التوجيه القرآني للحوار الحقيقي : دراسة وصفية تحليلية

الثقافة الإسلامية : معالمها وأهدافها
أكتوبر 20, 2020
الرد على الاعتراضات على بعض الآيات القرآنية  * ( الحلقة الثانية الأخيرة )
نوفمبر 10, 2020
الثقافة الإسلامية : معالمها وأهدافها
أكتوبر 20, 2020
الرد على الاعتراضات على بعض الآيات القرآنية  * ( الحلقة الثانية الأخيرة )
نوفمبر 10, 2020

 

التوجيه القرآني للحوار الحقيقي :

دراسة وصفية تحليلية

بقلم : الأخ أيه عبد الواحد *

القرآن وأدبه :

” هو كلام الله المعجز ، المنزّل على خاتم الأنبياء والمرسلين ، بواسطة الأمين جبريل عليه السلام ، المكتوب في المصاحف ، المنقول إلينا بالتواتر ، المتعبد بتلاوته ، المبدوء بسورة الفاتحة ، المختتم بسورة     الناس ” [1] . ” هو مصدر التشريع الأول للأمة المحمدية ، وعلى فقه معناه ومعرفة أسراره والعمل بما فيه تتوقف سعادتها . ولا يستوي الناس جميعاً في فهم ألفاظه وعباراته مع وضوح بيانه وتفصيل آياته ، فإن تفاوت الإدراك بينهم أمر لا مراء فيه ، فالعامي يدرك من المعاني ظاهرها ومن الآيات مجملها ، والذكي المتعلم يستخرج منها المعنى الرائع . وبين هذا وذاك مراتب فهم شتى ، فلا غرو أن يجد القرآن من أبناء أمته اهتماماً بالغاً في الدراسة لتفسير غريب ، أو تأويل تركيب ” [2] .

من أدب القرآن الكريم شموليتُه على كل شيئ في الحياة . لأنه ” تطرق لموضوعات مختلفة ذات أهمية كالأمر والنهي ، والوعد والوعيد ، والحكم والأمثال ، والوعظ والقصص ، وذكر المغيبات ، والعلوم الكونية ، ومظاهر الخلق ، ودلائل البعث والنشور ، وغير ذلك من الأمور المهمة . حين نتدبر القرآن في كل هذه المواضيع والأغراض نجده في منتهى البلاغة والبراعة وغاية الانسجام والتوافق والالتئام ، أوله يشبع آخره ، ويشبه بعضه بعضاً في الحسن ، ولا يمل قارؤه ، ولا يسأم مجوده ، ولا يشك متدبره ، بل يزيد المتقين هدى ، والمؤمنين إيماناً ، وذلك أنه في غاية الترابط والتلاحم ، أوله يصدق آخره ” [3] .

التزام الموضوعية والبعد عن التعصّب في القرآن الكريم :

إن التزام الموضوعية والعدل والإنصاف يقود الحوار إلى طريق مستقيم لا عوج فيه ، ويحول دون الانسياق إلى الهوى ، فعلى المتحاورَين أن يتجّنبا التعصب ، ويعلنا الاستعداد التام للبحث عن الحقيقة ، والأخذ بها عند ظهورها ، سواء كانت هي وجهة نظر المحاور ، أو وجهة نظر من يحاوره ، أو وجهة نظر أخرى . وقد أرشدنا القرآن الكريم إلى الأخذ بهذه القاعدة ، إذ عُلّم الرسول صلى الله عليه وسلم : ” قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ” [4] .

وفي هذا غاية التخلي عن التعصب لأمر سابق ، وفيه كمال إعلان الرغبة بنشدان الحقيقة أنى كانت . ولما كان موضوع المناظرة الذي وردت هذه الآية بصدده هو توحيد الخالق أو الإشراك به ، وهما أمران على طرفي نقيض ، لا لقاء بينهما بحال من الأحوال ، وهما يدوران حول أصل عظيم من أصول العقيدة ، كان من الأمور البديهية أن الهداية في أحدهما إذ هو الحق ، وأن الضلال المبين في الآخر إذ هو الباطل ، ومن أجل ذلك كانت عبارة إعلان التخلي عن التعصب لأمر سابق ، تتضمن الاعتراف بهذه الحقيقة [5] .

فالحق ضاّلة المؤمن ينشده حتى ولو كان على نفسه ، فذلك العقل بعينه والتحرر من تبعية الهوى . أما الكبر فهو داء نفسي خطير يتهدّد الإيمان بأنه ردّ الحق وإنكاره ، وعدم قبوله  ، فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول صلى الله عليه وسلم : ” لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر ” ، فقال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ، ونعله حسنةً ، قال : ” إن الله جميل يحب الجمال ، الكبر : بطر الحق وغمط الناس ” [6] .

والحق يقال : إن التسليم بالخطأ صعب على المحاور الذي لم يعتد عليه ، وبخاصة إذا أخطأ أمام الناس ، فإنه يشعر بالحرج من خطئه ، والتسليم بالخطأ يحتاج إلى شجاعة أدبية وقوة نفسية ، ولكن المحاور متى اعتاده وجد له حلاوةً تقارب حلاوة الفوز والنصر [7] .

لقد مدح الله – عز وجل – الذين لا يصرّون على خطئهم بقوله : ” وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ . أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [8] .

كما ذمّ الله – عز وجل – الذين يصرّون على خطئهم وعصيانهم فقال : ” وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ . يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ[9] . إن التسليم بالخطأ – على عكس ما يظن المخطئ أول وهلة – يكسب صاحبه احترام الناس وتقديرهم ، على عكس الإصرار على الخطأ الذي يفقده احترام الناس له ، كما يفقده احترامه لنفسه [10] .

إن التعصّب آفة كثير من الناس ، بل هو بلاء عمّ وطمّ ، بلاء متجدّد عبر العصور والدهور ، يلبس أثواباً متعددةً متلونةً ، ولكنه في النهاية شيئ واحد ، ألا وهو التعصب الذي يصم آذان صاحبه ويعمي بصره وبصيرته إلا من شيئ واحد هو المذهب أو الطائفة ! فالمتعصب لا يتبع الدليل ، وإنما يتبع ما تعصب له ، وإن بدا له أن الحق خلاف مذهبه أو رأي جماعته ، إنه خلل في الإيمان والإخلاص والتجرّد لله تبارك وتعالى .

لقد أمرنا الله تعالى أن نطيعه ونطيع رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يأمرنا أن نطيع أو نتعصب لغيرهما ، فقال تعالى : ” قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ” [11] . إنّ هذا الخلل في الفهم أدى بكثير من المتحاورين إلى التمسّك بآرائهم وتصّوراتهم على حساب الحق أحياناً [12] .

” فالمحاور الناجح شخصية سوية لذلك فهو لا يتعصّب لرأي ، وإنما يبحث عن الحق ويدعو إليه ويتمسّك به ، فإن استجاب محاوره فبها ونعمت ، وإلا أعلن ما وجّهنا إليه ربنا سبحانه وتعالى في قوله : ” وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ” [13] ، فالمحاور الناجح شخص متزن لا يتعصب ولا يتعالى على محاوره ” [14] .

ومن المظاهر الدالة على التزام الموضوعية في الحوار : عدم الخروج عن الموضوع الذي هو محل النزاع أو الخلاف ، فإن آفة كثير من الناس أنهم إذا ناقشوا غيرهم في موضوع معين ، تعمدوا أن يسلكوا ما يسمّى في هذه الأيام بخلط الأوراق ، بحيث لا يدري المستمعون في أي شيئ هم مختلفون مع غيرهم ، وتتوه الحقيقة في خضم هذه الفروع التي لا تكاد تعرف لها أصلاً . إن في القرآن الكريم كثيراً من المحاورات والخلافات التي دارت بين الرسل – عليهم السلام – وبين أقوامهم ، وكان جواب الرسل – عليهم السلام – عن أسئلة مخالفيهم منتزعاً من أقوال هؤلاء المخالفين ، دون أي خروج عن موضوع النزاع . فهاهو ذا نوح – عليه السلام – ردّ على قومه قائلاً : ” قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ . أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ[15] .

وأعداء الحق جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من القضايا ، وساق القرآن شبهاتهم بأمانة ، ثم لقّن النبي عليه الصلاة والسلام الجواب الذي يقطع دابر هذه الشبهات ، وكان هذا الجواب منتزعاً من واقع كلامهم ، دون أي خروج عن موضوع الخلاف بينه  وبينهم .

لقد حكى القرآن الكريم جانباً من هذه الشبهات وردّ عليها بما يزهقها ، قال تعالى : ” وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ . قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ[16] ، وقال أيضًا : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا . أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا[17] .

فهذه الآيات على سبيل المثال ، فيها الإجابة على شبهات    الضالين ، وفيها الردّ الحاسم  ، والقول الفصل ، دون خلط للأوراق ، ودون خروج عن موضوع الخلاف [18] ، ” فالتعصب هو عدم قبول الحق عند ظهور الدليل ، والمحاور المسلم طالب حق لا يتعصب لشخص معين ، ولا لفئة معينة ، ولا لرأي معين ، فإذا حاورت أو ناظرت ، فلا تتعصب ودر مع الحق حيث دار ” [19] .

إبراز الحقائق الثابتة في الحوار القرآني :

” أوجب الإسلام على الأطراف المشاركة في الحوار توخي الصدق والتثبت من صحة ما يقال ، وهي مسؤولية مشتركة بين المتحدث من جانب والمتلّقي من جانب آخر ، أما مسؤولية المتحدث فهي : أن يتحرى الصدق فيما يقول ، وألا يتحدث بما لا يملك دليلاً على صدقه  ، وأن يستقي معلوماته من مصادر موثوق بها . وأما مسؤولية المتلّقي فهي : ألا يأخذ كل ما يقال له مأخذ التسليم ، وإنما يقوّمه في ضوء مجموعة من المعايير منه ، وهي : شخصية المتحدث ، وأخلاقه ، وسيرته بين الناس ، وعلمه ، ومدى توافق الأفكار المطروحة مع الحقائق الثابتة والموثوق بها ، ومدى قوة الحجج والبراهين التي تدعم ما يقال ” [20] ، قال تعالى : ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [21] ، وقال أيضاً : ” وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [22] .

” إن أسلوب مقارعة الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان من الأساليب الإقناعية القديمة ، جاء استخدامها في القرآن الكريم ضد الكفار والمشركين ، وعلى لسان الأنبياء عليهم السلام ، وحينما نمعن النظر في الحوار القرآني نجد أنه بعد ثبات الاقتناع المرتكز على الحجج    والبراهين ، لا يجعل ذلك الاقتناع سدّاً منيعاً في وجه الخصوم ، بل يعطيهم فرصة أخرى لطرح أفكارهم القائمة على حجج أخرى وأدلة جديدة ” [23] ، قال تعالى : ” وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [24] .

وأجاب يوسف عليه السلام يرد عن نفسه التهمة الباطلة قائلاً : ” هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي” [25] ، ” وحضر عدد من أقرباء الزوجة ورأوا قميصه ممزقاً ، وهو الدليل الذي أرادت أن تتذرّع به ، حيث زعمت أنها مزقته دفاعاً عن نفسها ، لكن أحد أقربائها شهد بالحق ، قال تعالى : ” وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ . وَإِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ[26] . وأقبل العزيز يتفحّص قميص يوسف عليه السلام ” فَلَمَّا رَأَىٰ قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ[27] ، وهكذا قيض الله ليوسف حجةً ودليلاً قاطعاً على براءته ” [28] .

إن العقلاء دائماً عندما تتضح لهم الحجة ، ويظهر لهم البرهان ، ويرون الدليل الساطع على صحة المسألة ، يقتنعون بذلك ويعترفون    بالحق ، أما السفهاء والجهلة فإنهم يصرون على باطلهم ، ويجحدون الحق عن علم به ، لسوء نواياهم وضعف عقولهم  ، وهذا ما حكاه القرآن العظيم في الحوار بين موسى عليه السلام وسحرة فرعون ، فقد قبلوا التحدي من موسى عليه السلام أول الأمر ، ” قَالَ بَلْ أَلْقُوا ۖ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ . فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَىٰ . قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَىٰ . وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ[29] .

وألقى موسى عليه السلام عصاه ، فابتلعت سحرهم وأيقن السحرة أن ما فعله موسى عليه السلام إنما هو معجزة وليس سحراً ، وأنه رسول من ربّ العالمين ، وأن حجته هي الأعلى ، فما كان منهم بعد أن اقتنعوا بالحق إلا أن قالوا بكل شجاعة وإخلاص ” آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ     وَمُوسَىٰ[30] وردّوا على فرعون الذي هدّدهم بأن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ” إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ     وَأَبْقَىٰ[31] ، ” وهكذا ضرب سحرة فرعون أروع الأمثلة في الإخلاص والشجاعة والخضوع للحق بعد قيام الأدلة الساطعة على أن موسى عليه السلام على الحق ” [32] .

فلا بد من الاعتماد على الأدلة البرهانية التي تقوم على الحقائق التي تدركها العقول السليمة وتذعن لها القلوب المستعدّة للاعتراف   بالحق ، وهي القلوب التي لم تطمس بصيرتها الأهواء والشهوات ، ونوازغ الجحود والإنكار ، وعوامل الاستعلاء والاستكبار ، فعلى المحاور الناجح أن يبحث عن الأدلة البرهانية والحجج الصحيحة التي هي حقائق في ذاتها ، ثم يستدل بها لإقناع من يدعوه إلى دين الله عز وجل ، وعليه أن يختار منها ما يلائم مدارك من يدعوه ، ومستواه العلمي وحالته النفسية . فإذا احتاج إلى تبسيط الأدلة وتيسيرها ، بسّطها له ويسّرها ، وتسلسل معه فيها وفق النظام العقلي الذي فطر الله عقول الناس عليه .

وإذا رأى أن لدى فكر من يدعوه أغشية لا تسمح له برؤية الحقيقة حاول إزالتها برفق  ، حتى تنجلي بصيرة فكره . وإذا وجد لديه مسّلمات يراها حقائق ، وهي تناقض ما يريد إقناعه بها ، وحاول برفق أن يكشف له بطلان هذه المسّلمات بالحجج الصحيحة التي يقبلها . وبعد أن يزلزل اعتقاده بمسّلماته يقدّم له الأدلة الدامغة التي تنتهي مراحلها بإثبات القضية التي يريد أن يدعوه إليها فلا يجوز للمحاور أن يحتج بأدلة خرافية أو واهية لإثبات القضية التي يدعو إليها [33] .

” لقدحاربت شريعة الإسلام الإشاعات الكاذبة التي ينشرها المتحاورون مع غيرهم عن سوء نية ، بوسائل متعددة وأساليب مختلفة . حاربتها بتغليب حسن الظن على سوء الظن ، قال تعالى : ” لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَٰذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ[34] ، حاربتها عن طريق ردّ الأمور إلى مصادرها الأصلية ، وسؤال أهل الذكر عما يخفى فهمه ، امتثالاً لقوله سبحانه : ” وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [35] ، وقوله سبحانه : ” وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا [36] .

حاربتها ( الشريعة ) بالمنطق السليم ، وبالحجة القاطعة ، وبالدليل العملي الناصع  ، فعندما أشاع المنافقون في غزوة أحد ، أن الذين قتلوا في هذه الغزوة لو أنهم بقوا في بيوتهم لما قتلوا ، ردّ القرآن الكريم عليهم بما يخرس ألسنتهم : ” قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ [37] ، إن الحوار الذي يقوم على الحقائق الثابتة والمعلومات الصادقة والأخبار الصحيحة يباركه الله عز وجل ، ويثيب أصحابه ببركة تعاونهم على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان ” [38] .

أما الحوار الذي يبنى على الإشاعات والأراجيف الباطلة ، فإن نتيجته الخيبة والخسران ، لأن سنة الله اقتضت أنه لا يصح في النهاية إلا الصحيح . ” لذا يجمل بالمناقش أن يعزو الأفكار إلى مصادرها ، وأن يستعين بذكر الإحصائيات التي تخدم رأيه ، والمراجع التي اعتمد    عليها ، فسوق الحقائق المجرّدة أقل تأثيراً في النفوس من سوقها مدعمة بالشواهد المعتمدة سواء من الكتاب والسنة ، وأقوال العلماء إذا كانت مما له صلة بها ، أم من أقوال أهل الاختصاص المعتمدين الموثوقين ، كالنقل عن أساطين الطب في مسائل الطب ، أو تدعيم الكلام بذكر مرجعه من أمهات الكتب .

ويحسن بالمحاور أن يترك النقول الضعيفة ، والحجج الواهية ، فدليلان قويان لا يمكن الرد عليهما أفضل من سوقهما مع ثلاثة أدلة أخرى يمكن الأخذ والرد فيها ، إذ ربما يستغلها الطرف الآخر لإضعاف الفكرة . إن خير وسيلة لكسب الطرف المقابل ألا تضطره بالإقرار بالحقيقة ابتداءً ، بل بعرضها عليه أولاً ، ثم الاستدلال لها ، تجد المحاور الآخر في النهاية يقرّ بها من تلقاء نفسه ” [39] .

خلاصة البحث :

يتضح مما درسنا أن القرآن الكريم مع أنه وحي من الله تعالى ، قام بإرشاد الإنسان إلى الحوار الحقيقي وله دور هام في إشاعة ونشر الأفكار القيمة الاجتماعية والتصورات والآداب الحوارية ، فتوصي هذه الدراسة ضرورية الاهتمام بأدب الحوار القرآني في المجتمع الهندي بأحسن الوجه وإدخاله في المقررات التعليمية حيث تدرس في الكليات والجامعات لكي تتطور اللغة العربية وآدابها وفنونها في الهند .

* باحث بقسم اللغة العربية ، الكلية الجديدة ، شيناي ، تاملنادو ، الهند .

[1] محي الدين يس . يل . يم . ، مظاهر حقوق الحيوان في الأدب العربي دراسة مقارنة بين القرآن الكريم وأشعار أحمد شوقي ، سجل الندوة العالمية التاسعة ، أولوويل سريلانكا : جامعة جنوب شرق سريلانكا ، ( 2019 ) .

[2] المصدر نفسه .

[3] محمد جميل زينو ، ( د . ت ) ، كيف نفهم القرآن ، د . ن .

[4]سورة سبأ : 24 .

[5] الميداني ، ضوابط المعرفة ، ص : 363 – 364 ، بتصرف ، ( مرجع سابق ) .

[6] مسلم ، صحيح مسلم ، كتاب الإيمان ، باب تحريم الكبر وبيانه ، رقم الحديث : 147 ، ج : 1 ، ص : 93 ، ( مرجع سابق ) .

 [7] ديماس ، فنون الحوار والإقناع ، ص : 145 – 149 ، بتصرف ، ( مرجع سابق ) .

[8] سورة آل عمران : 135 – 136 .

[9] سورة الجاثية : 7 – 8 .

[10] المرجع السابق ، ص : 149 – 150 .

[11] سورة آل عمران : 32 .

[12] الحمادي ، علي ، منهجية التعامل مع الشبهات وقواعد دحضها ، دار ابن حزم ، بيروت ، ط : 1 ، 1420هـ – 1999م ، ص : 78 – 79 ( بتصرف ) .

[13] سورة الكهف : 29 .

[14] عبيد ، منصور الرفاعي ، الحوار ” آدابه وأهدافه ” ، مركز الكتاب للنشر ، مصر ،   ط : 1 ، 1424هـ – 2004م ، ص : 30 .

[15] سورة الأعراف : 61 – 62 .

[16] سورة الأعراف : 28 – 29 .

[17] سورة النساء : 77 – 78 .

[18] طنطاوي ، أدب الحوار في الإسلام ، ص : 23 – 25 ، بتصرف ، ( مرجع سابق ) .

[19] الندوة العالمية ، في أصول الحوار ، ص : 62 ، ( مرجع سابق ) .

[20] اللبودي ، الحوار ” فنياته واستراتيجياته ” ، ص : 33 ، ( مرجع سابق ) .

[21] سورة الحجرات : 6 .

[22] سورة البقرة : 111 .

[23] ديماس ، فنون الحوار والإقناع ، ص : 152 ، ( مرجع سابق ) .

[24] سورة يوسف : 25 .

[25] سورة يوسف : 26 .

[26] سورة يوسف : 26 – 27 .

[27] سورة يوسف : 28 .

[28] النحلاوي ، عبد الرحمن ، التربية بالحوار ، دار الفكر المعاصر ، بيروت ، ط : 1 ، 1421هـ – 2000م ، ص : 43 .

[29] سورة طه : 65 – 69 .

[30] سورة طه : 70 .

[31] سورة طه : 73 .

[32] طنطاوي ، أدب الحوار في الإسلام ، ص : 27 ، ( مرجع سابق ) .

[33] الميداني ، فقه الدعوة إلى الله ، ج : 1 ، ص : 303 ، بتصرف ، ( مرجع سابق ) .

[34] سورة النور : 12 .

[35] سورة الأنبياء : 7 .

[36] سورة النساء : 83 .

[37] سورة آل عمران : 154 .

[38] طنطاوي ، أدب الحوار في الإسلام ، ص : 52 – 53 ، ( مرجع سابق ) .

[39] ديماس ، فنون الحوار والإقناع ، ص : 157 – 158 ، ( مرجع سابق ) .