الوعي الإسلامي ومدى ارتباطه بقضية فلسطين
ديسمبر 11, 2023الإسلام والعلم الحديث
يناير 14, 2024التوجيه الإسلامي :
اصطفاء الله لبعض عباده وإكرامه لهم
بقلم : الدكتور غريب جمعة *
كل المؤمنين يعلمون أن خلق هذه الكائنات وعوالمها هو صنعة الله ، وليس ثمة صانع سواه تبارك وتعالى . وهم يعلمون أن كل صانع مهما ضؤُل فإنه يعلم المراد المقصود من صنعته وما يكون .
فما بالك بخالق الوجود الذي علمه شامل وكامل ، ولا يعتريه نقصان أبداً .
ولا ريب أن الله جلت قدرته يعلم أن بعض البشر سوف يتوجهون إليه بإرادتهم طائعين مختارين تضرعاً إليه وتقرباً منه وإخلاصاً له في العبادة ، وصدقاً في الدعوة إليه . وهو سبحانه يشكر لهم ذلك ويصطفيهم بنعمه ومننه وكرامته .
وهذا الاصطفاء سبق به علمه لأنه يعلم أزلاً ما يصدر عن عباده ، وعلم الله لا يتخلف ، والتخلف محال إذ يقتضي أن ينقلب العلم جهلاً ، وذلك محال في حق الله .
وهو لا يتنافى مع حرية الإرادة الممنوحة لهم ، بل هو تأييد لها وأخذ بها إلى الكمال والرشد .
ولو شاء الله لهدى الناس جميعاً واصطفى العباد جميعاً وعندئذ يكون الجبر الذي لا مجال معه لحرية الإرادة التي هي أساس التكليف ومناط الثواب والعقاب .
واصطفاء الله لبعض عباده نعمه كثيرة ، وفضائله لا تحصى وأمجاده كبيرة . واقرأ الآيات التالية لتعرف أثر اصطفاء المولى جلت قدرته لعباده الذين يستحقون ذلك دون سواهم :
يقول تعالى : ( إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ . ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . إِذْ قَالَتِ ٱمْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّى نَذَرْتُ لَكَ مَا فِى بَطْنِى مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّى إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ . فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّى وَضَعْتُهَآ أُنْثَىٰ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلأُنْثَىٰ وَإِنِّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ . فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إنًّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) [ آل عمران : 33 – 37 ] .
والمعنى ( بإيجاز ) :
إن الله اختار آدم أبا البشر : خلقه بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وأمر الملائكة بالسجود له ، وأسكنه الجنة ، وهبط منها لحكمةٍ الله يعلمها واصطفى نوحاً وجعله أول رسول بعث إلى الناس لما عبدوا الأوثان وانتقم له بإغراقهم ونجاته هو ومن اتبعه ، واصطفى آل إبراهيم ومنهم سيد البشر وخاتم الأنبياء ، واصطفى من ذرية إبراهيم آل عمران ، وعمران هذا هو أبو مريم وجد عيسى عليه السلام .
ذرية بعضها من بعض في الفضل والمزية ، فهم خيار من خيار من خيار واذكر وقت أن قالت امرأة عمران – قيل : كان اسمها حَنَّة بنت قاذوذ ، وكانت عاقراً لا تلد – رب إني نذرت لك ما في بطني خالصاً لوجهك ولعبادتك ، لا يشتغل بشيئ آخر سوى خدمة بيتك ، ودعت الله أن يتقبل منها هذا النذر ، إنك يا رب أنت السميع لكل قول ودعاء العليم بنية صاحبه ، وقد كان الله سميعاً لقول امرأة عمران عليماً بنيتها ، ولم تكن تعلم ما في بطنها أ ذكراً كان أم أنثى ، فلما وضعتها قالت متحسرةً وحزينةً : إني وضعتها أنثى ، وذلك أنه ما كان يؤخذ لخدمة البيت إلا الذكور ، لأن الأنثى تحيض وتلد فلا تصلح لهذا ، والله أعلم بما وضعت وبمكانتها وبأنها خير من كثير من الذكور ، وقد تبين ذلك بقوله تعالى : ” وليس الذكر ” الذي طلبت ” كالأنثى ” الذي وضعت ، بل هذه الأنثى خير مما كنت ترغبينه من الذكور .
قالت امرأة عمران : إني سميتها مريم خادمة الرب رجاء أن تكون بأمرك من العابدات ، وإني أستعيذ بالله وأدعوه أن يقيها هي وذريتها من الشيطان وسلطانه عليهما فاستجاب الله دعاءها .
وجعل زكريا – وكأن رجلاً معروفاً بالخلق والتقوى ، وكان زوج خالتها – كافلاً وراعياً لها حتى شبت وترعرعت ، وكان كلما دخل عليها المحراب وجد عندها خيراً كثيراً وفضلاً من الرزق فيقول لها : يا مريم ! أنى لك هذا ؟ قالت : هو من عند الله ، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب [1] .
وهذا الاصطفاء لا يقف عند الأنبياء بل يتجاوزهم إلى ذراريهم وأبنائهم ومن ينهج منهجهم ويلتزم بطريقهم ويقف مواقفهم في الدعوة إلى الله .
وتأمل تاريخ السيدة مريم تجد أنها وصفها الله بأنها من القانتين العابدين ، يقول الله تبارك وتعالى : ( وَمَرْيَمَ ٱبْنَةَ عِمْرَانَ ٱلَّتِيۤ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ ٱلْقَانِتِينَ ) [ التحريم : 12 ] .
ثم يصفها تعالى بأنها صديقة وليست نبيةً بقوله تعالى : ( مَّا ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ ٱلطَّعَامَ ٱنْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ ٱلآيَاتِ ثُمَّ ٱنْظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ) [ المائدة : 75 ] .
ولما كانت صديقةً قانتةً أكرمها الله بكرامات وإن كانت خارقةً للعادة ، ولكنها ليست معجزات لأن المعجزة هي التي تأتي مصدقةً لدعوى النبوة والرسالة وهي لم تدع ذلك .
ولما شاهد سيدنا زكريا ما أغدق الله عليها من كرامات ونعم كبرى امتلكه الولع والشوق والحب لله ورفع يديه إليه سبحانه عالماً بأن من أعطاها هذه الخوارق وأكرمها بها هو قادر على أن يمنحه الذرية على كبر سنه وعقم امرأته وقد أجاب الله دعواته وحقق رغبته تفضلاً منه تبارك وتعالى .
يقول عز من قائل : ( هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِى مِنْ لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ . فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّى فِى ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـىٰ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ . قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِى غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِى ٱلْكِبَرُ وَٱمْرَأَتِى عَاقِرٌ قَالَ كَذٰلِكَ ٱللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ . قَالَ رَبِّ ٱجْعَلْ لِّىۤ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَٱذْكُرْ رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِٱلْعَشِى وَٱلإِبْكَارِ ) [ آل عمران : 38 – 41 ] .
والمعنى ( بإيجاز ) :
دعا زكريا ربه أن يرزقه ولداً صالحاً مثل مريم من ولد يعقوب عليه السلام قائلاً : يا رب أعطني من عندك أولاداً طيبين لأنهم فرحة العين ومجلى القلب ، إنك سميع لقول كل قائل مجيب دعوة كل دعاء صالح . فخاطبته الملائكة شفاها والمخاطب : هو جبريل عليه السلام وذلك أثناء قيامه للصلاة يدعو الله ويصلي في المحراب .
وقالت له : أن الله يبشرك بغلام اسمه يحيى ، مصدقاً بعيسى الذي ولد ونشأ بكلمة الله ( كن ) لا بالطريقة المعتادة من الولادة من أب وأم ويكون سيد قومه وزاهداً يمنع نفسه من الشهوات ونبياً يوحى إليه .
تعجب زكريا من هذه البشارة فقال : كيف يكون لي غلام وقد أصبحت كبير السن وامرأتي عقيم لا تلد ، فأجابته الملائكة : كذلك الله يفعل ما يشاء ، أي مثل هذا الخلق غير المعتاد الحاصل مع امرأة عمران يفعل الله ما يشاء في الكون ، فطلب زكريا من ربه أن يجعل له علامةً تدل على الحمل ووجود الولد منه استعجالاً للسرور أو ليشكر تلك النعمة ، فجعل الله علامة ذلك أن لا يقدر على كلام الناسُ ثلاثة أيام متوالية إلا بالإشارة والرمز بيد أو رأس أو نحوها ، وأمره الله أن يذكر ربه ويكبره كثيراً ويسبحه وينزهه عما لا يليق به طوال الوقت ولاسيما عند الصباح والمساء [2] ، والذي يدلك على أن هؤلاء المصطفين المختارين قد امتلأت نفوسهم بحب الله والتعلق به والعلم بأن ما يأتيهم به من كرامة وخير ورزق هو من عنده وحده جل جلاله ، لذلك أجابت السيدة مريم دون تردد حينما سألها زكريا عن مصدر الرزق الذي وجده عندها – هو من عند الله !! ويتوالى إكرام الله للسيدة مريم فتأتيها البشرى السارة التي ترجوها كل أنثى على لسان الملائكة الكرام ، وتأمل قوله تعالى :
( إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاۤئِكَةُ يٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ . وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِى ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ ) [ آل عمران : 45 – 46 ] .
والمعنى ( بإيجاز ) :
اذكر أيها النبي حين قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بمولود منك من غير أب هو الكلمة أي وجد بكلمة ” كن فيكون ” من الله من غير واسطة بشر اسمه المسيح عيسى ابن مريم ، فهو منسوب إليك ولقب المسيح لمسحه بالبركة أو بالدهن الذي يمسح به الأنبياء وهو ذو جاه في الدنيا بالنبوة وفي الآخرة بالشفاعة وعلو الدرجة ومن المقربين إلى الله يوم القيامة .
ويكلم الناس وهو طفل صغير في المهد ، ( مضجع الطفل حين الرضاع ) وفي الكهولة : ما بعد الثلاثين أو الأربعين إلى الشيخوخة أي يكلم الناس في الحالين بالوحي والرسالة وهو من العباد الصالحين .
ثم يحكي القرآن قولها متعجبةً : ( قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِى وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ قَالَ كَذٰلِكِ ٱللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) [ آل عمران : 47 ] .
والمعنى :
قالت مريم مستبعدةً وذلك بحكم العادة : كيف يكون لي ولد ولم يقربني رجل ؟ فأجابها الوحي بالإلهام : مثل ذلك يخلق الله ما يشاء من العدم بمقتضى قدرته وحكمته وإذا أراد أمراً أو شيئاً أوجده بكلمة ” كن ” فيكون كما أراد [3] وقد حقق الله البشرى التي جاءت في الآية التي مرت بك وهي قوله تعالى : ( وَمَرْيَمَ ٱبْنَةَ عِمْرَانَ ٱلَّتِيۤ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ ٱلْقَانِتِينَ ) [ التحريم : 12 ] .
أي ويضرب الله المثل بحال مريم ابنة عمران أم عيسى عليهما السلام التي صانت فرجها عن الفاحشة فكانت مثال العفة والطهر فأمر الله جبريل أن ينفخ الروح في فرجها أو في جيب قميصها فحملت بعيسى وصدقت بشرائع الله التي شرعها لعباده وبصحفه المنزلة على إدريس وعلى غيره وبكتبه المنزلة عن الأنبياء وهي التوراة والإنجيل ، وكانت من القوم المطيعين لربهم حيث كان أهلها أهل بيت صلاح وطاعة ومن عداد الناسكين العابدين المخبتين لربهم أي كانت من القوم القانتين في عبادتها وحال دينها وقوله تعالى ” من روحنا ” إضافة مخلوقة إلى خالق ومملوك إلى مالك كما تقول بيت الله وناقة الله كذلك الروح والجنس كله هو روح الله [4] .
وهنا لفتة بلاغية تدله على بلاغة القرآن وأنه تنزيل رب العالمين حيث قال في حال زكريا ” كذلك يفعل الله ما يشاء ” وفي حال مريم ” كذلك يخلق الله ما يشاء ” .
وذلك للإشارة إلى أن وجود ولد من شيخين عجوزين ليس كإيجاد ولد من أم فقط بلا أب ، فكان الخلق والإبداع أنسب بعيسى عليه السلام .
وبعد . .
فهذا غيض من فيض عن اصطفاء الله لبعض عباده وإكرامه لهم .
نسأل الله أن يوفقنا للسير على درب هؤلاء المصطفين الأخيار .
* جمهورية مصر العربية .
[1] التفسير الواضح ، المجلد الثاني ، الجزء الثالث ، ص 80 – 81 .
[2] التفسير الوسيط ، المجلد الأول ، الجزء الثالث ، ص 192 .
[3] نفس المرجع السابق .
[4] التفسير الوسيط ، المجلد الثالث ، الجزء 28 ، ص 2695 .