التاريخ ظالماً ومظلوماً

يناير 28, 2025
التدابير الوقائية الصحية في السنة النبوية : دراسة موضوعية
يناير 28, 2025
يناير 28, 2025
التدابير الوقائية الصحية في السنة النبوية : دراسة موضوعية
يناير 28, 2025

الدعوة الإسلامية :

التاريخ ظالماً ومظلوماً

الدكتور أشرف شعبان أبو أحمد *

كلما عاصرنا ظالماً أو مر على حياتنا طاغية تجرعنا ظلمه وطغيانه ، نتوعده بذكرى سيئة له في التاريخ مستقرها ومستودعها قاع قيعان مزبلة التاريخ ، ويزداد طموحنا إلى أكثر من ذلك حين نطالب التاريخ بما جبنت منه نفوسنا ، وعجزت عنه سواعدنا ، نطالبه بأن تتحول كلماته إلى رصاص تخترق صدور المستبدين ، وسطوره إلى أعواد مشانق تعلق عليها رقابهم ، ودفتيه إلى سجون تغلق عليهم فيقبعوا في دهاليزها وسراديبها إلى غير رجعة ، نطالبه بأن يكون سلاحاً يجاهد المتسلطين وسوطاً يجلد به المفسدين وعصا تؤدب العصاة ، نريده أن يتحول إلى قوة رادعة تأخذ على أيدي المتكبرين وتأخذ بيد الضعفاء ، فإذا بنا نطالبه بما هو ليس له ، فضلاً عن تحمله لكل قبائح وفضائح البشرية منذ  تأسيسه ، فأضحى التاريخ مظلوماً .

ولكن هل سيضار هؤلاء الطغاة بما نتوعدهم به من كتابة تاريخ يسيئ لهم ولسيرتهم ، وهل سيضارون من لعنات وسخطات من قرأ ويقرأ وسيقرأ سيرتهم ، هل سيغير هذا من سطوتهم ، ويقلل من تسلطهم ، وينتقص من جبروتهم ، أم سيظلون قائمين على ما هم عليه ، وعلى ما سبقهم إليه غيرهم ، وهل ثأر التاريخ منهم إلا ببعض الأسطر في كتب موضوعة على أرفف المكتبات أو في بعض صفحات الجرائد والمجلات أو في مدونات الانترنت ، وهل هذه السطور جرحت أبدانهم وخلعت أظافرهم وسلخت جلودهم وبالغت في قتلهم ، هل هذه الصفحات أذاقتهم الجوع والعطش والخوف ومن قبلهم الذل والمهانة ، هل هذه المدونات أقلقت نومهم وذهبت براحتهم وأصابتهم بشتى الأمراض والأوبئة ، وهل طغاة اليوم لم يقرأوا تاريخ طغاة الأمس وأول الأمس وما آل إليه حالهم ، بل الأكثر من ذلك وفي ظل التقدم في وسائل التواصل الاجتماعي وخاصة المدونات يرى كل طغاة العالم سيرتهم تكتب أمامهم ، لحظةً بلحظة ، فضلاً عن أن أجهزة الرقابة والأجهزة الأمنية الخاصة بحمايتهم ، تحصي ما يكتب عنهم ، وتنقله إليهم ، وهل من يعدون أنفسهم ليكونوا طغاة الغد وبعد الغد ، لم يقرأوا ويسمعوا ويعوا ما عليه طغاة اليوم ، بل يقرأونه ويحفظونه عن ظهر قلب ، ويتدارسونه ليسيروا على منواله ويمضوا على خطاه ، فليكتب عنهم التاريخ ما يريد ، وليحتفظ بسيرتهم في ذاكرته على أي هيئة يريدها ، فلن يغير ذلك من الأمر شيئاً ، فكم من حاكم مسلم يعيش بيننا نطقت أفعاله وصرخت ، وإن لم يقلها صراحة ، بما قاله فرعون منذ آلاف السنين ، ورددها من بعده عشرات بل مئات من الحكام ، كما جاء في سورة النازعات الآية 24 ( أنَا رَبُّكُم الأعلى ) فلا طاعة لغيري عليكم ، أدير أموركم وأصرفها كيفما يحلو لي ، وأنا صاحب الفضل والمنة عليكم ، أغني وأفقر من أريد ، وأضحك وأبكي من أشاء . وكم من حاكم مسلم قال ما قاله النمرود كما ورد في سورة البقرة الآية 258 ( أنَا أُحْيِي وَأُميت ) أنا أقتل هذا أو أسجنه وأعذبه وأعتق هذا وأعفو عنه ، فبإحدى يدي القانون وبالأخرى تنفيذه ، وكم منهم سكن في مساكن الذين ظلموا ، وتبين لهم ما فعل الله بالظالمين أمثالهم ، وضربت لهم الأمثال تلو الأمثال ، وكم منهم رأى رؤى العين تلك القصور الخاوية ، التي تهدمت جدرانها على سقوفها ، وأوحشت من ساكنيها ، وعطلت من نازليها ، بما ظلم وبغى أهلها في الأرض ، وكم من مسلم له من الثروات والكنوز ما تنوء بحمله العصبة أولي القوة ، وكم من ثري يتخذ من سهول الأرض قصوراً وفيلاً ومنتجعات ومساكن شاهقة العلو والارتفاع ، فهل اعتبر هؤلاء مما أصاب قارون ؟ وهل اتعظ أي من حكامنا مما آل إليه فرعون وهل اعتبروا بما صار بالنمرود ، وهل وضعوا نصب أعينهم ما حدث لبعض طغاة العصر ، هل اهتز لهم جفن أو ارتعش لهم بدن ، هل منهم من كف عن ما هو عليه ، هل منهم من أوقف الاستخفاف بأبناء شعبه والتنكيل بهم وتشريدهم وإفقارهم ، هل منهم من رد المظالم لأصحابها ، بل الواقع يشير إلى أنه لا أحد منهم يخشى مما يكتب عنه ، ومما حدث لغيره ، ولا يشغل باله بذلك ولا يعمل له أي حساب ، بل تجدهم يغتنمون كل دقيقة في حياتهم ليفرحوا ويمرحوا بما لذ وطاب ، لا يمنعهم نوم ولا طلب راحة للجسد عن ذلك ، يخشون أن تمر الدنيا من بين أيديهم وقد فاتهم ما لا يتمتعون به ، ولا مكان ولا وقت عندهم للاعتبار والاتعاظ وخشية مصير كمصير من سبقوهم . وليس هم فقط على هذه الحالة ، بل كثير من الناس من يتخذ من التاريخ مادةً للتسلية والسمر والاستمتاع بسماع القصص وحكاوى قبل النوم ، ومنهم من يتخذ من أماكن الحضارات القديمة ، منتجعاً للرحلات السياحية ، وأماكن للترفيه والتنزه ، والتمتع بالأجازات والعطلات وتمضية الوقت وكسر روتين الحياة الاعتيادية ، ومنهم من يشاهدون الآثار القديمة للمرح والسرور والتقاط الصور التذكارية كما لو كان أهلها قدوة يحتذي   بهم ، فيمرون عليها مرور الغافلين الساهين اللاهين . والأهم من ذلك كله هل استفاد المظلوم من كتابة تاريخ سوءات ظالمه ، هل جاء بما فات من عمره وهو خلف القضبان ، وهل عوضه عن سنوات حبسه ، هل رد له صحته وعافيته ، وما سلب منه ، هل أعاد له كرامته ، هل شفى غليل صدره ، وأذهب غيظ قلبه .

وإذا كان كثير من المفكرين ومن السياسيين والعلماء بل ومن رجال الفن وأبطال الرياضة يضعون آمالهم على التاريخ لعله يذكرهم بحسن صنيعهم ، فقد غفلوا جميعاً عن ظلم التاريخ لهم ولقرنائهم بل ولكافة قرائه ، حين فتح أبوابه على مصراعيها لكل من هب ودب ، يؤرخ فيه من هو مؤهل لذلك ومن هو غير مؤهل ، من له دراية وعلم بالأمور والأحداث وملم بأسبابها ونتائجها ومن ليس له دراية ولا علم ، ينقب فيه من لديه مقومات البحث والفحص والتمحيص ومن ليس لديه ، وحين ساوى في كتاباته بين الصالح والطالح بين الجيد والرديئ بين الطيب والخبيث ، حيث أعطي لهؤلاء ولهؤلاء نفس المساحة ونفس المكانة ، وجمع بين الشيئ ونقيضه في آن واحد ، فلا يعرف الحق من الباطل ، والصحيح من الخطأ ، ولم يتخذ من الوسائل للفظ كل ما هو منافي للحقيقة ومخالف للواقع ، فتزيف فيه كثير من الحقائق ، وتقلب رأساً على عقب ، ويمجد فيه من لا يستحق تاريخه التمجيد ، وينسب له ما يرفعه إلى عنان السماء ، بل هناك من يستأجر من يكتب له تاريخاً وهمياً معسولاً ينسبه إليه وما هو منه بشيئ ، كما تطمس منه الصفحات المشرفة للبعض ، وينسب لهم من السوء ما يشوه به مسيرتهم الناصعة ، ولم يتخذ من الأساليب ما يجعل لمحتوياته من العبر والمواعظ أثراً جماً في حياة وشخصية قارئه ، ولا من الطرق لكي يصل إلى مسامع من لا يقرأ ، فالغالبية العظمى من الناس لا يقرأون ، أم لجهلهم بالكتابة والقراءة ، أو لانصراف من يعرف الكتابة عن القراءة ، لأسباب شخصية واقتصادية ومجتمعية ، والكثير منهم طابعهم النسيان والتسامح والتماس الأعذار ، ويلجأ هؤلاء إلى المشاهدة عبر شاشات التلفاز ، حيث تجد إن فيلماً واحداً عن حقبة تاريخية معينة يلصق بأذهان المشاهدين ، ويمحو عندهم أي أفكار سابقة عن هذه الحقبة ، ورغم هذا فلن ولم يستغنى عن القراءة بتمعن للاطلاع والبحث في الوثائق والمراجع ، والكتابة عن كل ما هو جديد باستفاضة ، فسن القلم أقوى من سنان الرماح ، وطعنة الرمح يشفى جرحها أما طعنة القلم فلا يبرأ ألمها ، ولا تنتهي بموت صاحبها فما أقساه من ظلم . وإذا كان البعض يريد أن يتخذ من التاريخ مكاناً لتخليد ذكرى بطولاته وتضحياته ، فهناك من الوسائل الأخرى التي تخلد بها أسمائهم وأفعالهم ، فغالبية الميادين ومحطات المترو والمطارات بل والمدارس والمعاهد التعليمية والمستشفيات والمطاعم تسمى بأسماء مثل هؤلاء ، ولكن للأسف فإن الكثرة تحفظ أسماء هذه الشوارع والميادين وتعرف كيف تصل إليها مترجلين أو باستعمال وسائل المواصلات ، ولكن لا أحد منهم يعرف شخصية من سمي به الحي أو المنطقة أو الميدان ولا يعرف ماذا قدم للمجتمع ليخلد اسمه هكذا .

والتاريخ لا يُكتب مرةً واحدةً ، بل يُمسح وتُعاد كتابته مرات ومرات عديدةً ، وتتعدد أيادي كتابته ، منها أيدي تكتبه بحياد وتجرد تام وأخرى تكتبه بتحيز ، منها أيدي شاكرة حامدة مسبحة ليلاً ونهاراً بأفعال العصاة ومنها أيدي قادحة قاذفة قارعة لهم ، ومنها أيدي كثر بين ذلك وذلك ، تثير الشك والحيرة في عقول من لم يعاصر هؤلاء ولا هؤلاء ، ومن الأمثلة على هذه الحيرة نجد اختلاف قراء وكتاب التاريخ في تصنيف بعض الطغاة ، فمنهم من ينظر إليهم على هذه الحالة ، ومنهم من يراهم على العكس منها ، يرونهم مخلصين ومنقذين ، ولولاهم لساءت بلدانهم ، بل وأيضاً من بين الطغاة من أودي بحياة الكثير من البشر ، ومع ذلك مازال البعض يحتفل بذكراه ويعدد مآثره بين الحين والآخر ، ويتمنى لو أتاحت له الفرصة للاحتذاء به وتقليده والسير على خطاه . ومنذ استخدام القنوات الفضائية لنقل الأحداث العالمية والمحلية أولاً بأول فيراها الجميع واقعة ماثلة أمام أعينهم ، انبرى الكثير للكتابة عنها والتعليق عليها كلاً من وجهة نظره وخلفياته الأيديولوجية والفكرية ، فعلينا ألا نعتبر كل  ما يكتب هو القول الفصل ، والحكم القاطع ، بل نعتبره مرجعاً من المراجع . ومن أسباب إعادة كتابة التاريخ ظهور معلومات جديدة ومستجدات لم تكن في الحسبان ، أو لتطور في مذاهبه وفلسفاته ، وظهور أدوات فكرية جديدة تستخدم في فهمه ، أو لظهور مؤرخ يدلي بدلوه في موضوع من الموضوعات ، أو أن يعثر على وثيقة أو مخطوط أو على قطعة حجر ممكن أن تقلب تاريخ عصر ما كنا نعرفه رأساً على عقب ، كما لرفع بعض الدول السرية عن أوراقها الرسمية بعد ثلاثين أو خمسين عاماً ، أو لظهور مذكرات من بيدهم الأمر والنهي ، من كبار المسئولين الذين اعتلوا مناصب هامة بين الأمم ، أو بما يتراءى ويروق للقائمين على التاريخ نفسه ، أو لتغير أهواء الحكام ومن بيدهم السلطة ، وكون كتابة التاريخ بيد من في يده الأمر أو بيد السلطة فيه شك كبير ، وقد عاصرنا من جاء إلى السلطة ، ومحا آثار ما كان سابقه يعتبرها انجازات ، بل ونسب ما تبقى من إنجازات سلفه إلى نفسه ، وكتابة التاريخ عملية متجددة لا يصدر قرار ببدئها ولا بإيقافها ، ففي حالات يقظة الأمة يزداد اهتمام أبنائها بتاريخها كما يزداد اهتمامهم بحاضرها ومستقبلها وبالتالي تشتد حركة التأليف عبر التاريخ ويزداد الناس إقبالاً على قراءته ، وفي حالات خمولها تنام عن ماضيها ومستقبلها معاً ، وتستسلم لمن يكتب لها وعليها ، ولما يكتب ولما وجدته مكتوباً عنها من قبل . فهل هناك من الإجراءات ما يمكن اتخاذها لحماية التاريخ من تزيفه وتطويعه لما تهوى الأنفس ، وهل يمكن قصر كتابته على الأيدي المتخصصة والتي لا تخشى في الله لومة لائم ، وهل سيحظر على غيرهم الدلو بآرائهم ، وهل ننتظر إلى ما بعد موت الطغاة وأعوانهم والتابعين لهم لكتابته دون خوف أو تملق ، وهل سنضعهم في مكان يليق بهم وبأفعاله ألا وهو مزبلة التاريخ ، كما يحب للبعض أن يختصهم بها ، وهي ليست كأي مكب للنفايات ، بل هو مكان تفوح منه الروائح الذكية التي كان يضعها الطغاة ، ممتزجة برائحة مآسيهم وفظاعتهم ومفاسدهم ، ويزينها الكلمات المزخرفة والمبرقشة التي كان يكتبها أعوانهم من المطبلين والمنافقين والمستفيدين ، وهل يسمح لمن ذاق الأمرين منهم بكتابته ، هل يكتب بأيدي من قاسوا وعانوا من الظلم ، لتخط سطوره بعلامات السياط التي فوق أجسادهم ، وليملى مداد أقلامهم بدمائهم التي سالت ، ولتشتعل كلماته بنيران صدورهم ، ولتكن هوامشه وسادتهم التي حرموا منها طوال فترة حبسهم ، وتغطي صفحاته عورات أجسادهم ، وتدفئ دفتيه برد أبدانهم ، أسئلة كثيرة تدور في خلد من يقرأ التاريخ  لعدة مؤرخين وبمناهج مختلفة في كتاباته .

وأخيراً فالتاريخ هو ذاكرة الأمة بل ذاكرة العالم أجمع ، وهو خير معلم للبشرية عبر الزمان ، فهو ميدان للدراسة والاختيار ، ومختبر للفحص والتحليل ، لكل الظواهر والأحداث والسير والآراء ، التي تمكنا من التخطيط للمستقبل ، واستخلاص القيم والعبر والتفسيرات لتصويب الفعل البشري ، وقراءة التاريخ وتدبره هي القادرة على خلق مجتمع واعي قادر على صنع الحاضر والمستقبل ، فالتاريخ عبرة وعظة لما فيه من حكم وعبر وتجارب وسير ، منه نعرف الصواب فنتبناه ونعرف الخطأ فنتفاداه ، وبدون تعلمه نصبح عرضه للأوهام ، ومن يجهل التاريخ فهو جاهل فعلاً ، ولو كان عالماً في شتى علوم الحياة ، والتاريخ البشري لا يتحرك عبثاً وعلى غير هدف ، وإنما تحكمه سنن ونواميس ، كتلك التي تحكم الكون والعالم والحياة والأشياء سواء بسواء ، والوقائع التاريخية لا تخلق بالصدفة ، وإنما من خلال شروط خاصة تمنحها هذه الصفة أو تلك ، وتوجهها صوب هذا المصير أو ذاك ، فإن التاريخ لا يعيد نفسه ، بل الأحداث تتشابه ، فكلما تتشابه المقدمات بما كانت عليه سابقاً ، تأتي النتائج قريبةً أو مشابهةً بما آتت ، والتاريخ إنما هو جزء من مشيئة الله في عباده ، وهو بيان للسنن الإلهية التي حركت مسار التاريخ أو تحرك التاريخ في مسارها ، يرفع بها أقواماً ويخفض بها آخرين ، والتي بدون الأخذ بها ، سوف يخرج المسلمون من التاريخ ، وسوف يتحولون من صناعة التاريخ إلى محلا لحركة التاريخ وتجاربه ، مفعول بهم وليس فاعلين به كما كانوا سابقاً .

* جمهورية مصر العربية .