الإكثار من تلاوة القرآن الكريم وجائزته من الله تعالى

فلسفة النظافة لوقاية الإنسان من الأوبئة والأسقام
فبراير 7, 2023
شبهة
فبراير 7, 2023
فلسفة النظافة لوقاية الإنسان من الأوبئة والأسقام
فبراير 7, 2023
شبهة
فبراير 7, 2023

الدعوة الإسلامية :

الإكثار من تلاوة القرآن الكريم وجائزته من الله تعالى

بقلم : الأستاذ محمد سلمان الندوي البجنوري

إن كثرة تلاوة القرآن الكريم عمل محبوب عند الله تعالى من كل ذكر وشغل ، وهي أفضل ذكر كما تبين من الآية : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) ( سورة الحجر : ٩ ) ، وهي أفضل تسبيح وأكبر ورد من بين سائر الأذكار والأوراد ، وقال الإمام يحيى بن شرف النووي : ” إن المذهب الصحيح المختار الذي عليه من يعتمد عليه من العلماء أن قراءة القرآن أفضل من التسبيح ، والتهليل وغيرها من الأذكار ، وقد تظاهرت الأدلة على ذلك ، والله أعلم ” . ( التبيان في آداب حملة القرآن للإمام النووي ص/٢١ ) .

ولا شك أن تلاوة القرآن وقراءته والاستماع إليه والاشتغال به من أسمى الطاعات وأفضل العبادات وأعظم القربات يتقرب بها العبد إلى الله عز وجل ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ” مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ عَنْ ذِكْرِي وَمَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ ” . ( أخرجه الترمذي في سننه ، كتاب فضائل القرآن ، برقم : ٢٩٢٦ ) .

وقد وردت أحاديث كثيرة تتحدث عن فضل الإكثار من تلاوة القرآن الكريم وفضل من يتلوه ويردده ويتدبر آياته ، وإن النبي صلى الله عليه وسلم حثّ الأمة الإسلامية على كثرة التلاوة والالتزام بها ، وفرّق بين من يقرأ القرآن ومن لا يقرأه ، وعبّر عنهما بالمؤمن والمنافق ، وجعل الخير كله في نفس المؤمن الذي يتعلق قلبه بالقرآن ويتلذذ بتلاوته ويتذوق طعم قراءته ويرطب لسانه بذكره ويلتزم بحفظ آياته ويحيى به الليل والنهار ، ويشتغل به في الخلوة والحشد والسر والعلن ، وضرب مثل هذا المؤمن بالأترجة ريحها طيب وطعمها طيب ، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن الكريم كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها طيب ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ” مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب ، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو ، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر ” . ( أخرجه البخاري في صحيحه ، برقم : ٥٤٢٧ ) .

ذوق تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم :

ومن خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يكثر من تلاوة القرآن الكريم ويتدبر آياته ويشتغل به ويقرؤه ليلاً ونهاراً ، قياماً وقعوداً ويهتم بحلقات ومجالس في مسجده الشريف لقراءة القرآن الكريم وتلاوته وتعليمه وإذا صلى صلاةً أطال قياماً ، ويتلو فيها تريّثاً وترتيلاً ، وكان يحث أصحابه على الإكثار من الاعتناء بتلاوته وقراءته والاشتغال به ، كما قال لهم في مكان : ” اقرؤوا القرآن ، فإن الله تعالى لا يعذب قلباً وعى القرآن ، وإن هذا القرآن مأدبة الله ، فمن دخل فيه فهو آمن ، فمن أحب القرآن فليبشرْ ” . ( التبيان في آداب حملة القرآن للنووي ، ص/١٨ ) . وكذلك أصحابه الكرام رضي الله عنهم كانوا يكثرون من تلاوة القرآن الكريم ويشاركون مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض صلواته النافلة آناء الليل والنهار ويتلذذون باستماع قراءته صلى الله عليه وسلم ، ولكنهم ما استطاعوا أن يقوموا مع النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة طويلاً ، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه : ” صَلَّيْتُ مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لَيْلَةً ، فَلَمْ يَزَلْ قَائِماً حتَّى هَمَمْتُ بأَمْرِ سَوْءٍ ، قُلْنَا : وما هَمَمْتَ ؟  قالَ : هَمَمْتُ أَنْ أَقْعُدَ وأَذَرَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ” .      ( أخرجه البخاري في صحيحه ، برقم : ١١٣٥ ) . وكذلك قام معه صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان رضي الله عنه ذات ليلة ولكن لم يستطع القيام معه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم افتتح سورة البقرة حتى ختمها لم يركع ، وافتتح آل عمران ولم يركع وافتتح النساء ثم ركع فأطال الركوع ثم سجد فأطال السجود ، حيثما تعود على القيام طول الليل أو أقله حتى تورمت قدماه ، لأن هناك أولاً قد افترض على النبي صلى الله عليه وسلم قيام الليل ، ( يا أَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ . قُمِ ٱلْلَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً . نِّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً . أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ ٱلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ) ، وبعد ذلك أنزل الله تعالى التخفيف ، كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : ” فإنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ افترضَ قيامَ اللَّيلِ في أوَّلِ هذِهِ السُّورةِ فقامَ نبيُّ اللَّهِ وأصحابُهُ حولاً حتَّى انتفخَت أقدامُهم وأمسَكَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ خاتمتَها اثنَى عشرَ شَهراً ثُمَّ أنزلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ التَّخفيفَ في آخرِ هذِهِ السُّورةِ فصارَ قيامُ اللَّيلِ تطوُّعاً بعدَ أن كانَ  فريضةً ” ( رواه النسائي في سننه ، ١٦٠٠ ) .

ذوق تلاوة سلفنا الصالح :

كان الصحابة الكرام رضي الله عنهم يشتغلون بتلاوة القرآن الكريم ويكثرون من الاعتناء بها قراءةً وسماعاً ، درساً وتدريساً ، فهماً وتدبراً ، دراسةً ومطالعةً ، ولهم حرص زائد على تلاوة القرآن الكريم وتدبر آياته ومعانيه في الصلاة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحثهم على الاشتغال بالقرآن الكريم وتلاوته في كثير من الأحاديث ، كما قال : ” لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله القرآن ، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء  النهار ” . ( أخرجه البخاري في صحيحه ، برقم : ٥٠٢ ) .

ومن ثم كان سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم يحافظون على تلاوة القرآن الكريم ، ويكثرون منها ويختمون القرآن الكريم تلاوةً على قدر ما استطاعوا ، فبعض منهم كانوا يختمونه في شهر ، وبعض منهم يختمه في خمسة عشر يوماً ، وبعض منهم يختم في ثلاثة أيام أو في يوم وليلة أو في يوم ختمتين وفي ليلة ختمتين ، أشار إلى ذلك الإمام أبو زكريا يحيى بن شرَف النووي رحمه الله تعالى : ” كان السلف رضي الله عنهم لهم عادات مختلفة في قدر ما يختمون فيه ، فروى ابن أبي داود عن بعض السلف ، أنهم كانوا يختمون في كل شهرين ختمةً واحدةً ، وعن بعضهم في كل شهر ختمة ، وعن بعضهم في كل عشر ليال ختمةً ، . . . وعن كثيرين في كل ثلاث ليال ، وعن كثيرين في كل يوم وليلة ختمة ، ومنهم من كان يختم في كل يوم وليلة ختمتين ، ومنهم من كان يختم ثلاثاً ، وختم بعضهم ثماني ختمات ، أربعاً في الليل وأربعاً في النهار ” .  ( التبيان في آداب حملة القرآن ، ص : ٥٤ – ٥٥ ) ، وذكر الإمام النووي بعد ذلك قائمة أسماء المكثرين من تلاوة القرآن الكريم من الصحابة ،  ” فمن الذين كانوا يختمون الختمة في اليوم والليلة عثمان بن عفان رضي الله عنه وتميم الداري ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد والشافعي وآخرون . . . ” ، وكذلك ذكر عاداتهم ودرجاتهم في التلاوة ، وقد علمنا كيف كان سلفنا يحرصون على تلاوة القرآن الكريم ويتدبرون آياته ويتفكرون في معانيه ، وإليكم مثالاً لحرص تلاوتهم والإكثار منها ، كان عبد الله بن عمرو رضي الله عنه يكثر من تلاوة القرآن الكريم ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالتخفيف في ذلك ، وقال له : ” اقْرَأِ القُرْآنَ في كُلِّ شَهْرٍ قالَ قُلتُ : إنِّي أَجِدُ قُوَّةً ، قالَ : فَاقْرَأْهُ في عِشْرِينَ لَيْلَةً قالَ قُلتُ : إنِّي أَجِدُ قُوَّةً ، قالَ : فَاقْرَأْهُ في سَبْعٍ وَلا تَزِدْ علَى ذلكَ ” .          ( أخرجه البخاري في صحيحه ، برقم : ١٩٧٨ ) .

ومن العشاق بالقرآن الكريم والمكثرين من تلاوته وممن شغفوا به كانوا لا يقر لهم قرار في أي حال ، ولا تطمئن قلوبهم ، ولا تقر أعينهم ولا يذوق لسانهم طعاماً ولا شراباً ولا تتلذذ نفوسهم إلا بتلاوة القرآن الكريم ، وهو جزء أساسي من حياتهم وهم يعيشون مع القرآن الكريم مثل السمك في الماء الذي لا يعيش إلا في الماء ، وإن حياتهم كلها كانت عاملةً بما يتطلبه القرآن الكريم ، ومتفقةً مع تعليمه تماماً ، وهؤلاء العشاق والمشتغلون بتلاوة القرآن الكريم وتدبر آياته هم أهل الله تعالى وأولياؤه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ” إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنْ النَّاسِ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَنْ هُمْ ؟ قَالَ : هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ ، أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ ” .  ( رواه ابن ماجة ، برقم : ٢١٥ ) .

جائزة التلاوة من الله :

ولا غرو أن الله تعالى يتلو كلامه أمام أهل الجنة في الجنة ، وهم يرون الله بأم عينهم ويتمتعون بزيارة نور وجهه ويسمعون من الله كلامه ، كما نرى بعض العشاق بتلاوة القرآن الكريم يتمنون أن يقرؤوا القرآن الكريم في الجنة ، ويتمتعون هناك بتلاوته ، وذلك يدل على حبهم الزائد إلى القرآن الكريم وشغفهم البالغ ورغبتهم المتكاثرة في تلاوته ، وإذا تأملنا في سورة ” عبس ” الآية : ( كِرَامٍ بَرَرَةٍ ) وجدنا أن من يشتغل بالقرآن الكريم ويعمل بما جاء فيه ويتدبر آياته فهو مع الملائكة المقربين ، وقد أشار إلى ذلك العلامة الحافظ ابن كثير في شرح هذه الآية : ” وقوله  ” كِرَامٍ بَرَرَةٍ ” أي خلقهم كريم حسن شريف وأخلاقهم وأفعالهم بارة طاهرة كاملة ومن هاهنا ينبغي لحامل القرآن أن يكون في أفعاله وأقواله على السداد والرشاد ، قال الإمام أحمد حدثنا إسماعيل حدثنا هشام عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن سعد بن هشام عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة والذي يقرؤه وهو عليه شاق له أجران . ( أخرجه الجماعة من طريق قتادة به . تفسير القرآن العظيم للإمام عماد الدين الحافظ ابن كثير ، المجلد الرابع ، ص/ ٦٠٥ ) ، ويتبين ذلك المعنى واضحاً بالحديث الذي رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” يقال لصاحب القرآن : اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا ، فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها . ( رواه أبو داود ، برقم : ١٣٠٠ ) .

وهذه الجائزة العظيمة لمن يلتزم بتلاوة القرآن الكريم ويكثر منها والعمل به ويحفظه ، فإنه يقرأه في الجنة ويرتقي درجاتها ويصعد منازلها العالية بفضل الله تعالى ورحمته جزاءً بما اشتغل واعتنى بتلاوة القرآن وعمل به وقضى حياته في ضوء تعاليمه في الدنيا .