رحلة ” الفوز العظيم ” للشيخ حبيب الرحمن خان الشرواني : دراسة تحليلية ( الحلقة الأولى )
أبريل 28, 2025هُوية اللغة العربية ودورها في وِحدة الأمة الإسلامية
أبريل 28, 2025دراسات وأبحاث :
الالتفات في القرآن الكريم :
سر الإعجاز البلاغي وجمال التحول البياني
د . فردوس مون . ك *
الأخ خالد . ك §
مقدمة :
يُعتبر الالتفات أحد الأساليب البلاغية البارزة والمثيرة في اللغة العربية ، وقد برع القرآن الكريم في استخدامه لإضفاء عمق وتأثير بياني فريد على آياته . ويتمثل هذا الأسلوب في الانتقال من ضمير إلى آخر أو من أسلوب مخاطبة إلى آخر دون سابق إنذار ، مما يُشعل انتباه السامع أو القارئ ويعزز انخراطه في النص . ويسهم الالتفات في توسيع المعنى وتكثيفه ، ليفتح آفاقاً متعددةً للإدراك الإنساني ، ويثري التجربة القرآنية على مستويات متجددة ، إذ ورد هذا الأسلوب في القرآن الكريم قرابة 900 مرةً .
تعريف الالتفات :
الالتفات هو التحول في الأسلوب الخطابي داخل النص ، من صيغة إلى أخرى ، مثل الانتقال من ضمير المتكلم إلى ضمير المخاطب ، أو من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم ، أو من الزمن الماضي إلى الزمن الحاضر . هذه التحولات السريعة تعكس بلاغة القرآن الكريم وتؤدي إلى استثارة ذهنية القارئ وزيادة انتباهه ، وتعمل كآلية فعّالة لإيصال المعنى الإلهي بشكل مباشر وعميق .
التسمية :
تمت تسمية الالتفات بعدة أسماء ، واختلفت هذه التسميات باختلاف آراء النحاة القدامى الذين تناولوا هذا الأسلوب . التسمية المتعارف عليها اليوم هي ” الالتفات ” ، ويرجع أصل تسمية المصطلح البلاغي بالالتفات إلى الأصمعيّ [1] . والالتفات في اصطلاح البلاغيين هو التحويل في التعبير الكلامي من اتجاه إلى آخر [2] . واللفت لغةً يعني الصرف ، لفت وجهه عن فلان : أي صرفه عنه ، والتفت إليه : أي صرف وجهه إليه [3] . وسمي بأسماء أخرى منها ” الترك والتحويل ” التي تعود للنحويّ أبي عبيدة معمر بن المثنى ، والذي يعدّ من أوائل النحويين الذين تحدثوا عن الالتفات في كتابه ” مجاز القرآن ” . كما سمى أبو زكريا الفراء هذه الطريقة اللغوية باسم ” الانتقال ” ، أخيراً سُميت باسم ” محاسن الكلام ” بواسطة ابن المعتز في كتابه ” البديع ” .
أنواع الالتفات في القرآن الكريم :
ينقسم الالتفات في القرآن الكريم إلى عدة أنواع ، لكل منها تأثيره الخاص ودلالته البلاغية . فيما يلي أبرز الأنواع مع أمثلة قرآنية لكل نوع [4] :
(أ) الالتفات من الغائب إلى المخاطب :
يعتبر هذا النوع من أشهر أنواع الالتفات في القرآن ، حيث يبدأ الكلام بالحديث عن الغائب ، ثم ينتقل مباشرةً إلى مخاطبة السامع . ومن أمثلته : ( ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَاتِ وَٱلنُّورَ ثْمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ) [5] . هنا ، بدأ النص بالثناء على الله بضمير الغائب ” الذي خلق ” ، ولكن التحول المفاجئ إلى صيغة الناس ” بربهم ” يوحي بأن الله يخاطب السامعين ، مما يخلق تأثيراً مباشراً وعميقاً حول عظمة الله وتناقض الكافرين .
(ب) الالتفات من المتكلم إلى الغائب :
يتم هذا النوع من الالتفات عندما يبدأ النص بضمير المتكلم ثم يتحول إلى ضمير الغائب ، وهذا النوع يساهم في تعزيز معاني العظمة والرهبة في النص القرآني . مثال ذلك : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) [6] . هنا في البداية ، يستخدم النص ضمير المتكلم ” إنا ” ، مما يُظهر عظمة الله وقدرته ، لكن الانتقال إلى ضمير الغائب في ” له ” يوحي بشمول القدرة الإلهية في حماية الذكر ( القرآن الكريم ) ، مما يبرز التوكيد على هذا الحفظ .
(ج) الالتفات من المتكلم إلى المخاطب :
يستخدم هذا النوع لإشعار السامع بأن الله يخاطبه مباشرةً ، مما يزيد من تفاعله وتأثره بالآيات . مثال هذا النوع : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّنَ ٱلْعَالَمِينَ ) [7] .
في هذا الموضع ، يأتي الالتفات من المتكلم إلى المخاطب ” عليكم ” ، مما يقرب المعنى ، ويشعر المستمع بأهمية النعم الإلهية التي ينعم بها ، ويحفزه للتفكر فيها .
(د) الالتفات من المفرد إلى الجمع :
الانتقال من صيغة المفرد إلى الجمع يمنح النص تفاعلاً أوسع ، ويظهر تعدد الخطاب وشموليته ، كما في قوله تعالى : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ ) [8] . هنا ، يبدأ الكلام بصيغة المفرد ” نفسه ” ، ثم ينتقل إلى صيغة الجمع ” نحن ” للدلالة على العظمة والقدرة الإلهية المحيطة بالإنسان .
(هـ) الالتفات بين الأزمنة ( من الماضي إلى الحاضر أو المستقبل ) :
هذا النوع يتم فيه الانتقال بين الزمن الماضي والحاضر ، ليضفي إحساساً بامتداد الزمن واستمرارية الأحداث ، كما في قوله تعالى : ( وَآتَيْنَآ مُوسَى ٱلْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِى إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِى وَكِيلاً ) [9] ، هنا ، الانتقال من الزمن الماضي ” آتينا ” إلى الزمن الحاضر ” جعلناه ” يظهر استمرارية الإرشاد الإلهي ، ويجعل السامع يشعر بامتداد الهدى عبر الزمان .
دلالات الالتفات في القرآن الكريم :
(أ) تنبيه السامع :
الالتفات يلفت انتباه السامع من خلال الانتقال المفاجئ ، مما يجعله يُدرك أن هناك رسالة خاصة أو معنى مميزاً يجب الانتباه له . فعندما ينتقل الخطاب من المخاطب إلى المتكلم أو العكس ، يتأهب السامع وينجذب للتركيز على ما يقال ، كأن النص يريد أن يوصله لذروة الانتباه .
(ب) التأكيد على المعنى :
الالتفات يضفي على النص معاني إضافيةً ، ويعزز الرسالة من خلال التأكيد . فعند الانتقال من ضمير إلى آخر ، يتولد شعور بالتنوع والقدرة الإلهية . مثال ذلك : ( فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ وَٱشْكُرُواْ لِى وَلاَ تَكْفُرُونِ ) [10] ، هنا يظهر الانتقال من المخاطب ” فاذكروني ” إلى المتكلم ” أذكركم ” ، ليبرز قرب الله واستجابته المباشرة ، مما يُشعر السامع بأن الله حاضر ومستجيب .
(ج) تعزيز الوعي بالتدبر والتأمل :
يساهم الالتفات في جعل القارئ يتوقف للتدبر ، وذلك من خلال إيقاع المفاجأة الذي يحدثه الانتقال المفاجئ بين الضمائر أو الأزمنة ، كما أن هذا التغيير يسهم في التركيز على القيم والأوامر الإلهية .
أمثلة إضافية للالتفات في القرآن :
(1) الانتقال من الزمن الحاضر إلى الماضي :
( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ) [11] ، الانتقال هنا يوحي بتأكيد أن كل الرسل خلت من قبل ، وأن حياة النبي موقتة مما يدعو السامعين للثبات على الإيمان .
(2) الانتقال من ضمير المخاطب إلى ضمير الغائب :
( وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا ) [12] ، الانتقال هنا من المخاطب ” ترى ” إلى ضمير الغائب ” المجرمون ” يؤكد مشهد الندم والشعور بالخزي أمام الله ، ويضفي قوةً على الإحساس بالمشهد التصويري .
الخاتمة :
يعد الالتفات أحد أسرار الإعجاز البلاغي في القرآن الكريم ، فهو يعزز من عمق المعاني ، ويزيد من التأثير على المتلقي ، محققاً تفاعلاً مع النص القرآني بأكثر من مستوى . وقد أثبتت الآيات أن هذا الأسلوب له دور كبير في شدّ انتباه القارئ ، وتوجيهه نحو فهم أعمق لأوامر الله ونواهيه .
* الأستاذ المساعد ، قسم اللغة العربية بكلية أم إي أس ممباد ، كيرالا .
[1] شوقي ضيف ، البلاغة تطور وتاريخ ، دار المعارف ، القاهرة ، ط 9 ، 1965 ، ص 30 .
[2] الميداني ، البلاغة العربية أسسها وعلومها فنونها ، دار القلم ، دمشق ، 1996 ، ط 1 ، ج 1 ، ص 479 .
[3] ابن منظور ، لسان العرب ، دار الكتب العلميّة ، بيروت ، ط 1 ، مادة ( ل ، ف ، ت ) .
[5] سورة الأنعام : 1 .
[6] سورة الحجر : 9 .
[7] سورة المائدة : 20 .
[8] سورة ق : 16 .
[9] سورة الإسراء : 2 .
[10] سورة البقرة : 152 .
[11] سورة آل عمران : 144 .
[12] سورة السجدة : 12 .