إنا لفراقك يا أخانا لمحزونون !

غوادي مزنة ، أثنى عليها السهل والأوعار
نوفمبر 19, 2023
أجعفر ذلك الردي ؟
فبراير 23, 2025
غوادي مزنة ، أثنى عليها السهل والأوعار
نوفمبر 19, 2023
أجعفر ذلك الردي ؟
فبراير 23, 2025

علم فقدناه :

إنا لفراقك يا أخانا لمحزونون !

الشيخ السيد بلال عبد الحي الحسني الندوي

بقلوب راضية بقضاء الله ، مفعمة بمشاعر الألم والرضا ننعى إلى الأمة الإسلامية والأوساط العلمية والدينية أخانا الحبيب الأستاذ جعفر الحسني الندوي ، نجل العالم الجليل والأديب الكبير الشيخ السيد محمد واضح رشيد الحسني الندوي ، رحمهما الله  . لقد كان هذا الخبر فاجعةً هزّت قلوب محبيه وأصدقائه وأهل العلم والدعوة ، لكنها في ذات الوقت دعوة للتأمل في حكمة الله في قضائه وقدره .

كان أخونا الأستاذ السيد جعفر مسعود الحسني رحمه الله نموذجاً للعالم الرباني الذي جمع بين العلم والعمل ، وبين التواضع وحسن الأخلاق ، وبين الإخلاص والإبداع الفكري .

شاء الله أن تنتهي حياة الشيخ جعفرمسعود الحسني في مشهد أليم ومفاجئ ، وهو في ريعان عطائه العلمي والدعوي . وكان على دراجته النارية ، حين نزل ووقف لبعض شأنه ، فاصطدمت به سيارة مسرعة وأودت بحياته .

كان أخونا الحبيب رحمه الله يشغل منصب الأمين العام لندوة العلماء ، وكان خير مستشار لي في مهام ندوة العلماء التعليمية والإدارية ، ويشد أزري . فكانت وفاته بالنسبة لي مفاجأةً مروّعةً وصدمةً عنيفةً ، أثارت في نفسي هماً بالغاً وحزناً عميقاً .

وكان الفقيد رحمه الله نشأ في كنف أبوين صالحين يدعوان له ليلاً ونهاراً ، وكانا يحوطانه برعايتهما الروحية والدعاء الخالص ، خاصةً أنه كان وحيدهما ، لقد رأيت والدته ، رحمها الله ، تبتهل إلى الله له ، ولا شك أن لصلاح الأبوين أثراً عظيماً في جلب رحمة الله وحفظه للأبناء . يقول الله تعالى : ( وَأَمَّا ٱلْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى ٱلْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً ) [ الكهف : 82 ] .

هذه الآية العظيمة تدل على أن صلاح الأبوين سبب لحفظ الأبناء وازدهارهم .

إن أخانا الأستاذ جعفر رحمه الله لم يكن مجرد عالم ، بل كان مثالاً للغيرة الدينية وحب الخير . لقد كان همه الأول الدين وخدمة الدعوة . وإنه قبل وفاته بساعة واحدة فقط ، قال لنجله خليل : ” تصدق يا ولدي ! بعشر كسبك في سبيل الله ، تجد له بركةً عظيمةً وثمرةً جنيّةً ” .

كانت هذه الكلمات البسيطة تفيض بحكمته وصدقه ، وتُظهر كيف كان الدين حاضراً في كل جزء من أجزاء حياته . لقد كان يؤمن أن الإنفاق في سبيل الله باب للبركة والخير ، وكان يسعى لتوريث هذا الفهم لأبنائه ، كما ورثه هو من كبار أسرته .

هذا الحادث الذي يبدولنا من منظورنا البشري صدمة مؤلمة ، هوفي حقيقته جزء من حكمة الله التي تهيمن على كل شيئ . قال الله تعالى : ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُّؤَجَّلاً ) [ آل عمران :   145 ] .

لقد أضاء الأستاذ جعفر حياته بنور العلم والعمل ، وجعل همه الدعوة إلى الله ، ثم اختاره الله إلى جواره . إن كل شيئ بيد الله ، وهذه الدنيا ما هي إلا رحلة قصيرة إلى دار الخلود .

إن الله سبحانه بحكمته البالغة يختار أحياناً أن يزيل من حياتنا أعظم الدعائم التي كنا نظن أننا لا نستغني عنها ، ليعلمنا أن الركون الحقيقي يجب أن يكون إليه وحده .

فقد قبض الله سبحانه زوجة نبيه الحبيب خديجة بنت خويلد رضي الله عنها التي كانت تؤازره وتشاطره الهموم ، وعمه أبا طالب الذي كان يحدب عليه ويذب عنه ، في أصعب مراحل الدعوة ، ليعلّمنا أنه لا ينبغي لعباد الله الأصفياء الاعتماد على البشر ، وأن النصر الحقيقي يأتي من الله وحده .

هذه الحادثة الأليمة تذكرني بكلمات الشيخ شرف الدين يحيى المنيري ( 1263م – 1381 ) رحمه الله ، حين قال : ” لو أن الله قبض أرواح الصديقين في المفازة ، وترك الغربان والطيور تأكل من عيونهم وأجسادهم ، لما كان لأحدٍ أن يعترض . فإن الله يقول : الصديق لي ، والغراب لي ، فمن هذا الفضولي الذي يعترض على أفعالي ؟ ” .

ما أعمق هذه الكلمات ! فهي تذكّرنا أن أقدار الله ليست عبثاً ولا ظلماً ، بل هي حكمة ورحمة من الله العليم الحكيم .

ومن المشاهد الملموس أنه كلما ازداد إيمان الإنسان بالله وتعمّقت صلته به ، ازدادت طمأنينة قلبه وسكينة نفسه . والإيمان يُنشئ يقيناً بأن كل ما يحدث بتقدير الله وحكمته ، وأن وراء كل مصيبة خيراً قد لا يدركه العبد .

حينما تكون صلة الإنسان بربه قويةً ، يدرك أن الدنيا دار ابتلاء ، والمصايب جزء من هذا الابتلاء . يرى المؤمن في المحن رحمةً خفيةً وفرصةً للتقرب إلى الله بالصبر والدعاء . وهذا الإيمان يُخفف وقع المصايب ويجعلها أهون .

الإيمان القوي يجعل الإنسان لا يتعلق بالدنيا تعلقاً زائداً . يدرك أنها وسيلة وليست غايةً ، وأن الفقدان زائل ، وما عند الله خير وأبقى . بهذه النظرة ، يخف الحزن ، وتصبح المحن أداةً للثبات والتقرب إلى الله .

إن فقد العلماء مصاب جلل ، ولكنه أيضاً دعوة لنا أن نكون أوفياء للإسلام وللغاية الحقيقية ، وهي إعلاء كلمة الله ورفع راية الإسلام . وسيجزي الله كل من أسهم في تحقيق هذه الغاية ، وسيتقبل سعيه بفضلٍ وكرمٍ .

نعم ، إن رحيل العلماء يفتح باباً لتجديد العهد مع الله ، لنكون مشاعل تضيئ الطريق للأجيال القادمة ، كما كان الشيخ جعفر رحمه الله مشعلاً منيراً في حياته .

رحم الله أخانا الحبيب جعفر الحسني الندوي ، وأسكنه فسيح جناته ، وجعل قبره روضةً من رياض الجنة . إننا إذ نحزن لفراقه ، نحتسبه عند الله من الشهداء والصديقين ، ونتطلع إلى لقائه في دار الخلود ، حيث لا حزن ولا ألم ، بل سعادة أبدية في جوار الله .

ونقول : إن لله ما أخذ وله ما أعطى ، وكل شيئ عنده إلى أجل مسمى .