مساهمات شمس الحق في مجال علم الحديث
ديسمبر 11, 2019رحمة للعالمين : مؤلف هام حول سيرة نبي الإسلام
ديسمبر 11, 2019الحركة العلمية الإسلامية بين الصحابة وأشهر علمائها
( الحلقة الثانية )
د . محمود عالم الصديقي *
شخصية عبد الله بن عباس رضي الله عنه العلمية :
والعلم الثالث الذي نحن بصدد ترجمته العلمية ، وهو عبد الله بن عباس رضي الله عنه . وكان واسع الاطلاع في نواح مختلفة ، يعرف الشعر والأنساب ، وكان يتضلع من العلوم القرآنية من التفسير والسنة والفقه والتأويل . وكان حريصاً كل الحرص على إتقان العلوم القرآنية ، حتى إنه سكب وضوء النبي عند خالته ميمونة ” . فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم ، قال من وضع هذا ، فقال ابن عباس ، فقال : ” اللهم فقهه في الدين ، وعلمه التأويل ” . فاستجاب الله دعوة رسوله صلى الله عليه وسلم له حتى إنه صار عالماً زخاراً ، لم يكن له نظير في ترجمة القرآن وتفسيره حتى اشتهر بترجمان القرآن . فقال ابن المسيب : ” ابن عباس أعلم الناس ” . وقال : ” كان ابن عباس رضي الله عنه يسمى البحر من كثرة علمه ” . وقال ابن طاؤوس عن أبيه : ” كان ابن عباس من العلماء الراسخين في العلم ” . وقال طلحة بن عبد الله : ” لقد أُعطِي ابن عباس فهماً ولقناً وعلماً ، ما كنت أرى عمر بن الخطاب يقدم عليه ” . ويقال إن ابن عمر يتهمه بالجرأة على تفسير القرآن في بداية الأمر ، ولكن رجع عن قوله فيما بعد . ويقول عبد الله ابن دينار بهذه المناسبة : ” إن رجلاً سأل ابن عمر عن قوله تعالى : ” كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا ” ، فقال : إذهب إلى ذلك الشيخ ، فَسله ، ثم تعالِ ، فأخبرني ، فذهب إلى ابن عباس ، فسأله ، فقال : كانت السماوات رتقاء لا تمطر والأرض رتقاء لا تنبت ، ففتق هذه بالمطر ، وهذه بالنبات ، فرجع الرجل ، فأخبر ابن عمر ، فقال : لقد أوتي ابن عباس علماً صدقاً هكذا . لقد كنت أقول ما يعجبني جرأة ابن عباس على تفسير القرآن . فالآن قد علمت أنه أوتي علماً ” [1] .
واجتهد ابن عباس في تعرف ما كان عند الصحابة من حديث وعلم ، وابتلي في سبيل ذلك إبتلاءً كبيراً ، ولقي ما لقيه من مصايب بابتسامة وانفتاح قلب . وكما هو يقول : ” لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلت لرجل من الأنصار : هلمَّ ، فلنسأل أصحاب رسول الله ، فإنهم اليوم كثير . قال ، فقال الأنصار : وا عجبا لك يا ابن عباس ! أترى الناس يفتقرون إليك ، وفي الناس من أصحاب رسول الله ، من فيهم ؟ قال : فتركت ذلك ، وأقبلت أسأل أصحاب رسول الله عن الحديث . فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل ، فآتي بابه ، وهو قائل ، فأتوسد ردائي على بابه ، تسفي الريح علي التراب ، فيخرج ، فيراني ، فيقول لي : يا ابن عم رسول الله ! ما جاء بك ؟ ألا أرسلت إلي فآتيك ؟ فأقول : لا ! أنا أحق أن آتيك ! فأسأله في الحديث ، فعاش ذلك الرجل الأنصاري حتى رآني ، وقد اجتمع الناس حولي ليسألني ، فيقول : هذا الفتى كان أعقل مني ” [2] .
وكان عبد الله ابن عباس فقيهاً جليلاً . ويقول طاؤوس : لزمت هذا الغلام : يعني ابن عباس ، وتركت الأكابر من أصحاب رسول الله ، إذا تدارؤوا في شيئ ، صاروا إلى قول ابن عباس ” . وكذلك كان من فقهاء أصحاب رسول الله في حياته وبعد وفاته . ويقول بمناسبة ذلك عطاء ابن يسار : إن ابن عمر وعثمان كانا يدعوان ابن عباس ، فيشير مع أهل البدر ، وكان يفتي في عهد عمر وعثمان حتى مات بالطائف سنة ثمان وسبعين [3] . وكان أسلوبه في الفتوى أسلوباً يجمع بين النقل والعقل ، كما يقول عبد الله ابن يزيد : ” كان ابن عباس إذا سُئِل عن الأمر ، فإن كان في القرآن أخبر به ، وإن لم يكن في القرآن ، وكان عن رسول الله ، أخبر به ، فإن لم يكن في القرآن ولا عن رسول الله ، وكان عن أبي بكر وعمر أخبر به ، فإن لم يكن في شيئ من ذلك ، اجتهد رأيه ” [4] .
وكذلك كان ابن عباس واسع الاطلاع ، فكان يعرف الشعر والأنساب وأيام العرب والمغازي . وهو يعلم الناس جميع هذه العلوم . فاستفاد من بعض الصحابة ، واستفاد البعض منه . ويقول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة : ” كان ابن عباس قد فات الناس بخصال : بعلم ما سبقه ، وفقه فيما احتيج إليه من رأيه ، وحلم وسَيب ونائل . وما رأيت أحداً كان أعلم بما سبقه من حديث رسول الله منه ، ولا أعلم بقضاء أبي بكر وعمر وعثمان منه ، ولا أفقه في رأي منه ، ولا أعلم بشعر ولا عربية ولا بتفسير القرآن ولا بحساب ولا بفريضة منه ، ولا أعلم بما مضى ولا أثقف رأياً فيما احتيج إليه منه . و لقد كان يجلس يوماً ما يذكر فيه إلا الفقه ، ويوماً التأويل ، ويوماً المغازي ، ويوماً الشعر ، ويوماً أيام العرب . وما رأيت عالماً قط جلس إليه إلا خضع له . وما رأيت سائلاً سأله وجد عنده ” [5] . فاستفاد من منهله العلمي خلق كبير . وأشهر منهم مجاهد بن جبر الذي أكثر من رواية عنه في تفسيرالقرآن ، وعكرمة مولاه وحامل علمه .
فكانت أكثر حياته حياة علمية ، وقد عُمِّر طويلاً ، وقد مات سنة 78 من الهجرة عن نحو ثمان وسبعين عاماً . وخلال هذه المدة الطويلة لم يشتغل بالإمارة إلا قليلاً ، فاستعمله علي بن أبي طالب على البصرة ، فلم يزل حتى قتل علي . فاستخلف عبد الله بن الحارث على البصرة . ثم مضى ابن عباس إلى الحجاز حيث يقضي حياته الباقية منكباً على التعلم والتعليم . فيروي عن النبي صلى الله عليه وسلم والناس عنه ، والناس يستفتونه فيفتيهم . هكذا كانت شخصيته العلمية شخصيةً متنوعة العطاء في العلم والمعرفة .
شخصية علي بن أبي طالب رضي الله عنه العلمية :
والعلم الرابع الذي نحن بصدد ترجمته العلمية هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وهو أول الناس إسلاماً في قول كثير من أهل العلم . ولد قبل البعثة بعشر سنين على الصحيح . وتربى في حجر النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يفارقه . وشهد معه المشاهد كلها إلا غزوة تبوك ، وقد خلفه رسول الله ، فقال له علي يا رسول الله تخلفني مع النساء والصبيان . فقال النبي له : ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى . وزوجه بنته فاطمة . وكان اللواء بيده في أكثر المشاهد . ولما آخى النبي بين أصحابه ، قال له : أنت أخي . ومناقبه كثيرة . حتى قال الإمام أحمد : لم ينقل لأحد من الصحابة ما نقل لعلي بن أبي طالب . وكذلك نقل ضده كثير من المناقضات ، وسبب ذلك بغض بني أمية له ، وإفراط الرافضة في الحب له . فقد ولَّد له الرافضة مناقب موضوعةً ، وهو غني عنها . وتتبع النسائي ما خص به من دون الصحابة ، فجمع من ذلك شيئاً كثيراً بأسانيد أكثرها جياد .
وأما شخصية علي بن أبي طالب العلمية – على حسب قول أحمد أمين – فهي شخصية أصعب ما يكون تصويراً ، دخلها من المبالغات والأكاذيب التي حيّرت المؤرخ . فليس هناك من الشخصيات في ذلك العصر ما دار حوله الجدل ، وأفرط فيه المحبون والكارهون ، واختلق حوله المختلقون . وتأسست من أجله المذاهب الدينية كالذي كان لشخصية علي ، فقد رووا عنه 686 حديثاً مسنداً إلى رسول الله لم يصح منها إلا نحو خمسين ، ونسبوا إليه ديوان شعر ، ويقول المازني إنه لم يصح بشيئ من الشعر غير بيتين :
تلكم قريش تمناني لتقتلني فلا وربك ما برّوا ولا ظفروا
فإن هلكت فرهن ذمتي لهم بذات ودقــين لا يــعفو لها أثر
ونسبوا إليه ما في نهج البلاغة ، وهو يشتمل على كثير من الخطب والأدعية والكتب والمواعظ والحكم . وقد شك في مجموعها النقاد قديماً وحديثاً كالصفدي وهوار ، واستوجب هذا الشك أمور : ما في بعضه من سجع منمق وصناعة لفظية ، لا تعرف لذلك العصر . هذا إلى ما فيه من معان دقيقة على أسلوب لم يعرف إلا في العصر العباسي . كما نسبوا إليه كتاباً في الجفر تذكر فيه الحوادث التي تحدث إلى انقراض العالم ، وحكايته مع أبي الأسود الدؤلي في وضع النحو معروفة ومشهورة ، كل هذا ما يجعل من العسير على المؤرخ الناقد وصف شخصيته العلمية وصفاً يطمئن إليه [6] .
على كل حال إذا نحن رجعنا إلى كتب السير الموثوق بها كطبقات ابن سعد ، نرى أنه كان كذلك ذا عقل قضائي . وقد ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاء اليمن . وله آراء تثبت صحتها في مشاكل قضائية عديدة . كما يقول بنفسه : ” بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قاضياً ، فقلت يا رسول الله : إنك ترسلني إلى قوم يسألني ولا علم لي بالقضاء . فوضع يده على صدري . وقال : إن الله سيهديك قلبك ويثبت لسانك ، فإذا قعد الخصمان بين يديك ، فلا تقض حتى تسمع من الآخر كما سمعت الأول ، فإنه أحرى أن تبين لك القضاء . فما زلت قاضياً أو ما شككت في قضاء بعد [7] . ويقول عبد الله : ” كنا نتحدث أن من أقضى ابن أبي طالب ” . فإنه يمتاز بعقل كبير ذي قضائي ، حتى قال سعيد ابن المسيب : ” كان عمر يتعوذ من معضلة ليس فيها أبو حسن ” .
كذلك أنه كان أعلم بالقرآن ومعانيه وتفسيره ، حتى قال علي ابن أبي طالب بنفسه : والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيما نزلت ، وأين نزلت ، وعلى من نزلت . إن ربي وهب لي قلباً عقولاً ولساناً طلقاً ” . وفي الحقيقة إنه كان أستاذ عبد الله بن عباس في علم التفسير ، فأخذ عنه كثيراً من الأقوال . وقام بعض من العلماء بالمقارنة بينهما ، فقالوا إن ابن عباس كان أعلمهما بالقرآن ، وكان علي أعلمهما بالمبهمات ” ، وقال ابن عباس : إذا جاءنا الثبت عن علي لم نعدل به ” [8] .
ولم يزل علي في حياة النبي وبعده متصدياً لنصر العلم والفتيا حتى في مدة خلافته التي تقدر بنحو خمس سنين إلا ثلاثة أشهرونصف شهر . وقتل علي سنة 40 للهجرة . واستفاد من علمه خلق كبير ، وروى عنه كثير من الصحابة والتابعين وأشهرهم من الصحابة : ابن عباس ، وابن مسعود ، وأبو موسى الأشعري ، وابن عمرو ، ومن التابعين طارق بن شهاب ، وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام ، وعبد الله بن الحرث بن نوفل وغيرهم . هكذا كانت شخصية علي ابن أبي طالب العلمية شخصية ذات مطر غزير .
شخصية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه العلمية :
والعلم الخامس الذي نحن نتحدث عن ترجمته العلمية هو عبد الله ابن مسعود . وهو من أصحاب النبي الذين لهم اليد الطولى في علم القرآن والسنة والفقه . وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : إنك غلام معلم ” . وقال عنه عمر بن الخطاب : ” كُنيف ملئ علماً ” . وجاء في طبقات لابن سعد ، لما قدم علي بن أبي طالب الكوفة ، أتاه نفر من أصحاب عبد الله ابن مسعود ، فسألهم عنه حتى رأوا أنه يمتحنهم ، قال ، فأنا أقول فيه مثل الذي قالوا أو أفضل . قرأ القرآن ، فأحل حلاله ، وحرم حرامه ، فقيه في الدين عالم بالسنة ” [9] .
إن عبد الله بن مسعود كان من الذين أسلموا في الأوائل ، حتى قال أبو نعيم : أنه كان سادس ستة من أسلم ، وهاجر الهجرتين : إلى الحبشة والمدينة . وشهد بدراً وأحداً والخندق والمشاهد كلها مع النبي صلى الله عليه وسلم . ولازم صحبته في جلوته وخلوته ، حتى قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” إذنك عليّ أن ترفع الحجاب ، وأن تسمع سوادي حتى أنهاك ” . فإنه ، كما يقول القاسم بن عبد الرحمن : ” كان يلبس رسول الله نعليه ، ثم يمشي أمامه بالعصا حتى إذا أتى مجلسه ، نزع نعليه ، فأدخلهما في ذراعيه ، وأعطاه العصا . فإذا أراد رسول الله أن يقوم ألبسه نعليه ، ثم مشى أمامه بالعصا حتى يدخل الحجرة قبل رسول الله ” [10] . فسمح له رسول الله أن يدخل في بيته حين لم يسمح لغيره . فسمع من رسول الله ما سمعه من القرآن والحديث ورأى ما رآه من أفعال النبي وقضائه ، مما مكنه من فهم تعاليم الإسلام ومعاني القرآن وأعمال رسول الله حتى بزغت شمسه في علم القرآن والحديث والفقة ، وصار من كبار علماء الصحابة . وقال فيه أبو موسى الأشعري : ” لا تسألوني عن شيئ ، وهذا الحبر بين أظهركم ” [11] .
والعلم الذي يمتاز به عبد الله ابن مسعود هو علم القرآن وقراءته : كما يقول ابن عيال : قال : أي القراءتين تعدون أولى . قال : قلنا : قراءة عبد الله ابن مسعود ، فقال : إن رسول الله كان يعرض عليه القرآن في كل رمضان مرةً إلا العام الذي قبض فيه ، فإنه عرض عليه مرتين . فحضرها عبد الله ابن مسعود ، فشهد ما نسخ منه وما بدّل ” . كذلك أنه كان متضلعاً من تفسير القرآن ومعانيه . فيقول بنفسه : ” ما نزلت سورة إلا أعلم فيما نزلت ، ولو أعلم أن أحداً أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل أو المطايا لأتيته ” [12] .
وكذلك كان جامع الحديث وحافظه ، فإنه يكثر من رواية الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم غير أنه يتحرى ألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم كتحرى ابن عمر ، تخوفاً من الله وتورعاً في الدين ، وأنه يتجنب من الإضافة والحذف في الحديث أو من النسبة إليه ما ليس منه . كما يقول علقمة وهو خير تلاميذه وحامل علمه في الكوفة ومن طبقة التابعين : إن عبد الله مسعود كان يقوم قائماً كل عشية خمس ، فما سمعته يقول رسول الله غير مرة واحدة ، قال : فنظرت إليه وهو معتمد على عصا فنظرت إلى العصا تزعزع ” [13] . ولكنه كان فقيهاً بارعاً ، يفتي الناس استنباطاً من القرآن والحديث أو بالرأي إذا لم يرد فيه نص من الكتاب والسنة . فهذه الميزة العلمية تميزه عن ابن عمر وعن مدرسته .
بعثه عمر إلى أهل الكوفة ليعلُّمهم الكتاب ويفقههم في الدين وكتب إليهم : إني بعثت إليكم عمار بن ياسر أميراً وعبد الله ابن مسعود معلماً ووزيراً . وإنهما من النجباء من أصحاب رسول الله ومن أصحاب بدر . وقد جعلت عبد الله بن مسعود على بيت مالكم . فتعلموا منهما ، واقتدوا بهما وقد آثرتكم بعبد الله بن مسعود على نفسي [14] . فتكونت حوله مدرسة الكوفة ، ولزمه تلاميذ له ، يتعلمون منه العلم ويتأدبون بأدبه حتى قال فيهم علي بن أبي طالب : أصحاب عبد الله سرج هذه القرية يعني الكوفة . فاستفاد من منهله العلمي خلق كبير حتى اشتهر منهم ستون شيخاً وتربع من بين هؤلاء الستين ستة على عرش القضاء والفتوى بعد ابن مسعود . كما يقول إبراهيم التيمي : كان فينا ستون شيخاً من أصحاب عبد الله . وكان أصحاب عبد الله الذين يقرؤون ويفتون ستة – وهم – علقمة والأسود ومسروق وعبيدة والحارث ابن قيس وعمرو بن شرحبيل [15] . على الجملة إنه كان أعلم بالقرآن وبعلومه وبمعانيه وأثقف الرأي وأفقه في الفقه حتى قال عنه عمر بن الخطاب : ” كُنيف ملئ علماً أو فقهاً ” . هكذا كانت شخصيته العلمية شخصيةً متنوعة العطاء .
شخصية زيد بن ثابت رضي الله عنه العلمية :
العلم السادس الذي نحن نذكر ترجمته العلمية هو زيد بن ثابت . وكان أعلم بالقرآن وبعلومه من التفسير والقراءة وبالفرائض والقضاء . وكان من كتَّاب الوحي والعلماء الراسخين . وكان واسع العلم والاطلاع ، تعلم السريانية والعبرية . وكان ذا عقل رياضي ، فكان أعلم بالفرائض . ولاه رسول الله قسمة الغنائم في اليرموك . وكانت له رياسة في القضاء والفتوى بالمدينة . وكان واحداً من الأربعة الذين جمعوا القرآن في عهد رسول الله . وكذلك كان من الذين أمرهم أبو بكر في خلافته بجمع القرآن . وقال النبي فيه : أفرض أمتي زيد بن ثابت ” . وقال عمر بالجابية : ” من كان يريد أن يسأل عن الفرائض ، فليأت زيد بن ثابت ” . وقال سليمان بن يسار ، وهو من التابعين الكبار : ” ما كان عمر وعثمان يقدمان على زيد بن ثابت أحداً في القضاء والفرائض والقراءة ” [16] .
أسلم زيد بن ثابت قبل البدر ، ولكن كان صغيراً ، لم يمنحه رسول الله الإجازة في البدر ولا أحد ، وقد أذن له أول مرة في الخندق . ولكن بالرغم من ذلك إنه أدى خدمات جليلةً للإسلام . فاتخذه رسول الله كاتباً لكتابة الوحي والرسائل التي يرسلها إلى الأمراء . وأمره بتعلم اللغة السريانية واللغة العبرية . فتعلمهما بسرعة حتى تحذق فيهما . كما يقول بنفسه : ” أتى النبي مقدمه المدينة ، فقيل هذا من بني النجار ، وقد قرأ سبع عشرة سورة . فقرأت عليه ، فأعجبه ذلك . فقال تعلم كتاب يهود . فإني ما آمنهم علي كتابي . ففعلت فما مضى لي نصف شهر حتى حذقته . فكنت أكتب له إليهم ، وإذا كتبوا إليه قرأت له ” . وجاء في رواية من طريق ثابت بن عبيد عن زيد بن ثابت قال : قال لي النبي : إني أكتب إلى قوم ، وقد أخاف أن يزيدوا عليّ أو ينقصوا ، فتعلم السريانية . فتعلمتها في سبعة عشر يوماً ” [17] .
وكذلك إنه يمتاز بالقدرة الفائقة على استخراج الأحكام من الكتاب والسنة ومن الرأي ، إذا لم يكن كتاب ولا سنة . هذا هو السبب الذي حمل عمر بن الخطاب أن يستعمله على القضاء ويفرض له رزقاً ، وأن يمسكه في المدينة وأن يستخلفه في كل سفر يسافره . ويقول عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه : ” كان عمر يستخلف زيد بن ثابت في كل سفر يسافره ، وكان يفرق الناس البلدان ، ويوجهه في الأمور المهمة ، ويطلب إليه الرجال المَسمّون – النابهون – فيقال له زيد بن ثابت ، فيقول : لم يسقط عليّ مكان زيد ، ولكن أهل البلد يحتاجون إليه فيما يحدث لهم ما لا يجدون غيره ” [18] . وقال قبيصة : ” كان زيد بن ثابت مترئساً بالمدينة في القضاء والفتوى والقراءة والفرائض في عهد عمر وعثمان وعلي في مقامه بالمدينة . وبعد ذلك خمس سنين ، حتى ولّى معاوية سنة أربعين . فكان كذلك أيضاً حتى توفي زيد سنة خمس وأربعين ” .
على الجملة فإن زيد بن ثابت كان أعلم بالقرآن والقراءة والفرائض والقضاء ، وأثقف في الرأي وأفقه بالفتوى . فاستفاد من علمه خلق كبير . وأشهر منهم سعيد بن المسيب ، وهو خير تلاميذه يحفظ قضاياه وفتاويه ولا يفضل قولاً على أقواله . وهو يقول عن أستاذه : ” إن زيد بن ثابت أعلم الناس بما تقدمه من قضاء ، وأبصرهم بما يردعليه مما لم يسمع فيه شيئ . ثم يقول : لا أعلم لزيد بن ثابت قولاً لا يعمل به ، مُجمَعٌ عليه في الشرق والغرب ، أو يعمل به أهل مصر ” . هكذا كانت شخصيته العلمية متنوعة العطاء وافرة الفائدة ، ساهمت على نضج مدرسة المدينة ونموها حتى توجت بمالك بن أنس إمام دار الهجرة .
( للبحث صلة )
* الأستاذ المساعد : قسم اللغة العربية وآدابها ، جامعة كشمير ، حضرت بل ، سرينغر ، كشمير ، الهند .
[1] الإصابة في تمييز الصحابة ، ابن حجر ، مكتبة مصر ، ص : 446 ، ج : 2 .
[2] ابن سعد ، الطبقات الكبرى ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، لبنان ، عام 1985م ، ص : 368 ، ج : 2 .
[3] نفس المصدر ، ص : 367 ، ج : 2 .
[4] ابن سعد ، الطبقات الكبرى ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، لبنان ، عام 1985م ، ص : 366 ، ج : 2 .
[5] ابن سعد ، الطبقات الكبرى ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، لبنان ، عام 1985م ، ص : 368 ، ج : 2 .
[6] أحمد أمين ، فجر الإسلام ، دار الكتاب العربي ، بيروت ، لبنان ، ص : 149 .
[7] ابن سعد ، الطبقات الكبرى ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، لبنان ، عام 1985م ، ص : 337 ، ج : 3 .
[8] الإصابة في تمييز الصحابة ، ابن حجر ، مكتبة مصر ، ص : 367 ، ج : 3 .
[9] ابن سعد ، الطبقات الكبرى ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، لبنان ، عام 1985م ، ص : 156 ، ج : 3 .
[10] نفس المصدر ، ص : 152 ، ج : 3 .
[11] نفس المصدر ، ص : 343 ، ج : 2 .
[12] نفس المصدر ، ص : 342 ، ج : 2 .
[13] ابن سعد ، الطبقات الكبرى ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، لبنان ، عام 1985م ، ص : 156 ، ج : 3 .
[14] ابن سعد ، الطبقات الكبرى ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، لبنان ، عام 1985م ، ص : 8 ، ج : 6 .
[15] ابن سعد ، الطبقات الكبرى ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، لبنان ، عام 1985م ، ص : 10 ، ج : 6 .
[16] ابن سعد ، الطبقات الكبرى ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، لبنان ، عام 1985م ، ص : 361 ، ج : 2 .
[17] أحمد أمين ، فجر الإسلام ، دار الكتاب العربي ، بيروت ، لبنان ، ص : 142.
[18] ابن سعد ، الطبقات الكبرى ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، لبنان ، عام 1985م ، ص : 361 ، ج : 2 .