطبيقاته . وثق ابن الهيثم أن الغرض من البحث طلب الحقيقة لا الميل إلى الآراء واتباع الهوى . ربط ابن الهيثم بين العلم والإيمان حيث إنه ربط عقائده الإسلامية بآرائه العلمية . قد سبق ابن الهيثم ، بيكون في الاعتناق بالطريقة العلمية والاتخاذ بأسبابها ووسائلها ، بل كان ابن الهيثم أوسع منه أفقاً وأعمق تفكيراً . أغذى ابن الهيثم من خلال بحوثه وكشوفه ، اللغة العربية في المفردات والمصطلحات العربية التي هي متداولة بين العلماء .
لقد عرف المتقدمون نبوغ ابن الهيثم في العلم ، وعرف الأقدمون دوره البارز في البحث العلمي ، فلذا أكثر الغربيون وبخاصة منذ القرن الثالث عشر الميلادي ، في نقل كتبه في موضوع الفلك والفيزياء ، فكانت هي التي أثرت في اتجاه العلم في أوربا ، وسلك الأوربيون نحو وجهتهم المستقيمة في البحث العلمي . والحمد لله أولاً وآخراً .
* أستاذ مشارك ، قسم الدراسات العربية ، جامعة اللغة الإنجليزية واللغات الأجنبية ، حيدرآباد – 500007 anzar@efluniversity.ac.in
[1] الموسوعة العلمية ، المجلد السابع ، ص 1168 .
[2] مروان القدومي : دور ابن الهيثم في البحث العلمي ، ( مقالة ) ، ص 9 .
[3] د . حسن الشرقاوي : المسلمون علماء وحكماء ، ص 202 .
[4] قدري طوقان : تراث العرب العلمي ، بيروت ، دار الشرق ، ص 299 .
[5] د . عز الدين إسماعيل وآخرون : الحسن بن الهيثم ، بيروت ، دار العودة ، الطبعة الأولى ، 1974م ، ص 40 .
[6] محمد فتحي صبري : الحسن بن الهيثم رائد البحث العلمي ، ص 9 .
[7] المرجع السابق ، ص 10 – 9 .
[8] أ . د . عبد المجيد نصير : الحسن بن الهيثم في عجالة ، ( مقالة ) ، ص 5 .
[9] عمر فروخ : تاريخ العلوم عند العرب ، ص 368 .
[10] المرجع السابق ، ص 369 .
[11] Roger Bacon ( ت 1292م – 693هـ ) فيلسوف وعالم إنكليزي . وأساس شهرته أن كان من الدعاة إلى العلم التجريبي ، مع أنه لم يكن أبرع في العلم التجريبي وفي إجراء التجارب العلمية منه في الرياضيات . ( عمر فروخ : تاريخ العلوم عند العرب ، الهامش ، ص 370 .
[12] راجع مثلاً ( نقلاً عن عمر فروخ : تاريخ العلوم عند العرب ، ص 370 .
[13] محمد فتحي صبري : الحسن بن الهيثم رائد البحث العلمي ، ص 39 .