مراحل الشعر العربي حسب تدوين علم العروض
سبتمبر 2, 2024دراسات وأبحاث :
الآداب الهندية في ضوء التاريخ
الدكتور محمد سليم أختر الندوي *
هذه حقيقة واضحة أن الأدب نبض الأمة وترجمان وجدانها وضميرها وحبها وفرحها وحزنها وغضبها وأملها وألمها وطموحاتها وتطلعاتها ، وحياته مرتبطة أشد الارتباط بحياة الأمة ، وقد احتفت الهند منذ فجر تاريخها بالكلمة شعراً ونثراً ونقداً وبلاغةً ، ووقفت وقفة مراجعة لكل ما أنجزته في كل عصر ومصر في ميادين السياسة والاقتصاد والاجتماع والفكر والعلم والصناعة والفلسفة والموسيقى وغير ذلك ، وكان الطبيعي أن يكون للأدب نصيب وافر من هذه المراجعة ، فهو ديوان الأمة ومرآة فكرتها وروحها وضميرها ، وسجل تاريخها ونشاطاتها وشجاعتها .
وإن البيئة الأدبية في شبه القارة الهندية بيئة غزيرة وبيئة رائعة ، حيث تتعدد الحضارات البشرية والثقافات الطبيعية ، وتتنوع المناظر الطبيعية الجميلة ، وتتدفق الأنهار والبحور والأرخبيلات في أطراف البلاد المختلفة ، وتتسع الديانات والعقائد واللغات ، وتتباين طبيعة الهند المترامية والطبيعة الجغرافية المتباينة ، وتجري التطورات والحوادث الاجتماعية والسياسية والعلمية . ولكل من هذا تأثيرات عظيمة ودور بارز في تطور البيئة الأدبية البديعة في شبه القارة الهندية ، ونيلها حظاً وافراً من الشيوع والذيوع على مستوى العالم كله . كما أن البيئة الأدبية لعبت دوراً ملموساً في تصوير المناظر البهية والعوارض المختلفة والظواهر الطبيعية والجبال الشامخة والصحارى والمرتفعات والغابات الاستوائية والمستنقعات والسهول والأراضي العشبية والتطورات السياسية والاقتصادية والعلمية والحوادث الاجتماعية تصويراً جميلاً ، والتعبير عن أفكار الأمة وتخيلاتها وأبطالها وشجاعتها تعبيراً صادقاً ، والترنم بآلام أبناء الأمم ومسارهم وأمانيهم ، والترجمة عن عواطف الناس ومشاعرهم وعقائدهم ودياناتهم .
وتاريخ آداب الهند تاريخ مجهول لا توجد فيه كتب قيمة ، ولا نصوص أدبية قاطعة ، ولا وثائق قديمة . . . إلا الكتب الويدية التي تم وضعها قبل ظهور المسيح بألف سنة ، وكانت قبل تدوينها كدائرة معارف مشتركة ، ينقحها الناشرون ويكملونها في كل استنساخ مستعينين بمساعدين جدد ، وهذه الكتب الويدية هي الوثائق الوحيدة التى آلت إلينا من عصر يظل أمره مجهولاً بدونها [1] . . . ، إلا النصوص الدينية التي تواترت شفاهة ثم دوّنت كما وردت على ألسنة الرواة ، مجهولة التاريخ والكاتب . لكنها عمل الجماعات الآرية التي غزت الهند من شمالها الغربي حوالى 200 م . ق . ، وبدأ تدوينها واستمر حتى القرنين السادس أو الخامس قبل الميلاد [2] . . . ، إلا الرموز والأمثال والقصص والأساطير التي تعد من أهم ما أنتجته أرض الهند الشاسعة ، وعرف كثير منها في أوربا بكتاب ألف ليلة وليلة الذي يحتوي على كثير من القصص الهندوسية . وأن ” بريهات كاثا ” ( القصة الكبيرة المنسوبة إلى غوناذيا شبه الأسطوري ) و ” بنج تنترا ” ( كليلة ودمنة ) أشهر مجموعات للقصص والحكم والأمثال والرموز التي ترجمت في أكثر لغات العالم الحية [3] . . . ، إلا الروايات الهندوسية التمثيلية التي تسلط الأضواء الكاشفة على الآداب الهندية إلى حد ما ، ومن أهمها ” مركبة الصلصال ” لشودراكا ملك مغدها في أوائل التاريخ الميلادي ، و ” السحاب الرسول ” و ” أصل الإله الفتى ” و ” غرام بأوروش ” لــكالي داس الذي عاش في القرن السادس للميلاد ، و ” فازافاداتا ” لــسوبانذو الذي عاش في القرن السابع للميلاد .
وظهرت اللغة السنسكريتية كلغة أدبية أولى في أرض الهند الخصبة بقيادة الآريين الذين جاءوا من الشمال الغربي لأوربا ، والذين كانوا متميزين بالجد وقوة الذاكرة والذكاء الحاد الخارق ، محبين بالأدب والفن والعلم أكثر من الآخرين [4] ، واصطبغت بصبغة دينية خالصة ، وتواترت في البداية في نصوص دينية شفاهة ، ثم دونت كما وردت على ألسنة التاريخ مجهولاً ، ثم خطت خطوات واسعةً ، وقطعت مراحل التطور العديدة ، وفتحت للإنسان آفاقاً جديدةً حتى تميزت بغناها ، وحرية قواعدها ووفرة مفرداتها ، وخضوعها لنظام مراجع مقيد بتمثلات أسطورية وطقسوية ، وتروجت بأسلوب أدبي وأناقة جميلة بين الناس ، وامتدت على كل الهند ، حتى كشمير والشمال الغربي والبنغال والمقاطعات الدرافيدية ، وأصبحت لغة المدارس والعقائد والدين للبرهمن ، وألفت فيها الكتب الدينية والاجتماعية والسياسية والفنية الرائعة والمسرحية والروائية العليا مثل المهابهارتا [5] والرماينا [6] وابنشيد [7] وغيتا غيرها [8] .
ولا يفوتني من الذكر أن الكتب السنسكريتية الأدبية قد ترجمت إلى اللغة العربية واللغات العالمية الأخرى في فن الطب والفلسفة والنجوم والرياضيات والموسيقى والفلسفة في عهد الخلافة العباسية ، كما نقلت القصص الرائعة والمسرحيات البديعة والروايات البهية من اللغة السنسكريتية إلى اللغة العربية ، ومن أهمها السندباد وبنج تنترا وهتا أبديس وكليلة ودمنة والسند باد وبعض القصص لألف ليلة وليلة [9] .
وفي شمال الهند حول القرن الخامس قبل الميلاد قد تغيرت اللغة السنسكريتية إلى اللغة البراكية التي ترجع في أصولها إلى مجموعة اللغات الهندية والأوربية ، وانتشرت كلغة الشعب في حين اقتصرت اللغة السنسكريتية على رجال الدين والعلماء ، وتأثرت بالثقافات المختلفة والحضارات المتنوعة داخل الهند ، وأنتجت مجموعة من اللهجات أطلق عليها اسم بهاشا [10] ، وأصبحت حيناً من الدهر لغة البوذية والجاينية ، ولبثت كذلك حتى تطورت إلى البالية [11] . . . فلما أن كان ختام القرن العاشر من تاريخنا المسيحي قد تولد عن هذه اللغة لهجات مختلفة كان أهمها اللغة الهندية التي ولدت بدورها القيم في القرن الثاني عشر اللغة الهندوستانية التي باتت لغة النصف الشمالي من الهند [12] ، وأخيراً جاء الغزاة المسلمون ، وملأوا الهندوستانية بألفاظ فارسية وعربية وتركية ، وكونوا بذلك لهجة جديدة تعرف اليوم باللهجة الأردية [13] . وإن هذه اللغة الأردوية هي لغة وحيدة تروجت في أنحاء الوطن في مدة قليلة ، ونالت نصيباً عظيماً من القبول أكثر من اللغات الأخرى ، وجعلت مكانةً مرموقةً ومنزلةً رفيعةً في قلوب الأصدقاء والأعداء على السواء . فيقول المؤرخ الكبير الدكتور جوستاف لوبون : ” وفي الهند ، عدا اللهجات ، ست عشرة لغة آرية ، والهندوستانية هي أكثر هذه اللغات الآرية انتشاراً وأجدرها بالتعليم ، فهي لغة الهند الرسمية ، وهي لغة الأعمال فيها ، وبها تكتب الصحف وأهم الكتب ، ولا غنية لمن له علائق بالهند عن معرفتها . . . وأكثر اللغات الآرية شيوعاً بعد الهندوستانية ، هي الهندية التي يتكلم بها أهالي قسم من الهندوستان نفسها ، والبنجابية التي يتكلم بها أهالي بنجاب والبنغالية التي يتكلم بها أهالي بنغال ، إلخ ” [14] .
وبالإضافة إلى ذلك ، ظهرت وتطورت الدرافيدية القديمة في جنوب الهند ( الدكن ) ، ولا قرابة بينها وبين اللغات الآرية ، بل هي من فصيلة لغوية مستقلة ، وتحتوي على أربع عشرة لغة ، وعلى عدة لهجات ، ومن أهمها : ” اللغة التاميلية ” و ” التيلغوية ” و ” الكنرية ” و ” المليالمية ” ، وأصبحت اللغة التاميلية من بينها أداةً أدبيةً رئيسيةً في الجنوب . كما نمت اللغات الهندية الآرية التي بلغ عددها 27 ، ومن أهمها : الكولية في جهات متفرقة في الشرق والوسط ، والتبتية في أودية همالية ، والكهاسية في قسم من آسام ، والبنغالية في الشرق وغيرها من اللغات المختلفة التي تروجت في أنحاء الهند وخارجها ، وأحاطت بمعموراتها في بطونها ، وزينت أهاليها وأجيالها وشبابها بعلومها وفنونها وآدابها الجميلة ، وفتحت لهم أبواباً جديدةً في كل ميدان من الميادين المختلفة . فقد قال أحد الأدباء البنغاليين : ” مع الإنجليزية دخل النثر إلى الهند ، وحل العقل مكان القافية ” [15] . ويكتب الدكتور جوستاف لوبون بقلمه السيال ” والناس يتكلمون على العموم باللغات الآرية في شمال الهند وقسم من وسطها ، ويتكلمون باللغات الدراويدية في الجنوب ، ويتكلمون باللغات الكولية في جهات متفرقة في الشرق والوسط ، ويتكلمون باللغات التبتية في أودية همالية ، ويتكلمون باللغات الكهاسية في قسم من آسام ” . ويكتب في موضع آخر ” إن في الهند 240 لغة ، نحو 300 لهجة ما عدا اللغة الفارسية التي هي لغة رسمية للقصور الأهلية والمجتمعات الراقية في الهندوستان ، والبهلولية التي هي لغة المجوس ، والصينية التي هي لغة المهاجرين في كلكتة ، واللغات الأوربية التي يتكلم بها في الهند سكان المستعمرات الإنكليزية والبرتغالية والفرنسية . . . إلخ [16] . وقد جاء في مجلة ثقافة الهند عدد مارس 1953م ” إن إذاعة عموم الهند تذيع بست عشرة لغة وعشرين لهجة في إذاعتها المحلية ” .
* رئيس قسم اللغة العربية وآدابها ، كلية بتنة التابعة لجامعة بتنة – بتنة ،salimakhter241@gmail.com
[1] لوبون جوستاف ( الدكتور ) : حضارة الهند ، التعريب ، عادل زعيتر ، الطبعة الأولى ، القاهرة : دار العالم العربي ، 2009م ، ص 445 – 446 .
[2] رينو لويس : آداب الهند ، ترجمة : هنري زغيب ، بيروت – باريس : منشورات عويدات ، 1989م ، ص 6 .
[3] لوبون جوستاف ( الدكتور ) : حضارة الهند ، ص 468 – 471 .
[4] السروري عبد القادر : أردو كي أدبي تاريخ ( التاريخ الأدبي للغة الأردية ) ، سرينغر : غلشن ببلشرز غاؤكدل ، 1981م ، ص 11 .
[5] قصائد المهابهارتا من أضخم آثار العالم الأدبية ، وتشتمل على 215000 بيت من شعر ، وتتألف من خمسة عشر مجلداً عادياً يبلغ مجموع صفحاتها 75000 صفحة . ( حضارة الهند ، ص 453 ) .
[6] تشتمل الرماينا على 48000 بيت من شعر ، ويعتقد النهدوس أن الإله وشنو قد ضعها . ( حضارة الهند ، ص 461 ) .
[7] وهي تحتوي على أكثر من 1000 بيت من شعر .
[8] السروري عبد القادر : أردو كي أدبي تاريخ ( التاريخ الأدبي للغة الأردية ) ، ص 12 و 21 . لويس رينو : آداب الهند ، ص 70 – 72 .
[9] المصدر السابق ، ص 42 و 43 .
[10] إبراهيم سمير عبد الحميد ( الدكتور ) : الأدب الأردي الإسلامي ، الرياض : إدارة الثقافة والنشر ، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، ص 62 – 63 .
[11] الندوي محمد إسماعيل ( الدكتور ) : الهند القديمة حضاراتها ودياناتها ، القاهرة : دار الشعب ، 1970م ، ص 256 .
[12] رينو لويس : آداب الهند ، ص من 106 إلى 114 .
[13] رينو لويس : آداب الهند ، ص 115 – 117 .
[14] لوبون جوستاف ( الدكتور ) : حضارة الهند ، ص 478 – 479 .
[15] رينو لويس : آداب الهند ، ص 104 .
[16] النمر عبد المنعم : تاريخ الإسلام في الهند ، الطبعة الأولى ، القاهرة : دار العهد للطباعة ، 1959م ، ص 21 ، نقلاً عن حضارة الهند ، ص 477 – 480 .