تطور الشعر العربي في العصر العثماني
يوليو 11, 2022أدوات الشرط وأنواعها في القرآن الكريم واللغة العربية
يوليو 11, 2022دراسات وأبحاث :
التناص الديني في روايات غازي القصيبي
الأخ زبير حسين *
ملخص :
إن القضايا الدينية من أهم القضايا التي اهتمت بها الأمم في العصر الحديث ، ومن هنا نرى أن الخطاب الديني تلعب دوراً ملموساً في تصوير الصراع الاجتماعي والتناقضات الداخلية الموجودة في المجتمعات الإنسانية . ومن وجهة النظر هذه كانت روايات غازي القصيبي تتناول هذه القضايا المختلفة الموجودة داخل المجتمع بالتفصيل .
ونظراً إلى أهمية هذه الروايات وقع اختياري على هذا الموضوع . وفي هذه المقالة البحثية سأسلط الضوء على حياة غازي القصيبي بشكل موجز ، مع بيان مفهوم التناص ، وأهمية ظاهرة التناص الديني في رواياته .
تعريف موجز عن الكاتب :
إن المؤلف غازي عبد الرحمن القصيبي وُلد في منطقة الهفوف في الإحساء في المملكة العربية السعودية عام 1940م ، وحصل على درجة البكالوريوس في القانون من جامعة القاهرة عام 1961م [1] ، ثم حصل على درجة الماجستير في العلاقات الدولية من جامعة جنوب كاليفورنيا عام 1964م [2] ، وعلى الدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة لندن عام 1970م [3] . وقد تولى العديد من المناصب الحكومية في بلاده السعودية أكثر من مرة .
وقد بدأ غازي القصيبي حياته الأدبية بكتابة الشعر ثم تحول إلى فن الرواية ، وله إنتاجات كثيرة في فن الرواية أيضاً ، وقد كان للشعر أثره الواضح في رواياته ، فألف في مجال الرواية العديد من الروايات ، هي : شقة الحرية 1994م ، والعصفورية 1996م ، وسلمى ، وحكاية حب 2001م .
وقد أدخلنا في دراستنا هذه ثلاثة أعمال للقصيبي ، وهي : ” شقة الحرية ” ، و ” العصفورية ” ، و ” حكاية حب ” .
أهمية التناص الديني في العصر الراهن :
إن التناص الديني بما فيه الخطاب الديني تأتي أهميتها في الحياة الفردية والاجتماعية ومن خلال وسائل الإعلام التي تزداد وتتنوع يوماً فيوماً في حياتنا ، وتنبثق أهميتها بوصفها أهم الروافد التي تمتلك سلطةً وتأثيراً على الإنسان منذ أقدم عهوده . ولا شك أن النص الديني بوجه عام مرتبط بحياة الفرد والجماعة ، ولو تأملنا في عصرنا هذا لرأينا للخطاب الديني حضوراً بارزاً ودوراً ملحوظاً في التنشئة الدينية للمجتمعات وزادت هيمنة الخطاب الديني بسعة انتشاره من خلال الوسائط المتنوعة التي يستعملها ، بداءً من الكتاب فالإنترنت فالبرامج التليفيزيونية وصولاً إلى البطاقة الدعوية ، ويرجع هذا التنوع والحيوية إلى الصحوة الدينية التي يعيشها العالم الإسلامي والبشرية جمعاء ، فالإنسان المعاصر في حاجة ماسة للاستماع لهذا الخطاب الذي مضمونه الكلام عن الإيمان في الدنيا ولخلاص الأخروي في الآخرة والتذكير بثوابت الدين الإسلامي وتشريعاته الغراء في وقت هيمنت فيه العولمة الفكرية والثقافية وانفتحت الأجيال المسلمة على مختلف روافدها ، فجمل تلك التصورات بإشكالاتها ، يمتلك لها الخطاب الديني في المنظومة الإسلامية إجابةً واضحةً وسليمةً .
مفهوم التناص لغةً واصطلاحاً :
التناص لغةً :
يقال : نصّ الحديث ، ينصه نصّاً : أي رفعه . وقال عمرو بن دينار : ما رأيت رجلاً أنصّ للحديث من الزهري أي أرفع له . وتناصّ القوم : أي ازدحموا ، وفي القاموس المحيط : ” تناص القوم عند اجتماعهم ” [4] .
التناص اصطلاحاً :
أجمع النقاد والباحثون على أن التناص هو ” العلاقة بين نصين أو أكثر ، وهي التي تؤثر في طريقة قراءة النص المتناص ، أي الذي تقع فيه آثار نصوص أخرى أو أصداؤها [5] كما يقول أحمد الزعبي : إن التناص ” تضمن نص أدبي ما نصوصاً أو أفكاراً أخرى سابقة عليه عن طريق الاقتباس أو التضمين ، أو التلميح ، أو الأشارة ، أو ما شابه ذلك من المقروء الثقافي لدى الأديب ، بحيث تندمج هذه النصوص أو الأفكار مع النص الأصلي ، وتندغم فيه لتشكل نص جديد واحد متكامل ” [6] .
وتتعدد مشارب التناص في النصوص الأدبية عادةً ، وأن الأديب لا يكتفي غالباً بالاتكاء على القرآن الكيريم فقط ، بل يتعدى إلى مرادفات القرآن الكريم وشروحاته وعناصر مساعدته ، فالحديث الشريف باب ، وأقوال الإسلام باب إلى هذا المجال .
الخطاب الديني في روايات القصيبي :
لقد برز هذا الخطاب الديني في روايات غازي عبد الرحمن القصيبي ، لأن الأدب الذي يبدعه ليس هو إلا شكلاً من أشكال انعكاسات الحياة وتأملات المصنف التي تمتزج بها معالم ثقافته وروافد تأمّلاته والتي يجسد الدين أحد أهم معالمها ، لذلك فإن توظيف الخطاب الديني يعدّ من المسلّمات التي تمظهرت من خلال الرواية العربية المعاصرة حيث إن ” التراث الديني يشكل جزاءً كبيراً من ثقافة أبناء المجتمع العربي ، لذا فإنّ أي معالجة للتراث الديني هي معالجة للواقع العربي وقضاياه ” [7] .
اعتمد القصيبي في استخدامه التناص والتضمين على القرآن الكريم الذي ” يمثل القوة المركزية الفاعلة والمؤثّرة في الثقافة العربية الإسلامية ، ذلك أنه المصدر الذي تنبثق عنه الرؤية الدينية للوجود ، وهو الخطاب المتعالي بنسجه الدلالي والأسلوبي ، وتركيبه اللغوي المخصوص [8] . لذلك انطوى بروزه في نسيج النص على الصعيد الشكلي المباشر أو المضموني على دلالات عميقة ، وكذلك برز توظيف المضامين والتشريعات الدينية القرآنية على الصعيد الموضوعي ، فنجد خطابات محورها العقيدة والتوحيد والحياة والموت والغفران وما ذلك .
وبعد القرآن الكريم يأتي القصيبي إلى الحديث النبوي الشريف ليقطف من بساتينه الأزهار الجميلة ويوظفه في رواياته . وجاء التوظيف موسوماً بالانتقائية والموقفية في تفنيد بعض القضايا المتصلة بالعقيدة والإيمان والأخلاق ، والمتصلة أيضاً بالتاريخ النبوي وما تلا ذلك ومقارنتها بالأوضاع السياسية التي تمنح من الدين شرائعها ومدى مصداقيتها استناداً إلى المرويات السيرية والمواقف النبوية الكريمة تجاه بعض المواقف والصراعات المذهبية والسياسية ، وقد أضاءت الأحاديث النبوية بمقتسباتها جنبات النص الروائي في الأغراض السابقة ، إما بنصوص مباشرة أو محال إليها من خلال سياق تركيبي معيّن .
وتأسيساً على ما سبق قسمنا مظاهر التناص الديني في النقاط التالية :
- التناص اللفظي مع القرآن الكريم : وهو نوعان :
- تنصيص الآيات القرآنية .
- تضمين الأساليب والمعاني القرآنية .
- التناص اللفظي مع الحديث النبوي المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم .
- تنصيص الحديث الشريف .
- التضمين الأسلوبي والمعنوي من الحديث الشريف .
وتفصيل هذه النقاط ونوعية العلاقة التي ربطتها بالنص الروائي والدلالات المنبثقة من ذلك التعاليق والجماليات التي يحققها عبر التآليف بين الخطابين الديني والروائي كالآتي :
التناص اللفظي مع القرآن الكريم : تنصيص الآيات القرآنية :
إن هذا النوع من التناص يستخدم في الروايات من خلال اقتباس جزء من النص القرآني ، ويرد وفق آلية كتابية تتخذ من قوسي التنصيص علامة على الاقتباس النصي من القرآن الكريم ، ودلالة على اقتطاع جزئي منه دونما أي تغيير في سياقه أو تراكيبه أو تراتيبه . وتتداخل الآيات القرآنية في النسيج الروائي للقصيبي محدثة نوعاً من المؤازرة النصية التي تتخذ من السياقات القرآنية المقتسبة قواعد وأساسيات ومؤكدات للكثير من الأفكار والرؤى التي يطرحها السارد .
ومثال ذلك ما ذكره القصيبي في رواية شقة الحرية حينما يصور مشهد وداع الأم لابنها ” فؤاد ” الذي اتّجه من البحرين إلى القاهرة لاستكمال دراسته ، يقول السارد : ” . . أمّه لا تترك أحداً يسافر إلا بعد أن يكتب على الجدار الآية الكريمة : ” إِنَّ ٱلَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ لَرَآدُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ ” ، تؤمن إيماناً لا يخالجه شك أن من يكتب هذه الآية لابد وأن يعود من سفرته سالماً بإذن الله . هذه المرة كان إصرارها أكثر من العادة ، ولم تطمئن حتى رأتها مكتوبةً بخطه ثلاث مرات ” [9] .
لقد استقطعت الآية القرآنية السابقة من قوله تعالى : ” إِنَّ ٱلَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ لَرَآدُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ قُل رَّبِّيۤ أَعْلَمُ مَن جَآءَ بِٱلْهُدَىٰ وَمَنْ هُوَ فِى ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ” [10] ، ولقد تضافرت الآية الكريمة مع النص الروائي في أكثر من محور ، حيث أبرزت الجانب العقائدي في النفس المؤمنة/ الأم ، التي تتوسل بكلام الله في التوكل والحفظ من المكروه . كما اتكأ النص الروائي على التناسب السياقي بينه وبين المقبوس القرآني حيث تحمل الآية القرآنية الكريمة بشارةً للنبي صلى الله عليه وسلم من الله عزّ وجل برجوعه إلى مكّة آمناً منتصراً بعد خروجه منها [11] ، ويستثمر السرد هذه الدلالة فيصوم الأم الحريصة المشفقة والتي تصرّ على تلقين ابنها تلك الآية التي ستبشرها برجوعه سالماً .
وتظهر هذه النزعة العقائدية في رواية ” شقة الحرية ” حيث يجعل عبد الكريم يتوجه نحو الاعتقاد السليم فيما يتّصل بالروح وغيباتها بعد تجربته المربكة في استحضار روح جدته المتوفية . يسأل عبد الكريم الشيخ رضوان : ” أتؤمن يا شيخ ببقاء الروح بعد فناء الجسد؟ بكل تأكيد يا ابني . وفي السيرة النبوية ما يؤكد ذلك . لقد تكلم الرسول عليه الصلاة والسلام مع المشركين من قتلى بدر وقال : إنهم يسمعونه . لاحظ يا ابني التعبير الدقيق الذي استخدمه القرآن الكريم ” وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ” ، البرزخ بمعنى الحد الفاصل . للأحياء عالمهم ، وللأموات عالمهم ، وعالم الأموات غيب لا نعرف عنه إلا ما ورد به النص الصحيح . ألا توجد وسيلة للاتصال بالأرواح ؟ الوسيلة الوحيدة هي الرؤيا . ستجد في كتاب ابن القيم أمثلةً لا تعد ولا تحصى . أما تحضير الأرواح فيجلب الجن لا الأرواح ، كما جربت بنفسك . لا تعد إلى مثل هذه المحاولة . اذكر قوله تعالى : وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ” [12] .
اتّكأ المسرود السابق في طرح خطابه الالتجائي اليقيني على الآيات التالية . يقول عزّوجل : ” حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ٱرْجِعُونِ . لَعَلِّيۤ أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ” [13] . وقال عزّ وجل : ” وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ” [14] .
تضمين الأساليب والمعاني القرآنية :
هذا النوع من التناص يتجلّى في البعد الآخر للتضمين القرآني في النص الروائي حيث تنتظم من خلاله التجربة المعطاة وفق أنماط دلالية مضمّنة من القرآن الكريم فلا نحددها أطر التنصيص أو الأساليب ، بل تبرزها لغوية من معاني القراني القرآن الكريم وتشريعاته .
وفي هذا الشأن ؛ نرى القصيبي يعرض للقضية الإشكالية ويسوقها عبر حوار شخصية الرواية ويقف بينه سارداً حيادياً ناقلاً لفكر ورؤى كل طرف ، مانحاً القارئ حقه ودوره في الفاعلية النصية التي تتمثل في الاقتناع أو عدمه .
وفي حوار بين ” يعقوب العريان بطل رواية ” حكاية حب ” في المستشفى الذي يقضي فيه أيامه الأخيرة ، يقول السارد الأسقف : ” حقاً ألا أعرف إلا القليل عن الإسلام !! هذا شيئ مخجل . وما رأيك أن تعطيني بعض الدروس ؟ اشرب قهوتك ! أي قيمة لدين بلا ثوابت ؟ أي معنى لدين يتغّير في كل موسم مثل موضات الملابس . صدّقني إني أحترم الأصوليين من كل ملّة . ماذا ؟ قلت : الأصوليين ولم أقل الإرهابيين . الخلط الشائع بين الاصطلاحين يضايقني . أنا أومن بالله وكتبه ورسله وملائكته وقدره واليوم الآخر والحساب والجنة والنار وأحاول عمل الخير ما استطعت ، ومع ذلك لا أستطيع أن أقول : إني متدّين لأني ارتكبت الكثير من المعاصي . نحن نؤمن أن الله غفور رحيم ، وأن مغفرته تشمل كل الذنوب ، ما عدا الشرك ” [15] .
في العبارات السابقة ، يضم المسرود السابق جملةً من التصورات المتّصلة بأكثر من جانب ، كالفصل بين الأصولية ( الفهم الصحيح للتشريعات الربانية الثابتة ) والتطرّف الذي أفرز مواقف مضادة لها وبعيدة عنها كالإرهاب ، فالعودة إلى منابع التشريع الإسلامي الأصلية بعيدة عن أي مؤثرات مغايرة وفهمها الفهم الصحيح ، وتطبيق المنهج القويم بصورة مستقيمة كفيل بإعطاء نتائج سليمة وعادلة .
أما فيما يتصل بالخطايا التي جبل البشر عليها ، فإن القرآن يحررهم من هذا الداء بدواء الغفران إن صحت التوبة ولم يقترف الجرم الأكبر وهو الشرك ، يتجلى ذلك المعنى في قوله عز وجّل : ” إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفْتَرَىٰ إِثْماً عَظِيماً ” [16] .
كانت تلك المعاني القرآنية التي ناقشها يعقوب العريان في رواية ” حكاية حب ” في حوار قصير مع الأسقف الذي عمد الحوار إلى إبرازه متخوّفاً متردداً إزاء ما آمن به طيلة حياته وسعى له لتشكل جملة تساؤلاته عن الإسلام رغبة في البحث عن رواء شاف لعطش الأسئلة التي تتناوشه خاصةً وهو مقبل على مصير مظلم بالنسبة إليه يتجسد في الموت .
التناص اللفظي مع الحديث النبوي : تنصيص الحديث الشريف :
يعتمد القصيبي في تنصيص الحديث الشريف على نفس الآليات الكتابية التي سار عليها الاقتباس القرآني المنصص ، أي ورود الحديث كاملاً بنصه واندغامه ضمن النسق الكتابي والمضموني للنسيج الروائي ، وبالرغم من كون نصية الحديث متسعةً متغايرةً مع الآية الكريمة المتسمة بالإيجاز ، إلا أن ورودها ضمن الحيز الروائي لم يشكل معضلة فنية تعطل جماليات الرواية فنياً ، بل كان لها حضورها المتميز الذي يبررها ، ويعطي المتن الروائي تمدداً كتابياً ودلالياً ، والمتلقي زخماً معلوماتياً وتذكيرياً وإقناعياً .
يطرح القصيبي في رواية ” شقة الحرية ” عدة قضايا تجسدها الحوار بين الشخصيات ، منها قضية الفقر والحلول التي يقدمها المنهج الإسلامي على لسان النبي صلى الله عليه وسلم لها ، ولكن تلك الحلول لن تطبق إلا إذا تأسس المجتمع وفق تنشئة دينية سليمة وتربية إسلامية شاملة أساسها عبادة الله وفق تشريعاته السماوية ، يقتنع ” عبد الرؤوف ” بذلك تماماً ويدلل على ذلك بقوله : ” لو أخذنا حديثاً نبوياً واحداً ، واحداً فقط ، ” ما آمن من بات وهو شبعان وجاره جوعان ” [17] ، درسناه في المدارس كما ندرّس تفاهات جمال عبد الناصر الآن هل تعتقد أنه سوف يكون هناك أمثال محمدين ، لو اهتم كل إنسان بجاره ، هل سيبقى جائع واحد ؟ ” [18] ، و ” محمدين ” بطل قصة عبد الرؤوف التي تصور فتى في الثالثة عشرة من عمره ، يعول أسرته الفقيرة بسرقة أعقاب السجائر من الأوتوبيسات وإعادة لفها ومن ثم بيعها بثمن بخس .
وفي رواية ” العصفورية ” يأخذ الحوار بين البروفيسور بشار الغول وضياء الدين المهتدي طابعاً دينياً يقوم على بنية السؤال والجواب : “حدثني ، يا أخي ضياء حديث المؤمن الذي يحب الله لقاءه ، قال : نعم ! عن شريح ابن هاني عن أبي هريرة رضى الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” من أحب لقاء الله أحب لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه : قال : فأتيت عائشة فقلت : يا أم المؤمنين ! سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً إذا كان ذلك فقد هلكنا ” ، فقالت : إن الهالك من هلك بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ” . وليس أحد منا إلا وهو يكره الموت . فقالت . ” قد قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بالذي تذهب إليه . ولكن إذا شخص البصر ، وحشرج الصدر ، واقشعر الجلد ، وتشنجت الأصابع ، فعند ذلك من أحب لقاء الله أحب لقاءه . ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ” . قلت : أشهد الله وملائكته وأشهدك يا أخي ضياء أني أحب لقاء الله عزّوجل على كل حال ” [19] .
فقد ورد الحديث السابق [20] بسياقه الأصلي كبنية مستقلة مندمجة مع البنية الحوارية للمسرود الروائي ، وهو يتضمن قضية إيمانية عميقة تتجسّد في حسن الظن بالله الغفران ، ففي هذا القدر الأقسى والبلاء الأعظم يتموضع امتحان الإيمان الصادق .
فمن الملاحظ مما سبق أن السياق الذي ينصّص فيها الحديث الشريف تطرح قضايا ووجهات نظر يقوم فيها المرجع الديني النبوي بدور إقناعي كبير ، كما يعطي الآراء المطروحة قيمةً ووعياً كبيرين من خلال ربطها بالمنظور الديني .
تضمين الأسلوبي والمعنوي من الحديث الشريف :
يرى القصيبي أن للحديث النبوي وبعض جوانب سيرة الرسول عليه السلام دوراً إقناعياً مهماً لتقوية الحجة والاستناد إلى أصل ديني يجلي النقاط المغلوطة والمبهمة في القضية . فتلك إذن إحدى الوظائف التنويرية التي تقوم بها الرواية إلى جانب إثرائها الثقافي للمتلقي . مما يجعلها ميداناً حيّاً لتداول مختلف القضايا التي تمس الأمة الإسلامية بطريقة محايدة تكتسب شرعية إقناعية أكبر بالنسبة للمتلقي . كما أن الوعي بحتمية التأثير بالآخر الذي يمكن أن يعدّ نتاج انفراده بالقوة وبالهيمنة التي استشرفها حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يحيل إليه ذلك الحوار بين يعقوب العريان والأسقف ، يقول السارد : ” السيد . . . أعني جورج ! هذه أمور تخص الدين . . . بطبيعة الحال ! أفهم موقفك . . لا داعي لأن تعلّق أنت . سوف أعلّق أنا . كنت أشغل منصباً كبيراً في كنيستي ، ومع ذلك فأنا معجب بالكنيسة الكاثوليكية ، وبكم معشر المسلمين . لا تزالون تتمسكون بالعقائد الأصلية . لا تعترفون بالمتغيرات . لا أدري إلى متى سيظل ذلك . أخبرنا نبينا محمد عليه السلام أننا سوف نفتفي آثاركم خطوة خطوة [21] .
يحيل المسرود السابق إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، الذي يقول فيه : ” لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعاً ذراعاً حتى لو دخلوا حجر ضبّ تبعتموهم . قلنا : يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟ ” ، فحالة الاقتفاء التي هيمنت على الأمة العربية متمثلة في صورة كثيرة هي إحدى اليقينيات التي أراد الروائي التذكير بها كإحالة غير مباشرة للمتلقي لبيان الوضع الراهن والخطير الذي يعاني منه الإسلام والحث غير مباشرة للمتلقي لبيان الوضع الراهن والخطير الذي يعاني منه الإسلام والحث غير المباشر على التمسك بالأصول والرجوع في كل أمور الحياة إليه قدر المستطاع حتى لا يؤول حال المسلمين ليصبح كحال الأسقف مذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء .
الخاتمة :
لا شك أن القضايا الدينية بوجه عام مرتبطة بحياة الفرد والجماعة ، متجذّرة عبر استمرارية منبعها الإيمان الخالد في النفس ، والنزوع الدائم إلى مسلّمات الدين في سبيل إرواء الأسئلة الظامئة حول الوجود والكينونة والعلاقة مع الذات الإلهية والمصير الأخروي ، والحياة وأسرارها ومختلف مظاهرها ، واستنباط الحلول لمختلف الإشكالات المتصلة بنوازع الإنسانية وبجوانب الحياة وشتاتها إذ يعتبر الدين أحد أبرز مصادر الاستقرار الذاتي المحققة للأمان والتوازن النفسي عبر ما يجسده من قناعات ذهنية قطعية وتسليم نفسي مطلق .
لقد أثار القصيبي الخطاب الديني في أدبه من خلال استخدام التناص والتضمين ، وتعددت أشكال النص الديني في روايات القصيبي من خلال استخدامه الآيات القرآنية والنصوص الحديثية كما اعتمد على توظيف المعاني والمفاهيم القرآنية والحديثة في رواياته . و هي تتشكل لغة الروائي ورؤيته على تخوم لغة النص الديني ورؤيته ، بل هي تتداخل معها أو تتوالد من خلالها بغية إعطاء الخطاب الروائي قيمة غنية بالدلالات الخاصة ، وذات عمق ومصداقية وتأثير كبير .
* باحث الدكتوارة في الجامعة العالية ، كولكاتا ، zobaer145@gmail.com
[1] القصيبي ، غازي ، عبد الرحمن : حياة في الإدراة ، ط 13 ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ، 2006م ، ص 24 .
[2] القصيبي ،سيرة شعرية ، ط 3 ، تهامة للنشر والمكتبات ، 2003م ،ص 19 .
[3] القصيبي ، حياة في الإدارة ، المصدر السابق ،ص 36 .
[4] المنجد في اللغة والإعلام ، دار المشرق ، بيروت ، مادة : نص ، ط 33 ، 1992م ، ص 811 .
[5] عناني ، محمد ، المصطلحات الأدبية الحديثية ، الشركة المصرية العالمية للنشر ، ط 2 ، 1972م ، ص 46 .
[6] الزعبي ، أحمد ، التناص مقدمة نظرية ، المؤتمر الأول للحركة الأدبية في الأردن ، جامعة مؤته ، 1993م ، ص 4 .
[7] وتّار ، محمد رياض ، توظيف التراث في الرواية العربية المعاصرة ، اتحاد الكتّاب العرب ، دمشق ، 2002م ، ص 142 .
[8] إبراهيم ، عبد الله ، التلقي والسياقات الثقافية ، ص 1 ، بيروت ، دار الكتاب الجديد المتحدة ، 2000م ، ص 101 .
[9] القصيبي ، غازي عبد الرحمن ، شقة الحرية ، ط 5 ، رياض الريس للكتب والنشر ، بيروت ، 1999م ، ص 22 .
[10] سورة القصص ، الآية : 85 .
[11] الدمشقي ، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي ، تفسير القرآن العظيم ، ط 2 ، تحقيق : سامي بن محمد سلامة ، دار طيبة للنشر والتوزيع ، 1999م ، ص 259 .
[12] القصيبي ، شقة الحرية ، المصدر السابق ، ص 251 .
[13] سورة المؤمنون ، الآية : 99 – 100 .
[14] سورة الإسراء ، الآية : 36 .
[15] القصيبي ، حكاية حب ، دار الساقي ، بيروت ، ط 7 ،2011م ، ص 42 – 43 .
[16] سورة النساء ، الآية : 48 .
[17] ونص الحديث كالتالي ، قال صلى الله عليه وسلم : ” ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه ” . البيهقي في السنن الكبرى ، ج 10 ، ص 3 .
[18] القصيبي ، شقة الحرية ، المصدر السابق ، ص 217 .
[19] القصيبي ، العصفورية : المصدر السابق ، ص 247 .
[20] النيسابوري ، أبي الحسن مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري ، صحيح مسلم ، ط 1 ، دار ابن الجوزي ، 1398م ، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار ، حديث رقم : 2685 .
[21] القصيبي ، حكاية حب ، المصدر السابق ، ص 42 .