أعتقونا لوجه الله
نوفمبر 22, 2024صور وأوضاع :
إعلان الاستقلال وانعكاساته على سلامة العالم
محمد فرمان الندوي
زار البابا فرنسيس إندونيسيا في بداية شهر سبتمبر عام 2024م ، وذلك لأحد عشر يوماً ، وكانت الزيارة لأربع بلدان في جنوب شرق آسيا : إندونيسيا ، بابوا غينيا الجديدة ، وتيمور الشرقية ، وسنغافورة ، لكن كانت بدايتها من إندونيسيا ، وكانت إقامته في إندونيسيا لثلاثة أيام ، وقد حضر اجتماعه بأكبر ملاعب جاكرتا أكثر من مائة ألف ، رغم أنه كان يُرجى حضور ستين ألفاً فقط ، ولقي البابا فرنسيس البالغ من العمر 87/ عاماً ، في هذه الزيارة إمام مسجد الاستقلال الدكتور كى ايج نصر الدين عمر ، فترأس اجتماعاً للحوار بين الديانات ، نظمته هيئة مسجد الاستقلال ، وكان فيه ممثلو الإسلام ، وبوذا ، والكونفوشس ، والهندوسية والكاثوليك ، والبروتستانت ، كل واحد منهم أبدى في هذا الاجتماع رأيه ، وكانت في الأخير كلمة البابا فرنسيس .
إعلان الاستقلال :
وقال البابا في كلمته : إن الكنيسة الكاثوليكية ستعزز جهودها لإجراء حوار بين الأديان ، يهدف المساعدة في مواجهة التطرف ، وبهذه الطريقة يمكن إنهاء التحذيرات وتحقيق بيئة من الثقة والاحترام المتبادل ، وهذا أمر لا غنىً عنه في مواجهة التحديات المشتركة ، التي تحاول من خلال تشويه الدين فرض آرائها ، باستخدام الخداع والعنف ، وقد شجع البابا جميع سكان إندونيسيا على البحث عن الله ، والمساهمة في بناء مجتمعات مفتوحة ، تقوم على الاحترام المتبادل والمحبة ، والوقوف ضد الصلابة والتطرف ، وقال إمام المسجد الأكبر الدكتور نصر الدين عمر في كلمته : لدينا رسالتان مهمتان : الأولى هي أن الإنسانية واحدة فقط ، والثانية عن كيفية إنقاذ بيئتنا ، والموضوعان مهمان جداً اليوم ، وسُميت هذه الكلمة بإعلان الاستقلال ، نسبةً إلى مسجد الاستقلال بإندونيسيا .
إن زيارة البابوات المسيحية للبلدان والأمصار ليست جديدةً من نوعها ، فإنهم يزورونها حيناً لآخر وفقاً لمصالح شتى ، لكن هذه الزيارة لبابا الفاتيكان في إندونيسيا تمت بعد أكثر من ثلاثين عاماً ، وقد كانت الزيارة الأولى لبابا الفاتيكان السابق عام 1970م ، ثم كانت زيارة ثانية له عام 1989م ، وقد ثبت من الإحصائيات العالمية أن عدد سكان إندونيسيا 280/ مليوناً ، ويشكل المسلمون 87 في المائة ، وتعتبر المسيحية ديانةً ثانيةً في البلاد ، ويعيش سكان جميع الديانات في هذه البلاد بهدوء وطمأنينة ، ورحابة صدر وحصافة عقل ، لا تنشأ هناك مناوشات داخلية كما تنشأ فينة لأخرى في بلدان مختلفة ، ويوجد في هذه البلاد التعايش السلمي والتسامح المتزايد بين جنسيات مختلفة للبلاد ، ورغم ذلك كله أن زيارة البابا هذه تعزز العلاقات الثنائية بين ديانات البلاد ، وتنشر في معتنقيها النصح والمواساة والخير ، وتزيد فيهم المحبة والألفة ، وهذا دليل على أن هذا العصر الذي تتأجج فيه نيران الحروب في البلدان الكثيرة ، ولا تزال تتوسع دوائرها تحت رقابة الدول التي تتولى زمام الأمور كلها في أيديها ، هناك رموز دينية ، وأيقونات بارزة ، وشخصيات روحية لا تزال تأخذ أمور الحروب بجدية ، وتستنكرها استنكاراً شديداً ، وتصدر ضدها قرارات وتوصيات ، وتهتف ببياناتها وكلماتها أن الحرب لم تكن حلاً أبداً لأي قضية ، بل ظلت الحرب دائماً قضية شائكة ، فلا بد من إيقاف الحرب والاشتباك في أي مكان .
نفخة في رماد :
لكن ينشأ هناك تساؤل أن هذه الأمور السلمية التي أراد بابا الفاتيكان إثباتها على أرض إندونيسيا ، وقد شرحها شرحاً وافياً لا غموض فيها ولا خفاء ، أمام الإندونيسيين الآمنين المتسالمين ، هل كانت إندونيسيا في حاجة إليها ، وهل حدثت هناك مناوشات داخلية بين ديانات مختلفة ، أو أثار أحد مواطنيها قضية التطرف والخداع والعنف التي يرد عليها البابا رداً شديداً ، كلا ، فلا يمكن مدى تلمس الأهداف والغايات التي توخاها البابا من خلال كلماته وجولاته في برامج مختلفة بإندونيسيا ، إن هذه البيانات كانت جديرةً بأن توجه إلى هيئة الأمم المتحدة التي كان إنشاؤها بعد الحرب العالمية الثانية لإيقاف الحرب وحفظ الأمن والسلام ، وإنماء العلاقات الودية بين الدول ، وحل المشكلات الدولية ، وفض الخلافات ، وكان الهدف من ورائها أن لا تتكرر أحداث هيروشيما وناجاساكي في اليابان ، لكن هذه الهيئة أصبحت عميلةً للولايات المتحدة ، أو سمساراً لإسرائيل ، إنها تصدر بيانات الشجب والاستنكار على أحداث العالم ، وتكون مكتوفة الأيدي أمام القوى الكبرى ، فكان من اللازم أن يجتمع أبرز الشخصيات الدينية ، وممثلو الديانات في العالم في أوربا وأمريكا ، ويناقشوا أوضاع العالم كله ، ثم يصدروا قرارات أمنيةً للعباد والبلاد ، هذا يكون آنذاك ذا تأثير إيجابي وفعالية كبيرة في تطبيع الأوضاع ، وتهدئة الظروف ، لأن الرموز الدينية مازالت ذات قدسية واحترام في كل ديانة ، وينقاد عامة الناس وخاصتهم لآرائهم ، ويمشون وراءهم ، ويمتثلون أوامرهم ، فلا يكون هذا الاقتراح نفخةً في رماد أو صيحةً في واد ، بل تأتي له نتائج حسنة ، وثمار طيبة ، وبالعكس من ذلك أن شخصية دينية منحازة إلى ديانة خاصة إذا تناولت القضايا العالمية ، وخاضت فيها ، وقدمت فيها اقتراحاتها وتجاربها ، وتمنت أن تتغير الأوضاع والظروف ، وتكون هي مؤثرةً في قلب النظام ، فلا أدري أنها كم تحمل قيمةً لدى القوى الكبرى العالمية ، ويمكن أن تقوم الحجة على الناس ، لكن لا تأتي لها نتائج مرجوة ، فكان الأولى والأهم أن يجمع بابا الفاتيكان رموزاً دينيةً من العالم كله ، ويطرق عليهم موضوع نشر الأمن والسلامة في العالم ، أما زيارة الدول الأربع في دول شرق آسيا ، وإبداء آراء سلمية نحو البلدان على انفراده ، فهذا لا يسمن ولا يغني من جوع .
متى يكون الحوار مجدياً ؟
موضوع الحوار والتفاوض بين الديانات جرى عليه الإسلام في فجر تاريخه ، وهو وسيلة مؤثرة لحل المشكلات ، وحل الخلافات إذا كانت غاية الفريقين تفاهماً مشتركاً ، وقد دعا إليه القرآن الكريم أهل الديانات المختلفة للموافقة على نقاط التعاون والتسامح ، فالوحدة لا تتحقق أبداً مائةً في المائة ، لأن الخلاف طبيعة من الطبائع ، وسنة من سنن الله تعالى ، لكن ركائز التعاون والتعاضد هي التي تقوي الجماعات والمجتمعات ، وتحكم أواصر الحب والمودة بين الناس ، وقد بيّن الإسلام هذه الركائز في قول الله تعالى : ( قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلَمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ ٱشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) [ آل عمران : 64 ] ، وهذه البنود تتضمن صيانة الأموال والأرواح ، والضيعات والممتلكات ، وكلما كان الحوار على هذه الركائز والعناصر كان مبعث خير كثير ، وسلامة تامة .
وفي هذه الأيام ( في شهر سبتمبر 2024م ) تستمر الحوارات والتفاوضات في الدورة التاسعة والسبعين في الجمعية العامة للأمم المتحدة ، وقد حضرها رؤساء الدول وممثلوها ، وهم يدلون بآرائهم ، ويظهرون شجبهم وتنديدهم لمحرقة غزة وإبادة سكانها جماعياً ، حتى وجه رئيس تركيا رجب طيب أردوغان انتقادات لاذعةً إلى إسرائيل ، والدول الداعمة لها ، وقال بكل صراحة : الأمم المتحدة والقيم الغربية ماتت في غزة ، وأن نتنياهو مثل هتلر ، وقال على زيارة نتنياهو الأمم المتحدة : إنها وصمة عار وشنار في تاريخ الأمم المتحدة ، وهل يُسمح له بالحضور في هذه الجمعية ، هكذا أبدى رؤوساء الدول تنديداتهم على قضية غزة ولبنان ، لكن لا تحرك هذه الكلمات سواكن الزعماء والقادة ، الواقع أن الحوار والمفاوضة لا يجدي شيئاً في هذه الأمور ، لأن الحقد والضغينة التي يحملها المناوئون لا يرضى بهذه الاقتراحات ، يقول الشيخ السيد محمد واضح رشيد الحسني الندوي في مقاله حول : الحوار لا يُجدي إلا إذا كان بين فرقاء متساوين : ” لقد ظهرت دعوة الحوار في عام 1977م للمؤلف الفرنسي روجيه جارودي قبل إسلامه ، ولكن دعوة الحوار وإن كانت تطابق طبيعة العصر الذي يدعو إلى التفاوض لحل المشاكل ، لم تنل القبول ، لأن الغرب لم يكن مستعداً للحوار مع المسلمين ، لأنه ورث الحقد للإسلام ، ولا يريد أن يتخلى عن هذا الإرث ، ولأن المكتبة الغربية معمورة بمؤلفات الحاقدين للإسلام ، ولا يمكن تغيير التفكير إلا بتصفية هذه الأكداس الملوثة ، وعلى عكس هذه الدعوة شاعت دعوة صدام الحضارات لصمويل هنغتون ، فأقبلت الأقلام الغربية على بحثها ، لأنها كانت تلائم طبيعة تفكير الغرب وموقفه إزاء الإسلام والحضارة الإسلامية ” ( إلى نظام عالمي جديد : 305 ) .