مفهوم الإعجاز التأثيري للقرآن الكريم
يناير 9, 2023العلم أساس الاستخلاف وسبيل السيادة
فبراير 7, 2023بين العلم الحديث والقرآن الكريم
( الحلقة الثانية الأخيرة )
الدعوة الإسلامية :
الجنين الإنساني وسفر تكوين الإنسان
بين العلم الحديث والقرآن الكريم
( الحلقة الثانية الأخيرة )
الباحث محمد سليم الله أبو الكلام *
حقائق القرآن والسنة العلمية :
لغوياً : تعني ” المضغة ” المادة التي لاكتها الأسنان ومضغتها ، وهي تعطي وصفاً دقيقاً لواقع هذه المرحلة الجنينية حيث يصبح شكل الجنين مثل المادة الممضوغة التي يتغير شكلها باستمرار ، وحيث تظهر فلقات الكتل البدنية ( Somites ) في الجنين واختلافها يشبه شكل ” طبع الأسنان ” على اللقمة ، كذلك يتقلب الجنين في جوف الرحم كتقلب القطعة الممضوغة في الفم .
يأتي طور المضغة بعد طور العلقة ، وهذا الترتيب يطابق ما ورد في الآية الكريمة : ( فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً ) [1] ، ومن صفات المضغة أنها تستطيل ويتغير شكلها عند مضغها ، وهذا ما يحصل تماماً للجنين في هذه المرحلة . وكما ذُكر فللمضغة طور باكر قبل تشكل الأعضاء ، وطور آخر بعد بدء تشكل الأعضاء كما قال البيان القرآني : ( . . . فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّمِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ . . . ) [2] ، إذاً هناك طوران للمضغة : المضغة غير المخلقة والمضغة المخلقة ، وينتهي هذا الطور بشقيه في الأسبوع السادس ( أي بعد 40 يوم ) ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً ثم يكون في ذلك علقةً مثل ذلك ثم يكون في ذلك مضغةً مثل ذلك ، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح . . . ” [3] .
ولفتة أخرى أيضاً ، وهي أن بعض الأعضاء تتخلق قبل غيرها ، فالعينان واللسان ( الأسبوع 4 ) تتخلق قبل الشفتين ( الأسبوع 5 ) ، والبيان القرآني يقدم العينين واللسان قبل الشفتين ( أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ . وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ ) [4] .
مرحلة العظام ( Bones Phase ) :
معلومات علمية حديثة :
خلال الأسبوع السادس يبدأ الهيكل العظمي الغضروفي في الانتشار في الجسم ، ولكن لا ترى في الجنين ملامح الصورة الآدمية حتى بداية الأسبوع السابع حيث يأخذ شكل الجنين شكل الهيكل العظمي . ويتم الانتقال من شكل المضغة إلى بداية شكل الهيكل العظمي في فترة زمنية وجيزة خلال نهاية الأسبوع السادس وبداية الأسبوع السابع ، ويتميز هذا الطور بظهور الهيكل العظمي الذي يعطي الجنين مظهره الآدمي .
حقائق علمية من القرآن والسنة :
قال تعالى : ( . . . فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا . . . ) [5] . وتكَوُّن العظام هو أبرز تكوين في هذا الطور حيث يتم الانتقال من شكل المضغة الذي لا ترى فيه ملامح الصورة الآدمية إلى بداية شكل الهيكل العظمي في فترة زمنية وجيزة لا تتجاوز أيام قليلة خلال نهاية الأسبوع السابع ( ولهذا استعمل حرف العطف : ف الذي يفيد التتابع السريع ) ، وهذا الهيكل العظمي هو الذي يعطي الجنين مظهره الآدمي بعد أن يكسى باللحم ( العضلات ) وتظهر العينان والشفتان والأنف وكون الرأس قد تمايز عن الجذع والأطراف ، وهذا مصداقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ” إذا مرّ بالنطفة اثنان وأربعون ليلة بعث إليها ملكاً فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها . . ” [6] .
بعد أن يمر على النطفة 42 ليلة ( 6 أسابيع ) يبدأ التصوير فيها لأخذ الشكل الآدمي بظهور الهيكل العظمي الغضروفي ، ثم تبدأ الأعضاء التناسلية الظاهرة بالظهور فيما بعد ( الأسبوع 10 ) وفي الأسبوع السابع تبدأ الصورة الآدمية في الوضوح نظراً لبداية انتشار الهيكل العظمي ، فيمثل هذا الأسبوع ( ما بين اليوم 40 و45 ) الحد الفاصل ما بين المضغة والشكل البشرى .
مرحلة الكساء باللحم ( العضلات ) ( Flesh or Muscle Phase ) :
معلومات علمية حديثة :
يتميّز هذا الطور بانتشار العضلات ( Muscles ) حول العظام وإحاطتها بها ، وبتمام كساء العظم باللحم تبدأ الصورة الآدمية بالاعتدال فترتبط أجزاء الجسم بعلاقات أكثر تناسقاً ، وبعد تمام تكوين العضلات يمكن للجنين أن يتحرك . وتبدأ مرحلة تكوين العضلات في نهاية الأسبوع السابع وتستمر طوال الأسبوع الثامن ، وتأتي عقب طور العظام مباشرةً وخلال فترة وجيزة .
حقائق قرآنية :
تأتي مرحلة كساء العظام باللحم عقب طور العظام كما بين ذلك القرآن الكريم : ( فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ) [7] فيتميز هذا الطور بانتشار العضلات حول العظام وإحاطتها بها كما يحيط الكساء بلابسه . وبتمام كساء العظام بالعضلات تبدأ الصورة الآدمية بالاعتدال ، فترتبط أجزاء الجسم بعلاقات أكثر تناسقاً ، وبعد تمام تكوين العضلات يمكن للجنين أن يبدأ بالتحرك .
ويعتبر هذا الطور الذي ينتهي بنهاية الأسبوع الثامن نهاية مرحلة التخلق ، كما اصطلح علماء الأجنة على اعتبار نهاية الأسبوع الثامن نهاية لمرحلة الجنين الحُمَيل ( Embryo ) ثم تأتي بعدها مرحلة الجنين بالخاصة ( Fetus ) التي توافق مرحلة النشأة ، كما جاء في قوله تعالى : ( فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ . . . ) [8] .
طور النشأة والقابلية للحياة ( Growth and Viability Phase ) :
معلومات علمية حديثة عن طور النشأة والقابلية للحياة :
بنهاية الأسبوع الثامن تبدأ مرحلة جديدة يحدث فيها عمليات هامة حيث يتسرّع معدل النمو مقارنةً بالسابق ، وكذلك يتحوّل الجنين لخلق آخر ، حيث تبدأ أحجام الرأس والجسم والأطراف في التوازن والاعتدال ما بين الأسبوع التاسع والثاني عشر . في الأسبوع 10 يبدأ ظهور الأعضاء التناسلية الخارجية ويتطور بناء الهيكل العظمي من عظام غضروفية لينة إلى عظام كلسية صلبة في الأسبوع الثاني عشر ، وتتمايز الأطراف والأصابع بنفس الأسبوع ، وكذلك يتحدد جنس الجنين بظهور الأعضاء التناسلية الخارجية بشكل أوضح . ويزداد وزن الجنين بصورة ملحوظة وتتطور العضلات الإرادية وغير الإرادية كما تبدأ الحركات الإرادية في هذه المرحلة . وفي هذا الطور أيضاً تصبح الأعضاء والأجهزة مهيأة للقيام بوظائفها ويتم تهيئة الجنين للحياة خارج الرحم في الأسبوع 22 وتنتهي في الأسبوع 26 ( أي بعد تمام الشهر السادس للحمل ) عندما يصبح الجهاز التنفسي مؤهلاً للقيام بوظائفه ويصبح الجهاز العصبي مؤهلاً لضبط حرارة جسم الجنين . وهنا لا تنشأ أجهزة أو أعضاء جديدة بعد أن أصبحت كلها مؤهلةً للعمل ويقوم الرحم بتوفير الغذاء والبيئة الملائمة لنمو الجنين حتى طور المخاض .
الحقائق العلمية من البيان القرآني :
يبدأ هذا الطور بعد مرحلة الكساء باللحم ، أي من بداية الأسبوع التاسع ، ويستغرق فترةً زمنيةً ( حوالي 3 أسابيع ) يدل عليها استعمال حرف العطف (ثم) الذي يدل على فاصل زمني بين الكساء باللحم والنشأة خلقاً آخر ، قال تعالى : ( فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَر ) [9] .
بعد تطور الهيكل العظمي الغضروفي وكسوته بالعضلات وتمايز الرأس والأطراف يتحول الجنين للخلق الإنساني الواضح المتميز عن غيره من المخلوقات .
ففي خلال هذه المرحلة تتم عدة عمليات هامة في نمو الجنين تندرج بجلاء تحت الوصفين : (1) النشأة : من المراحل و (2) خلقاً آخر .
وقول الله سبحانه : ( يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ) [10] يصدق قول علماء الأجنة بأن الجنين يكون محاطاً بثلاث أغشية هي : (1) الغشاء الأمنيوسي ( Amnion ) (2) غشاء الكوريون ( Chorion ) (3) غشاء ( Decidua ) ، ولكن بعض العلماء قالوا : (1) الغشاء الأمنيوسي (2) جدار الرحم (3) جدار البطن ، والله أعلم . وكما مرَّ أن الجنين يصبح مهيأً للحياة خارج الرحم بعد تمام الشهر السادس ، وهذا هو ما ذكر البيان القرآني : ( وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا ) [11] ، ( وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ) [12] ، وقبل الأسبوع الثاني والعشرين الذي يبدأ فيه هذا الطور يخرج الجنين سقطاً في معظم الأجنة .
نفخ الروح وحقيقتها ( The Soul and its Fact ) :
يقول الله تعالى : ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ . قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ) [13] . ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم : ويسألك الكفار بالله من أهل الكتاب عن الروح ما هي ؟ قل لهم : الروح من أمر ربي ، فالروح أمر مجهول لا نقول فيه إلا أنه من أمر ربي ، وما أوتي البشر من العلم إلا قليلاً . ولكن الله سبحانه وتعالى قد أخبرنا أنه كرم آدم بنفخ الروح فيه . وكذلك كرَّم نبيه آدم حيث جعل نسله من سلالة من ماء مهين . ( ثُمَّ سَوَّىٰهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ ) [14] . والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يوضح لنا متى ينفخ الروح في الجنين فيقول : ” إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً ثم يكون علقةً في ذلك مثل ذلك ثم يكون مضغةً في ذلك مثل ذلك ثم ينفخ فيه الروح ” [15] . ولا يرتكز العلم الحديث على مرحلة نفخ الروح .
مرحلة المخاض ( Delivery Phase ) :
بعد مرور تسعة أشهر قمرية ( 38 أسبوع ) يكون الجنين قد أتمَّ نموه في الرحم ، وحان موعد خروجه منه بعد انقضاء هذه الفترة المحددة ، يقول تعالى : ( وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ) [16] ، فالأجل محدد والفترة مقدرة : ( فَجَعَلْنَاهُ فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ . إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ . فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ) [17] .
يتضمن طور المخاض الذي ينتهي بالولادة 4 مراحل : (1) مرحلة توسع عنق الرحم وانقباض عضلة الرحم : حوالي ( 7 – 12 ساعة ) . (2) مرحلة خروج الجنين : حوالي ( 30 – 50 دقيقة ) ، نعلم منها حكمة قوله عز وجلّ : ( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) [18] . (3) مرحلة خروج المشيمة ( Placenta ) : حوالي 15 دقيقة . (4) مرحلة انقباض الرحم : حوالي ساعتين .
وبعد الولادة وقطع الحبل السري الذي كان يعتمد عليه الجنين لتحصيل الغذاء من أمه طوال فترة الحمل يبدأ المولود مرحلةً أخرى في محطة جديدة من حياته !
الخاتمة ( Conclusion ) :
وفي خاتمة البحث يناسب أن يقال بأن الله تعالى يعلم بعلمه المحيط أن الإنسان يصل في يوم من الأيام في المستقبل القريب أو البعيد إلى معرفة مراحل الجنين البشري ، فألهم سبحانه خاتم أنبيائه صلى الله عليه وسلم التكلم بهذه الحقيقة ليبقى فيها من الشهادات على صدق نبوته ورسالته ما يكون ملائماً ومناسباً لكل زمان وعصر .
ومما سبق يتبين لنا أن الآيات القرآنية تقدم وصفاً دقيقاً متميزاً للمراحل الرئيسية التي يمر بها الجنين البشري ، وأن التعبيرات الحالية المستخدمة في علم الأجنة لوصف هذه المراحل لا تبرز الصفات المميزة للجنين في كل مرحلة حيث يستخدم الترقيم العددي دون إشارة إلى أي وصف ، وهذا يثبت إعجازاً رائعاً من أوجه الإعجاز القرآني .
وإن هذا البحث يبطل نظرية تشارلز داروين ( 1809 – 1882 ) وهي ” أن الإنسان ما هو إلا حيوان من جملة الحيوانات ، حادث بطريق النشوء والارتقاء ، وأنه لمشابهته القرد ، لا يمنع أن يكون قد اشتق هو وإياه من أصل واحد” ، لأن الآية : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ إلخ ) [19] واضحة ذلك . وأيضاً إن هذا البحث يبطل بعض النظريات كنظرية التكوين المسبق ( Pré-Formation-Theory ) وكنظرية التخلق المتوالي ( Epigenesis) وكنظرية أرسطو التي كانت سائدةً في عصره ولعصور كثيرة تليه كما ذكرت في المقدمة .
وفي الآية : ( ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ) دلالةٌ على بطلان قول من قال : في ” أن الإنسان هو الروح لا البدنُ ” قول الفلاسِفة الذين يقولون : إن الإنسان شيئ لا ينقسم ، وإنه ليس بجسم .
وروي عن الإمام علي أنه رد على من قال : إن العزل هو المؤودة الصغرى قائلاً : لا تكون موءودةً حتى تمرَّ على التارات السبع : تكون سلالةً من طين ثم تكون نطفةً ثم تكون علقةً ثم تكون مضغةً ثم تكون عظاماً ثم تكون لحماً ثم تكون خلقاً آخر ، فقال عمر رضي الله عنه : صدقت ، أطال الله بقاءك [20] .
ولا يرتكز العلم الحديث على أدوار خلق البشر الأول وعلى مرحلة العلقة والتصوير والتسوية والتعديل ونفخ الروح كما يركز عليها القرآن الكريم . هذا ما عندي والله أعلم بالصواب .
* قسم الدراسات الإسلامية ، الجامعة العالية بكولكاتا ، الهند ، البريد الكتروني : mdsalimullahaliavee@gmail.com
[1] المؤمنون : 14 .
[2] الحج : 5 .
[3] أخرج مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه .
[4] البلد : 8 – 9 .
[5] المؤمنون : 14 .
[6] صحيح مسـلم .
[7] المؤمنون : 14 .
[8] المؤمنون : 14 .
[9] المؤمنون : 14 .
[10] الزمر : 6 .
[11] الأحقاف : 15 .
[12] لقمان : 14 .
[13] الإسراء : 85
[14] السجدة : 9 .
[15] حديث ابن مسعود في الصحيحين .
[16] الحج : 5 .
[17] المرسلات : 21 – 23 .
[18] عبس : 20 .
[19] المؤمنون : 12 – 14 .
[20] تفسير ابن عاشور ، شرح الموطأ في تفسير قوله تعالى : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ) إلخ .