مراتب التدرج في التشريع
مارس 31, 2021رسالة الإنسانية للشرق والغرب
مايو 3, 2021التوجيه البلاغي :
البلاغة الدلالية لكلمات القـرآن
د/ جمال الدين الفاروقي
ويناد – كيرالا
القـرآن أوّل كتاب في اللغة العربية . أنزله الله تعالى هـدىً للناس ، ينوّر عقولهم ويُوقد قلوبَهم وينشّط مواهبَهم . وهو بقلبـه وقالبه إعجازٌ إلهـيّ . وهذا الإعجـاز المتمثل في الآية الكريمة : ” لاَّ يَأْتِيهِ ٱلْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ” هو الأساس المرجعيّ لكل العلوم المنبثقة منه . وهو ” كتاب العربية الأكبر ” في حد تعبير الشيخ أمين الخولي أحد العلماء الغيورين على اللغة .
والقـرآن يقـدِّم ناحيتين لهذا الإعجاز : الناحية العلمية المتمثلة في الكون والكائنات ، حيث تظهـر قدرة الله تعالى ، مما لا يدع مجالاً أمام الإنسان المُنصِف أن يُعرض ويَحيد عنه ليتمادى في الباطل والجَوْر . والناحيةُ الثانية لغة القـرآن – وهي العربية – وجمالها وروعتها وأثرها في تخليد كلام رب العالمين في أذهان البشـر . يشير إليها الشيخ أبو سليمان الخطابي ( ت 388 ) : ” إن إعجاز القرآن ليس مرجعه إلى أن الله صرف العرب عن معارضته ، ولا إلى تضمّنِه للأخبار المستقبلة ، ولكنه يرجع إلى بلاغته الفائقة ” [1] .
وهناك سؤال : لِمَ جعل الله القـرآن في اللغة العربية ، مع أن هناك لغاتٍ أخـرى كان يُنطقُ بها ، مثل الحبشية واليونانية والسريانية والعبرانية ، ولكن العربية هي الوحيدة التي بقيت ونمت وارتقت في محطة الثقافة السامية ، وهي اللسان العربي المبين المشار إليه في القـرآن ، والذي كان متداولاً رائجاً في شمال الجزيرة العربية وقت النزول ، وفي هذا الصدد يقول تعالى : إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( الزخرف : الآية 3 ) إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ . ( يوسف الآية : 2 ) وهاتان الآيتان تركّزان على النشاط العقلي والذهني الذي يُحصلُ حين نتناول القـرآن قراءةً ودراسةً وبحثاً ، وهذه العملية ستكون أيسرَ وأسهلَ حين نقوم بها في اللغة العربية . لأن العربية تتميز ببلاغته وأسـلوبه أكثر بكثير من أي لغة أخـرى ، حتى ولو حاولنا ترجمته إلى لغتنا الأمّ لما يمكننا ذلك بحيث نحتفظ بروعة الأصل وروائه في بلاغته الدلالية .
ورغم أن هناك آراءً كثيرة في تعريف البلاغة ، إلا أن أجملَ تعريفها : ” وضع الكلمة في موضعها المناسب ” . وملامح البلاغة القـرآنية تتمثل في التناسق اللفظي والتناغم الصوتي لكلمات القرآن ، دون تجافٍ ولا تضارب ولا شذوذ معنوي بينها ، لأن هذه الآيات أحكِمتْ من لدنْ حكيم خبير . ولا يوجد له مثيل في قول البشـر مهما عظمت قدرته وكفاءته في اللغة . ومعلوم في التاريخ أن العرب – وهم أساطين البلاغة والبيان آنذاك – وقفوا ساكتين واجمين أمام روعة البلاغة القـرآنية . وكاد بعضهم يندفع إليها ، إلا أنهم لم يستجيبوا له بسبب نخوتهم وغيرتهم على دينهم القديم . وأقوال الشيخ ولي الله الدهلوي تجسد جمال هذه البلاغة وهو يقول : ” والحقيقة التي ينبغي أن يتفطّن لها أن مراعاة القوانين الاصطلاحية والتقيّد بها إنما هو دليل على العجز والجهل ، وأما مراعاة الحسن الإجمالي والقدر المشترك الذي لا يفوت في أي حال من أحوال الكلام ، ولا في أي صفة من صفاته ، ويرافق الكلام في لينه وشدته ، ووهاده ونجاده ، من دون إلمام بالقواعد الاصطلاحية ، واستعمال للضوابط العرفية إنما هو الإعجاز برأسه ، الخارج عن حد الطوق البشري . . . ومن هنا نستنبط قاعدةً مهمةً ، وهي أن الله قد راعى في أكثر سور كتابه الحميد الجاذبية الصوتية وامتدادها ، وجمالها وتأثيرها ” [2] .
وهذه الجاذبية هي التي جعلت القرآن كتاباً معجزاً ، في علومه وكلماته ودلالتها وبلاغتها . وكل كلمة في الكتاب تبقى لامعةً ساطعةً وضّاءةً تغذي العلوم واللغات والثقافات على مر العصور . والأثر الفاعل الذي يملس السامع حين يطالع القـرآن ينبثق من المناسبة القوية الموجودة بين ألفاظ القـرآن ومدلولاته ، ولا يمكن فصلها عنها . والأستاذ سيد سابق يصوّر هذا السحر البلاغي ويقول : ” أما أغلب الصور ففيه حركة مضمرة أو ظاهرة ، حركة يرتفع بها نبض الحياة ، وتعلو بها حرارتها ، وهذه الحركة ليست مقصورةً على مشاهد القصص والحوادث ، ولا على مشاهد القيامة ولا على صور النعيم والعذاب ، أو صور البرهنة والجدل ، بل إنها تلحظ كذلك في مواضع أخرى ” [3] .
ويمكن القول أن البلاغة العربية تقدّست بالرصيد البلاغي في القـرآن الكريم ، وتوسّع نطاقها بما قام به العلماء في السابق واللاحق بدراساتهم وبحوثهم وتأليفهم ، واستطاعت البلاغة العربية الوصول إلى أعلى درجات التعبير أكثر من أي لغة أخرى . ومن هذا المنطلق نستعرض بعض الكلمات القرآنية لنعلم مدى روعتها البلاغية .
محمد / أحمـد :
وردت تسمية أحمد دالة على النبي الخاتم في قوله تعالى : ” وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى ٱسْمُهُ أَحْمَدُ ” ( سورة الصف : 6 ) ، مع أن اسم الرسول صلى الله عليه وسلم ما جاء في القرآن إلا في صورة ( محمد ) . ولِمَ ذكر الله ( أحمد ) على لسان عيسى عليه السلام ؟ ويكفينا أن نجيب عليه أن كليهما من أصل واحدٍ ولمسمًّى واحد ، إلا أن العنصر البلاغي أعلى وأظهر في الثانية . وكلمة ( محمد ) اسم المفعول من صيغة المجهول لـ ( حَمَّدَ ) لتدلّ على مفهوم الحمـد فيما مضى ، بينما تكون كلمة ( أحمد ) وهي صيغة التفضيل ، تحمل مفهوم الحمد الدائم دون اعتبار الزمنية . وجاء ذكر ( أحمد ) على لسان عيسى عليه السلام ، ليكون صاحبه محل حمد وثناء بالغين في السابق واللاحق ، ولو ذكر في ذلك السياق ( محمد ) ليكون قصوراً ونقصاناً في حق النبي الخاتم .
القروء والشـهر :
بصدد عدة المطلقات جاءت الآية ” وَٱلْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوۤءٍ ” ( البقرة : 228 ) بينما جاء ذلك في سورة الطلاق ” وَٱللاَّئِى يَئِسْنَ مِنَ ٱلْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ ” . والقرء معناه الطهر . وأقل الفترة بين الدورتين لدى المرأة 21 يوماً ، وفي سورة البقرة ذكر الله المرأة ذات العهد القريب بالعلاقة الزوجية التي تنشط فيها هورمونات إفراز دم الحيض بفاعلية الوظيفة الحيوية في الرحم والمبيض ، ويكفي لها الانتظار أقل من شهر قد يكون عادة 23 – 26 يوماً ، للتأكد من الطهر وإثبات براءة الرحم ، بينما تكون المسِنّات المذكورات في سورة الطلاق ، قد تجفف فيهن المبيض وتفتر الهورمونات المحركة للحيض مما يجب عليهن الانتظار شهراً أو يزيد للتأكد من براءة الرحم ، مما لا يناسب في السياق الأول كلمة ( شهر ) كما لا يليق للثاني كلمة ( قروء ) .
سنبلة/ سنابل :
كلمة ( سنابل وسنبلات ) الأولى في سورة البقرة ( الآية 261 ) والثانية في سورة يوسف ( الآية 43 ) . وردت جمعاً لـ ” سنبلة ” . ومن حيث الأوضاع النحوية ليس بينهما كبير فرق ، وكلتاهما تحملان دلالةً واحدةً . إلا أن المنحى البلاغي يتميز به الأولُ من الثاني . والأولى في ثواب الإنفاق في سبيل الله الذي لا يُعدّ ولا يُحصَى . فجاءت سنابل – وهي من باب جمع التكسير – للدلالة على الكثرة لتشمل كميةً أكثر ، يؤكده قوله تعالى : ” وَٱللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ ” . بينما الثانية جاءت في سياق الكلام عن رؤيا الملك حيث يقول : ” وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ” . وهي سبع فقط لا ثامن لها .
واو الثمانية :
ومن هذا الباب واو الثمانية : والواوُ في علم النحو معروف مواضعها وإعرابها . أما واو الثمانية في القرآن ، فهي من خاصيات البلاغة القـرآنية ولا توجد في غيرها . وهذه الواو تأتي مع الكلمة الثامنة أو مع عدد الثمانية . كما في قوله تعالى :
” سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِٱلْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ” ( الكهف : 22 ) .
” ٱلتَّائِبُونَ ٱلْعَابِدُونَ ٱلْحَامِدُونَ ٱلسَّائِحُونَ ٱلرَّاكِعُونَ ٱلسَّاجِدُونَ ٱلآمِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ ” ( التوبة : 112 ) .
” عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً ” ( التحريم : 5 ) .
والمرأة تجتمع فيها الأوصاف الستة الأولى ، إلا أنها لا تكون ثيباً وبكراً في وقت واحد ، والواو بين ” ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً ” تفرّق بين المعنيين . جاءت بشكل أكثر بلاغة وروعة في هذا السياق .
وفي معرض قوله تعالى عن النار في سورة الزمر يقول : ” وَسِيقَ ٱلَّذِينَ كَـفَرُوۤاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ” بينما يذكر عن الجنة ” حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ” ، علماً بأن أبواب جهنم سبعة كما ورد ذلك في سورة الحجر ، ( لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ . الآية : 44 ) والجنة أبوابها ثمانية كما جاء ذلك في الحديث الشريف . ” من قال أشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، وأن الجنة حق وأن النار حق ، أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء . ( صحيح مسلم ) وماذا تكون الحكمة الإلهية في واو الثمانية ؟ هذا موضوع يتطلب المزيدَ من البحث والدراسة .
تنزَّل/ تتنزّل :
كلمة ” تَنَزّلُ ” و ” تَتَنَزّل ” في سورة القدر وسورة فُصّلتْ . وكلتاهما من باب تفعّل . وفي الأولى حذفت التاء ، بينما نراها غير محذوفة في الثانية . والروعة البلاغية في كلتهيما يمكن التعرّف بها بمجرد الوقوف على سياق الآيات . الأولى جاءت في معرض الكلام على ليلة القدر ، وهي ليلة واحدة غير متكررة . بينما الثانية جاءت دالةً على استمرارية نزول الملائكة على الذين قالوا ” ربنا الله ” . وكل منهما يحمل في ذاته المعنى الدلالي من الحركة الصوتية . ومن هذا القبيل مشتقات كلمة ( تفكـّـر ) مثل : يتفكرون وتتفكرون : جاءت للدلالة على إعمال العقل واستمرارية التفكير دائماً في حياة الإنسان .
الوالدات/ الأبوين :
كلمة الوالدات والأبوين الواردة في القـرآن ، والمعنى الظاهر لهما واحد ، إلا أن الوضع القرآني يتميز بمعنى خاص . والقـرآن حين ذكر الوالدات/ الوالدين فالأهمية هناك للوالدة أي الأم ، بينما الأهمية في كلمة ” الأبوين ” تكون للأب . مثل : وَٱلْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ( البقرة : 233 ) التركيز في الآية على الوالدة ، والآية : وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ( الإسراء : 23 ) ومن المنطلق اللغوي يكون الإحسان على حد سواءٍ بين الوالدين ، إلا أن البلاغة الدلالية لـ ( والدين ) تعطي الأمَّ الأفضليةَ ، كما ورد ذلك في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم .
والآية ” وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا ٱلسُّدُسُ ” ( النساء : 11 ) تركـز على الوالد أفضليته إذ يستحق نصيبين : الفرضَ المعيّن وما سيبقى من التركة على وجه التعصيب .
المرأة والزوجة والصاحبة :
هذه الثلاثة أيضاً مواضع تجلـّي ملامح البلاغة الدلالية . وكلمة ( المرأة ) جاءت لتدلّ على مجرّد العلاقة الجسدية بين الذكر والأنثى بدون التوافق الإيماني والفكـري حيث تبقى الأنثى مرأة ، بينما تكون هي ” زوجة ” حين يوجد بينهما الوئام والانسجام الإيماني . ومن أمثلة الأولى : امـرأة نوح وامرأة لوط ، وامرأة فرعون ، حيث كانت هؤلاء الزوجات على نقيض ما كان عليه أزواجهم في السلوك الإيماني . وأما ما ورد على لسان زكريا عليه السلام وهو يقول : ( وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِى عَاقِراً ) فيحتمل وجود بعض الخلل والنفور الذي كان يشعر به النبي زكريا حين علم أنها لا تنجب ، حتى إذا تهيأت نفسها وجاءته البشارة الإلهية تم استبدال كلمة ( امرأة ) بكلمة الزوجة في قوله تعالى : وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ( الأنبياء : 90 ) وفي مقابل هذه الآيات وردت ” الزوجة ” في قوله تعالى : ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ ( البقرة : 35 ) ، يا أَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل ِلأَزْوَاجِكَ ( الأحزاب : 28 ) ، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً ( الروم : 21 ) وسياق هذه الآيات ينبئنا بوجود الربط العقيدي بين الزوجين .
وكذلك ” الصاحبة ” جاءت لتدل على عدم وجود أي علاقة جسدية أو فكرية بين الزوجين ، وكثيراً ما ورد ذكرها حين يصف القرآن أهوال القيامة ، حيث يقول تعالى : ” يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ . وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ . وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ” علماً بأن تلك العلاقات انتهت بالموت وبمعاينة الأهوال المخيفة . كما جاءت الكلمة في حق الله تعالى في سورة الأنعام : ” أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ “( الآية : 101 ) وذلك لتقديس الله ونفي كل الإمكان لتكون له زوجة .
ربّــي بدلاً من يا ربي :
وردت صيغة الدعاء في القرآن مبدوءة بكلة ( ربِّي ) ومعناه : يا ربي ، إلا أن الثانية ما جاءت في القـرآن البتة . وفي ذلك أيضاً سرّ بلاغي ، لأن ( يا ) تستعمل لنداء البعيد ، والله أقـرب إلى عباده من حبل الوريد ، والعبد يمكنه دعاء ربه وكأنه بجنبه ، فلا حاجة لندائه بأداة نداء البعيد .
يطهـُرْن/ تَطهّـرْن :
جاءت الكلمة في قوله تعالى : وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ ٱلْمُتَطَهِّرِينَ ( البقـرة : 222 ) وكلتا الكلمتين لمعنى متقارب ، ولكنهما تحملان أدق المعاني مما يناسب ذلك السياق . فالأول يدل على طهارة الجسم التي تتم بانقطاع الدم إيذاناً بتوقف الدورة الشهرية . ويراد بالثاني الطهارة الحاصلة حين تغتسل المـرأة ، ليعلم المسلمُ أن ممارسة الجنس لا تباح إلا بعد هاتين الطهارتين .
اثّاقل / ليبطّئـنَّ :
ومن ذلك كلمة ( اثّاقل ) في قوله تعالى : يا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلأَرْضِ ( التوبة : 38 ) والكلمة بذاتها تحتوي على الدلالة المقصودة ، حتى وإن لم يفهم السامع معناها المعجمي ليدرك ماذا أراد الله بذلك بمجرد الاستماع إلى الإيقاع الصوتي . وكذلك الآية : وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ ( النساء : 72 ) جاءت في سياق الكلام عن الذين يتخلفون عن الجهاد في سبيل الله ولا يخرجون إلا لاكتساب الغنائم . والنبرة الصوتية في الآية نفسها تدل على التقاعس والتراجع الناتج عن الملل والتضجّر في الخروج في سبيل الله .
الكـذِب :
الكلمة جاءت في القرآن عدة مرات بصيغة المصدر ، ولكنها بقيت في سياق واحد أكثر روعةً وجمالاً من حيثُ البلاغة ، وذلك في قوله تعالى : وَجَآءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ( يوسف : 18 ) والوضع النحوي يتطلب أن يقول : ” بدم كاذبٍ ” نعتًا للدم . إلا أن الوصفية في وزن ( الفاعل ) نسبية مؤقتة ، بينما يكون ” كذِب ” بصيغة المصدر أبلغ في الدلالة ، إذ يوحي لنا أن ذلك الدم الملطخ به قميصه كله محض كذب وافتراء . ولو قلنا : هو رجل عادل ، وكذلك هو رجلٌ عدلٌ ، لتكون الجملة الثانية أبلغ في الدلالة .
فسيحوا في الأرض :
وفي سورة التوبة يقول تعالى : فَسِيحُواْ فِى ٱلأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ( الآية : 2 ) والله أذن لهم بالسـفر في هذه الفترة ، إلا أن السياحة أشمل وأعمّ من السفـر ، إذ أن الله أعطاهم فرصة التنقل في الأرض في هذه الفترة الزمنية دون أن يخافوا بطش الآخرين ، وهو أقـرب إلى السياحة منه إلى مجرد السفـر .
على / في :
وفي قوله تعالى : وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِى ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ( السبأ : 24 ) وحرف ( على ) يدل على العلوّ ، وصاحب الحق يعلو الحق ، تُبنى عليه رغباته وتطلّعاته ، وهو بأية حال لا ينزل عنه ، وحرف ( في ) يدل على الداخلية ، وكأن صاحب الضلالة ينغمس فيها ولا يمكنه الخروج منها . والآية إذاً بمثابة الثناء على أهل الحق وإهانة أهل البغي والضلالة .
يخشون/ يخافون :
وكذلك الكلمات المتماثلة في المعني التي تبدو في أول وهلة أنها مترادفة ، لا كبيرَ فارقٍ بينها ، إلا أننا لو أمعنا النظر في وضعها ودلالتها ومناسبتها لنرى أن كل واحد منها ينسجم تماماً لذلك السياق مستقلاً بمعناه النسبي ، ولم يأت متماثلاً أو مترادفاً لما سبقه . ومن ذلك كلمة خشية وخوف ، يستعمل كلاهما لمعنى متقارب ، إلا أن السياق القرآني متميز بروعة المعنى : والله يقول : وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ ( الرعد : 21 ) والخشية من الله ، تنطلق حين نعلم عظمة من نخشاه – وهو الله ، بينما الخوف ناتج عن سوء أعمالنا وسلوكنا في الحياة ، مما يترتب عليه سوء الحساب الذي لا مفرّ منه .
حتى زرتم المقابر :
جاء القـرآن بتعبير أكثر روعة في هذه الآية ، والبقاء في القبر بمثابة الزيارة ، وكلمة ” زرتم ” توحي للقارئ أن الفترة في القبر قصيرة وأن أمامه بعث ونشور ، والسيدة عائشة عبد الرحمن ، رائدة الدراسات البيانية في القرآن تشير إلى هذه الرائعة وتقول : ” في التعبير عن الموت بالزيارة ملحظ بياني بالغ القوة ، فاستعمال الزيارة بهذا المعنى صريح الإيحاء ، بأن الإقامة في القبر ليست إقامةً دائمةً ، وإنما نحن فيها زائرون ، وسوف تنتهي الزيارة حتماً إلى بعث حساب وجزاء ” [4] .
وهكذا نرى في القـرآن الكثير والمثير من الكلمات ذات القيمة البلاغية والروعة الدلالية ، مما يدلنا على عظمة القـرآن وإعجازه . يبين الله ذلك ليعلم الناس عربُهم وعجمُهم أن القرآن نزل بلسان عربي مبين ، والضمان الإلهي المتمثل في الآية ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) ضمانٌ أيضاً لبقاء اللغة العربية على وجه المعمورة محتفظة بروعتها ورونقها . وقد اعترف المؤرخون المنصفون برقي اللغة العربية وفضل القـرآن فيه ، والأديب المؤرخ فليب كي حتي ( Philip K Hitty ) يلاحظ ذلك في كتابه تاريخ العرب ويقول : ” إن اللغات الرومانية بما فيها الفرنسية والأسبانية هَوتْ وتدهورتْ قبل أن تستوي على سوقها ، ولكن العربية سلمت منه ، وما أصابها التعارض والتباين في كلماتها وتراكيبها مثل ما أصاب اللغات العالمية الأخرى عبر القرون . وذلك بفضل القـرآن الكريم ، واليوم قد يواجه الرجل العراقي بعض الصعوبات للتفاهم مع نظيره المغربي ، إلا أن لغة الكتابة بينهما واحدة وحيدة . والقرآن حفظت العربية وقام بتوحيد حروفها وتراكيبها وأوضاعها النحوية والدلالية . ولا يزال الناطقون بالعربية فوق المعمورة يتبعها في صورتها كما كانت هي في صورتها الكلاسيكية قبل أربعة عشر قرناً ” ، والآيات القـرآنية في الغابر والحاضر تكشف للبشرية أروع أمثال البلاغة الذي كان ولا يزال معجزةً للقـرآن ومفخرةً للغة الضاد .
المراجع :
- الإمام ولي الله الدهلوي ، الفوز الكبير في أصول التفسير ، الترجمة العربية ، سلمان الحسيني الندوي .
- سيد سابق ، التصوير الفني للقـرآن الكريم .
- د . أحمد أحمد البدوي ، من بلاغة القـرآن .
- فهد بن عبد الرحمن الرومي ، اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر .
- د . محمدحسين على الصغير ، تطوّر البحث الدلالي ، دراسة تطبيقية في القـرآن الكريم .
- مجلة التجديد ، الجامعة الإسلامية العالمية ملازيا ، المجلد الرابع عشر ، عدد 28 ، نسخة الموقع : iium.edu.my
[1] البلاغة القـرآنية بين ناقدين – عبد القادر الجرجاني وسيد قطب/ عبد الملك بومنجل ، مجلة التجديد ، المجلد 14 ، عدد 28 .
[2] الفوز الكبير في أصول التفسير ، الإمام ولي الله الدهلوي ، ص 92 .
[3] التصوير الفني في القـرآن الكريم ، سيد سابق ، ص 72 .
[4] التفسير البياني للقرآن ، عائشة عبد الرحمن ، نقلاً عن تطور البحث الدلالي ، د . محمد حسين على الصغير .