إطلالة على موقف المستشرقين من القرآن الكريم

رحلة إلى الأردن بين المقدسات والمعالم ( الحلقة الرابعة )
يناير 28, 2025
شعر ألطاف حسين حالي في ضوء الكلمات القرآنية دراسة وصفية
فبراير 23, 2025
رحلة إلى الأردن بين المقدسات والمعالم ( الحلقة الرابعة )
يناير 28, 2025
شعر ألطاف حسين حالي في ضوء الكلمات القرآنية دراسة وصفية
فبراير 23, 2025

دراسات وأبحاث :

إطلالة على موقف المستشرقين من القرآن الكريم

بقلم : د . محمود حافظ عبد الرب مرزا *

بسم الله الرحمن الرحيم ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين ، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :

فمن المسلّمات أن المستشرقين ومنذ بزوغ فجر الإسلام لا يزالون يبذلون قصارى جهدهم من أجل تشويه صورة الإسلام والمسلمين ، وذلك بغية الحد من انتشار الإسلام في مختلف بقاع العالم . ولقد ركّز المستشرقون جُلّ تركيزهم على مصدر هذا الدين وأساسه ، ألا وهو القرآن الكريم فسعوا بكل ما أوتوا من قوة وجهد لهدم هذا البنيان القوي بالطعن والتشكيك في مصدره وجمعه وتدوينه وسوره وآياته ، ولم يدخروا وسيلةً أو منهجاً إلا وظفوه لذلك من خلال ما يسمى بـ : ” وضع السم في الدسم ” . وبما أن الله سبحانه وتعالى قد تكفل بالحفاظ على القرآن الكريم قائلاً : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) [1] ، فإن المساس به بات أمراً مستحيلاً ، فلا مجال لتحريفه أو الانتقاص منه بشكل مباشر ، فما كان منهم إلا أن لجأوا إلى سلاح آخر ، ألا وهو التلاعب بمعانيه من خلال إعداد ترجمات لمعاني القرآن الكريم إلى لغاتهم المختلفة ، والعمل على تزييف الحقائق وترجمة نصوصه ترجمة غير صحيحة عمداً وحقداً وعناداً ، حتى تتحقق غايتهم وأهدافهم الشرسة المتمثلة في تنفير الناس أو على الأقل شعوبهم منه بكل سهولة .

فعلى الرغم من أن المستشرقين يتصفون ، وعلى حد زعمهم بقيامهم بإجراء دراسات وأبحاث موضوعية وبناءة مبنية على أسس علمية متينة ، وذلك في مختلف مجالات الحياة ، إلا أننا نجدهم يتخلون حتى عن الضوابط المنهجية البسيطة لإجراء الأبحاث العلمية والقواعد التنظيمية ، وكأنهم لا صلة لهم بالأبحاث العلمية النزيهة ، وذلك حينما يتعلق الأمر بالإسلام أو القرآن الكريم أو سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ؛ حيث كان من دأب طائفة كبيرة من المستشرقين البحث عن مواضع الضعف في الشريعة الإسلامية ، وإبرازها لأجل غاية سياسية أو دينية ، ناهيك عن إثارة شبهات حول الإسلام ومصادره من حين لآخر .

ومن بين هؤلاء المستشرقين الذين ارتكبوا مثل هذه الخيانة العلمية والفكرية ، عدد لا يحصى ، فمن بين مترجمي القرآن الكريم الغربيين ، ألكسندر روس ( Alexander Ross ) ( 1592م – 1654م ) ، وجورج سيل ( George Sale ) ( 1697م – 1736م ) ، وريتشارد بيل         ( Richard Bell ) ( 1876م – 1952م ) ، وإيه . جيه . دروغي ( A. J. Droge ) ( مواليد عام 1953م ) ، وجيه . إيم . رودويل ( J. M. Rodwell ) ( 1808م – 1900م ) ، وجي . إيس . رينولدز ( G. S. Reynolds ) ( 1936م – 1987م ) ، وإين . جيه . داوود ( N. J.  Dawood ) ( 1927م – 2014م ) وغيرهم . ومن بين الأدباء الذين كان شغلهم الشاغل طمس الهوية الإسلامية الربانية ومسخها ، هم : دانتي ( Dante ) ( 1265م – 1321م ) ، وويليام شكسبير ( William Shakespeare ) ( 1564م – 1616م ) ، واللورد بيكون ( Bacon ) ( 1561م – 1626م ) ، وهمفري بريدكس     ( Humphery Prideaux ) ( 1648م – 1724م ) ، وفولتير ( Volatire )   ( 1694م – 1778م ) ، وغوته ( Goethe ) ( 1749م – 1832م ) ، وآنا ماريا جونز ( Anna Maria Jones ) ( 1748م – 1829م ) ، وغيرهم .

وبغض النظر عن الدور الذي اضطلع فيه المستشرقون للإساءة إلى الإسلام وتنفير الناس منه ، إلا أنه ظهر على مسرح الوجود بعض العلماء والمحققين الذين امتازوا برحابة الصدر وسعة النظر وسلامة القلب ، فسعوا إلى أداء الأمانة العلمية على خير وجه ، مع أنهم وقعوا أيضاً فريسةً لبعض المغالطات ، سواء فيما يتعلق بالقرآن الكريم أو النبي صلى الله عليه وسلم أو الإسلام الذي بلّغه للناس ، وعلى رأسهم ثوماس كارليل     ( Thomas Carlyle ) ( 1795م – 1881م ) ، ومايكل هارت ( Michael Hart ) ( مواليد عام 1932م ) ، وجون أدير ( John Adair ) ( مواليد عام 1913م ) ، وويليام إيم . وات ( W. M. Watt ) ( 1909م – 2006م ) وغيرهم .

لقد بات أمراً ملحاً على المسلمين وخاصةً المثقفين منهم القيام بدراسة جادة وموضوعية بغية إدراك مساعي العلماء الغربيين وكيف أصبح شغلهم الشاغل الإساءة إلى الإسلام وتشويه صورته ، وطمس هويته ، وذلك لدحض آرائهم الخاطئة وتفنيدها والكشف عن دسائسهم ، وضرورة وقف التيار الغربي الزاحف في مجال القضايا القرآنية ، وإبراز الحقائق التي تتعلق بالإسلام ، والعمل على إعداد جيل يرد عليهم بألسنتهم وبطريقة علمية موضوعية وبأسلوب علمي نزيه ، حتى لا يخلو شبر من العالم بأسره بعيداً عن الحقائق راضخاً تحت وطأة التنفير من الإسلام بدون علم ، يقول الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله :

” إنه ولسد تأثير المستشرقين السلبي وإصلاح هذا الفساد يجب أن يقوم علماء الإسلام ورجال البحث والتفكير بالكتابة حول الموضوعات العلمية ويقدموا للعالم الإسلامي المعلومات الإسلامية المؤكدة ، ووجهة نظر الإسلام الصحيحة . . . ” [2] .

لم يعد يخفى على كل ذي بصيرة الدور الحيوي الذي تؤديه عملية الترجمة في نقل حضارات الشعوب وثقافاتها ، ناهيك عن تعزيز التفاهم بين الشعوب العالمية المختلفة . وغني عن القول أيضاً بأن الترجمة في حد ذاتها قد تكون أداة بناءٍ وإصلاح ، وذلك إذا ما التزم المترجم بالأمانة العلمية ولم يقم بالخيانة فيها ، واختار ما يصلح للترجمة اختياراً سليماً ، وقد تكون الترجمة معول هدم إذا لم تستغل في نقل الفضيلة وتجنب الرذيلة والتركيز على ما ينفع الناس ،لأنه وفي بعض الأحيان ، نجد أن خطأً في الترجمة من شأنه إشعال فتيل الحرب بين البلدان العالمية ، وقد يجعل القنابل النووية تتساقط على المدن لتعمل على نشر الفساد في الأرض وتهلك الحرث والنسل .

لقد سلّط كبار الباحثين الضوء على مجمل السياسات والأهداف والغايات من وراء الترجمة ؛ بحيث تعكس الترجمة إلى حد ما آراء المترجم نفسه فضلاً عن أفكاره ، واتجاهاته ، واعتقاداته . ولقد تأثرت سلسلة ترجمات معاني القرآن الكريم بهذه السياسة أيضاً . ومنذ ظهور أول ترجمة إنجليزية للقرآن الكريم عام 1649م إلى حيز الوجود ، فإنه ومنذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا ، كانت معظم الترجمات الإنجليزية لمعاني القرآن الكريم عُرضةً للتعصب الأيديولوجي . وصدر حتى عام 2018م حوالي 150 ترجمة للقرآن الكريم ، من بينها 15 ترجمة تعتبر ثمرةً لجهود المستشرقين ؛ بحيث لا تكمن أهمية هذه الترجمات من حيث الكمية فحسب ، بل من خلال تأثيرها الراسخ على القرّاء الملمين باللغة الإنجليزية [3] .

وبما أن الترجمات الغربية تقوم بنشرها المطابع الغربية الشهيرة ، تجدها تتوافر بكل سهولة في معظم المكتبات ومحلات بيع الكتب . ومنذ القرون الوسطى وحتى الآن ، كان موقف الغرب تجاه القرآن الكريم يتسم بالكراهية والعداء والحقد المنطوي على المناظرات والجدل ، وأنكر القسيسون الغربيون وأصحاب الكنائس العقيدة الإسلامية المتمثلة في أن القرآن الكريم هو كلام الله عز وجل أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم ، بل ظلوا متمسكين بآرائهم المختلفة فيما يخص القرآن الكريم ، والتي تنم عن مكائدهم الفاسدة وسعيهم الدؤوب لأجل تنفير الناس منه والتخفيف أو الاستهزاء منه بغية بلبلة الأفكار وتضليل الناس . ومن ادّعاءاتهم الباطلة بخصوص القرآن الكريم ما يأتي :

  1. القرآن الكريم هو مجرد مجموعة من أفكار محمد صلى الله عليه وسلم المبعثرة وعقائده .
  2. القرآن الكريم ليس محرفاً عن الكتاب المقدس أو مقتبساً منه فحسب ، بل مسروق منه ، لأن معظم أجزائه تشمل الأحداث المندرجة فيه .
  3. القرآن الكريم يخلو من كافة الأنظمة ، ومحتوياته معقدة وغير مفهومة .
  4. القرآن الكريم يُحرّض على القتال والحرب ضد غير المسلمين وخاصة اليهود والنصارى .
  5. إنه كتاب تابع لفرقة مسيحية ضالة ومضلة .
  6. أسلوب القرآن الكريم ركيك جداً ، بل لا يعدل أسلوب أدباء العصر الجاهلي ، فضلاً عن الأخطاء النحوية واللغوية والبلاغية فيه .

وتتضح هذه التعصبات في ترجمات القرآن الكريم الغربية بكل وضوح ، مما يُحرم القرّاء الملمين باللغة الإنجليزية من الإلمام بجوهر رسالة القرآن الكريم وإدراك إعجازه ومعرفة غاياته . وبسبب عدائهم للإسلام ، أخفى المستشرقون الحقائق ، وشنوا حملات الافتراءات ضده .

لقد كان ألكسندر روس ( Alexander Ross ) ، هو أول من قام بترجمة القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية عام 1649م [4] ، وسميت ترجمته بـ ” The Alcoran of Mahomet ” أي ( قرآن محمد ) ، وذلك جرياً على عادة المستشرقين ، ليوهم القارئ بأن القرآن الكريم ليس بوحي من الله سبحانه وتعالى ، بل هو من تأليف محمد صلى الله عليه وسلم ؛ حيث كان هذا المترجم يتولى منصب وزير الشؤون الدينية لملك إنجلترا ، تشارلز الأول ( Charles I ) . وقبل أيام من نشر هذه الترجمة ، قامت الحكومة بفرض الحظر عليها خوفاً من نيل القرآن الكريم قبولاً واسعاً لدى المجتمع البريطاني . ولإزالة هذا الخوف قام روس بإضافة بعض الملحقات في ترجمته لتهدئة روع الحكومة والقرّاء على حد سواء ، مفادها أن دين الأتراك لن يكون له أي تأثير على المجتمع المسيحي الراسخ في إنجلترا بسبب زيفه الواضح . وعلاوة على ذلك ، قام بإضافة ملحقين وعنوانهما : ” حياة محمد ووفاته ” ، و ” التفسير لمن يشتاق إلى قراءة القرآن للحكمة والنصيحة ” . ولا يشتمل هذان الملحقان إلا على اتهامات باطلة وبهتان عظيم [5] .

ومما لا ريب فيه ، فإن روس قد ارتكب خطأين فادحين آخرين ، أولاً : نسب تأليف القرآن الكريم إلى النبي صلى الله عليه وسلم . ثانياً : عرّف المسلمين والأتراك بكونهما مترادفين ، ووصف القرآن الكريم بأنه كتاب ديني يخص الأتراك . ووفقاً لهنري ستوب ( Henry Stubbe ) ، الفيزيائي والكاتب البريطاني فإن ترجمة روس مليئة بالأخطاء ؛ حيث قام بتغيير أو حذف بعض الآيات القرآنية . والمثير للدهشة هو أن المستشرقين اللاحقين مثل سيل ( Sale ) وزويمر ( Zwemer ) وغيرهما أكدوا أن روس لم يكن يعرف العربية إطلاقاً . علماً بأن حقيقة ترجمة روس هي أنه قام بنقل ترجمة أندريه دو راير ( Andre du Ryer ) الفرنسية الصادرة عام 1647م إلى الإنجليزية فقط [6] . ويُعدّ عمل روس ممثلاً مثالياً لمؤلفات المستشرقين المعادية للإسلام ، بمعنى أن كل عيوبهم واضحة فيه ، مثل الجهل بمصادر الإسلام الأساسية ، والعقل الجدلي ، ومجرد الخبث والحقد والعداء للإسلام والمسلمين ، وبذل كافة الجهود الممكنة لتضليل القرّاء وتنفيرهم من الإسلام .

ويتمثل هدف جورج سيل ( George Sale ) ( 1697م – 1739م ) من ترجمة القرآن الكريم في : أن ” هناك حاجة ماسة لتصحيح خطأ أولئك الذين يظنون أن القرآن الكريم يحتوي على شيئ مفيد وإيجابي ، مع أن القرآن الكريم ليس إلا مجرد كذب وافتراء ” [7] ، والعياذ بالله ، حيث يقول جورج سيل :

” أما أن محمداً كان في الحقيقة مؤلف القرآن ، والمخترع الرئيسي له ؛ فأمر لا يقبل الجدل ، وإن كان من المرجح مع ذلك أن المحاولة التي حصل عليها من غيره في خطته لم تكن معاونةً يسيرةً ، وهذا واضح في أن معاونيه لم يتركوا الاعتراض عليه لذلك ” [8] .

ويتضح أسلوب فكره المعاند للإسلام من وراء ترجمته للقرآن الكريم من خلال السطور التالية التي ذكرها في مقدمته : ” إن أعداء المسيحية أو الذين لا يُلمون بتعاليمه بتاتاً ، هم الذين بإمكانهم أن يتأثروا بالتزييف العلني لدين الإسلام . فثمة حاجة ماسة إلى فضح هذا الاحتيال . وتمتاز الطائفة البروتستانتية بردها للقرآن الكريم ، فالمشيئة الإلهية اختصت هذا الشرف لهذه الطائفة ” [9] .

وعند تحليل هذه الترجمة ، أشار مهر علي إلى أن سيل قام بترجمته على أساس ترجمة مراسي ( Maracci ) اللاتينية [10] . وبذل سيل ما في وسعه لإثبات زيف القرآن الكريم وبطلانه . ونقلت ترجمته الإنجليزية إلى العديد من اللغات الأوروبية الأخرى . ومما يعكس أهمية هذه الترجمة ، أنه ومنذ أن ظهرت لا يكاد يخلو كتاب أو مقالة نشرت في أوروبا أو في الولايات المتحدة الأمريكية في موضوع القرآن الكريم إلا واشتملت على اقتباس من ترجمته [11] .

وعلى عكس روس ، كان جورج يجيد العربية ، ولكن الكراهية والحقد ضد الإسلام غشى عينيه إلى درجة أنه قام عمداً بترجمة نص القرآن الكريم بشكل خاطئ في عدة مواضع . فعلى سبيل المثال ، قام بترجمة الخطاب القرآني المشهور ” يا أيها الناس ” إلى ” يا أهل مكة ” و ” يا أهل العرب ” ، في محاولة فاشلة لتقييد الخطاب العالمي للقرآن الكريم ورسالته إلى المنطقة العربية أو للناطقين بالعربية فقط . وورد في سورة البقرة الآية رقم : 191 بأن الفتنة أشد من القتل ، فقام سيل بترجمة الفتنة إلى عبادة الأصنام ، حتى يطرأ على القارئ انطباع بأن الإسلام لا يتسامح مع وجود غير المسلمين ، وأن هدفه الوحيد هو إبادتهم . وهذا يعني أن وصف الإسلام بالإرهاب ليس جديداً . وفي سورة المائدة الآية رقم : 12 وردت نصيحة تتمثل في ضرورة قرض الله قرضاً حسناً ، ولكن سيل وصفها بأنها عمل ربوي . وعلى الرغم من إدراكه للحكم البديهي بحرمة الربا في الإسلام فإن تفسير سيل للآيات القرآنية وشرحها تظهر عدائه للإسلام [12] .

تعتبر ترجمة القرآن الكريم للقسيس جون ميدوس رودويل ( J. M. Rodwell ) من لندن ، واحدة من سلسلة الحملات المناهضة للإسلام . والدافع الرئيسي وراء هذه الترجمة يتمثل في تنصير المسلمين . وفي هذه الحالة ، فإن تحقيق نجاح أكبر في هذا الصدد لا يمكن إلا من خلال إثبات أن القرآن الكريم مبني على الروايات والقصص المسيحية الأصلية . والأمر المثير للدهشة هو أن رودويل قد انحرف عن ترتيب القرآن التوقيفي المعتمد والمعمول به ، ورتّب الآيات القرآنية وفق تاريخ نزولها ، واعتبر أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو من وضع القرآن وألفه . يقول الدكتور وجيه حمد عبد الرحمن : ” ولعل السر في إقبال المستشرقين على ترجمة رودويل وتنويههم بها يرجع إلى بدعة أحدثها في المنهج القرآني المألوف ، حيث رتب السور ترتيباً زمنياً حسب نزولها ، فبدأ بسورة العلق واختتم بسورة المائدة ، وزعم أن هذا الترتيب التاريخي يرسم صورةً صحيحةً واضحةً لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم العقلية ، والتطورات في النظريات القرآنية [13] .

ولقد استهزأ رودويل بمحتويات القرآن الكريم واستخفّ بها . فعلى سبيل المثال ، الآية رقم : 2 من سورة الروم ، والتي تنبأ بهزيمة الروم ومن ثم وصولهم إلى السلطة بعد سنوات قليلة كانت محل سخرية وافتراء بشكل خاص على أساس أنه لم يتم وضع الإعراب على كلمة ” غلبت ” عمداً في هذه الآية ، لاشتقاق المعنى المطلوب منها فيما بعد في كلتا الحالتين انتصار الروم أو هزيمتهم وإثبات هذا التنبؤ كدليل على صدق الإسلام [14] .

وعلى الرغم من أنه ، مثل سلفه جورج سيل ، كان يجيد العربية ، إلا أن عقله المثير للفتن فسر المصطلح القرآني ” عبد ” على أنه ونظراً لإيمان عدد قليل فقط من العبيد في مكة والحجاز بالقرآن الكريم ، فإن القرآن الكريم قد وجَّه هذا الخطاب إليهم . وعلى الرغم من هذه الأخطاء الصارخة فقد صدرت لهذه الترجمة أكثر من خمسين طبعة ، ولعبت هذه الترجمة دوراً بارزاً في تنفير أهل الغرب من الإسلام ، والقرآن الكريم وتعزيز الكراهية والحقد [15] .

ومقتفياً أثر رودويل ، قام ريتشار بيل ( Rechard Bell ) ( 1876م – 1952م ) بالانحراف عن الترتيب التوقيفي للقرآن الكريم . فقد كان بيل قسيساً لمدة من الزمن ، وركّز أول مؤلف له بعنوان : ” Origin of Islam in its Christian Environment ” أي ( نشأة الإسلام في بيئته المسيحية ) الصادر عام 1926م ، على إبراز تأثير المسيحية على الإسلام . وقام بيل بتحديد الإضافات في النص القرآني . وبناءً على رأيه ، وذلك على سبيل المثال ، الآيات رقم : 206 – 208 من سورة البقرة ليست جزءاً من القرآن الكريم . ولكن وردت في القرآن الكريم لعدم اهتمام الكاتبين . ولقد انتقد المستشرق ألفريد غيوم ( Alfred Guillaume ) جهود بيل قائلاً : لا أخاف من الاعتراف بأن بيل قد أساء إلى نص القرآن الكريم بصورة لا أستطيع أن أستخدم ترجمته ؛ حيث إنه وبناءً على رأيه الشخصي وبطريقة ذاتية جداً ، قام برفض الآيات وإسقاط بعضها وإخراج بعض العبارات القرآنية من النص ، فهذا لا يمكن أن يدرج تحت فئة التحليل ونقد النص . فالقارئ حتماً سيكون على حق في الانطباع بأن هذا الشخص يفتقر إلى الاعتدال والتوازن بشكل كامل [16] .

يعتبر نسيم جوزف داوود ( N. J. Dawood ) ، من مواليد عام 1927م [17] ، اليهودي الوحيد الذي قام بترجمة القرآن الكريم إلى الإنجليزية عام 1956م ، وهي ترجمة مضللة هي الأخرى . وأسوة بغيره من المستشرقين ، نسب داوود القرآن الكريم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم واعتبره مؤلفاً له ، وأصرّ على أن نص القرآن الكريم منتحل من العهد الجديد . وإضافة إلى ذلك ، وصف داوود الإسلام والمسلمين بأنهم محاربون ومتعطشون للدماء . وقبل بدء الترجمة ، أدرج داوود أيضاً تاريخاً موجزاً للأحداث الهامة التي جرت في حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم المباركة والتاريخية ، ولكنه لم يذكر فيها إلا الغزوات وخروج اليهود من المدينة فقط . ومن الملاحظ أن هذه الترجمة الإنجليزية المتوافرة بسهولة مليئة بالأخطاء والهفوات [18] .

لقد ظلّ الموقف الجدلي للمستشرقين مستقراً إلى يومنا هذا . ومثال ذلك ، ترجمة ألان جونز ( Alan Jones ) الذي ظهر إلى حيز الوجود عام 2007م ؛ حيث كان يتولى منصب البروفيسور في اللغة العربية الكلاسيكية في جامعة أكسفورد الشهيرة . وقدّم جونز كلما سنحت له الفرصة انطباعاً سلبياً عن الإسلام والمسلمين والشعارات الإسلامية . وموقفه الرئيسي كان يتمثل في أن القرآن الكريم نسخة مشوهة من الكتاب المقدس ، وغير منظم ، ولا يحث إلا على العداوة ضد غير المسلمين . ووفقاً لجونز فإن القرآن الكريم لا يحتوي إلا على التحريض على العداء ضد غير المسلمين ، وأن كل آية من آياته تشجع القارئ على القتال والحرب ، فقام بغض النظر عن كافة النصائح والوصايا الإيجابية والأمور المفيدة الموجودة في القرآن الكريم [19] . كما يعترض جونز على أسلوب القرآن الكريم ونمطه أيضاً ، ويرى أن العديد من المصطلحات والتراكيب القرآنية هي غامضة أو غير واضحة ، ومعقدة ولا معنى لها .

ويتضح من خلال ترجمة جونز جانباً من التعصب الأيديولوجي ، فهذا الأستاذ الغربي الذي يُدرّس في إحدى أشهر الجامعات العالمية يُعلن بغطرسة أن هذا القرآن الكريم باطل لا قيمة له ، مع أنه يُعتبر كتاباً مقدساً للمليارات من المسلمين من جهة ، وتحفة فنية نادرة للغة العربية وآدابها من جهة أخرى .

إن ما يثير القلق بشدة هو أن جونز يُغرس في أذهان قرّائه مفهوماً سيئاً وخطيراً للغاية عن المسلمين من خلال وصف كل سورة قرآنية بأنها مصدر العنف ، وهذا يثبت أن الترجمات المدفوعة بالتحيز الأيديولوجي ستكون لها عواقب خطيرة للغاية .

إن الترجمة المعنونة بـ : ” The Quran: An New Annotated Translation ” أي ( القرآن : ترجمة مشروحة جديدة ) لـ إيه . جيه . دروغي ( A. J. Droge ) هي أحدث الترجمات الاستشراقية التي نشرت في عام 2014م ، وهي عبارة عن ترجمة متحيزة . وتخلق ترجمة دروغي انطباعاً يتمثل في أن القرآن كتاب ملتبس بشكل غريب ، لا نظم فيه ولا ترتيب ولا مخطوطة موثوق بها ، بل إن النص الموجود حالياً مشوه ومحرف . ولقد كرّر في الترجمة التي تشتمل على 488 صفحة لأكثر من 90 مرة على أن القرآن الكريم لغز محير . ويذكر في كثير من الأحيان             ” مصاحف أخرى ” ويعتبر وجودها دليلاً قاطعاً على قوله ، بيد أنه لا يذكر مصدره ولا مرجعه ناهيك عن التفاصيل [20] .

وخلاصة القول أن معظم الترجمات الاستشراقية ترمي إلى ترسيخ مفاهيم خاطئة عن القرآن الكريم مدعية بأن القرآن الكريم من صنع البشر ، ساعية إلى تجريده من صفته السماوية ، فضلاً عن الادّعاء بأن القرآن الكريم يخاطب العرب دون سواهم من البشر بهدف التقليل من عالمية الرسالة الإسلامية . ولا مراء في أن ترجمات معاني القرآن الكريم التابعة للمستشرقين والملوثة بطابع التحيزات الأيديولوجية تُقدّم شكلاً غريباً للقرآن الكريم لا يمكنك التعرف عليه بتاتاً ، وتخلو من الموضوعية والتجرد والنزاهة العلمية وتنفصل تماماً عن سياق الحياد والواقعية . وبهذه الطريقة ، فهي تحرم القارئ من حق الوصول إلى الرسالة الأصلية للقرآن الكريم ومعرفة غايتها . فهل يحق لهذا النوع من المؤلفات الرديئة أن يطلق عليها ترجمات ؟ وهل يحق للمترجم أن يجعل النص المترجم غير جدير بالثقة تحت تأثير آرائه المتحيزة ؟ فالإجابة واضحة والدليل على ذلك بين ، وليس لنا إلا إماطة اللثام عن وجوه هؤلاء المستشرقين ، وأن نبين لهم باسم العلم زيف ما يدعون ، ونرد على مثل هذه التحيزات والتعصبات بكل جرأة وبطريقة علمية نزيهة وأسلوب يؤكد على حقانية القرآن الكريم وعمومية رسالته وأن الخلاص والنجاة الحقيقة تكمن في هذه الآية القرآنية ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ) [21] . والله على ما نقول وكيل .

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

* أستاذ اللغة العربية وآدابها ، جامعة الله آباد ( الهند ) .

[1] سورة الحجر ، آية رقم : 9 .

[2] الإسلام والمستشرقون ، دار المصنفين أكاديمية شبلي ، أعظم جراه ، يوبي ، الهند ،    ص 9 .

[3] القدوائي ، البروفيسور عبد الرحيم ، الإسلام في عيون الغرب ( اسلام اہل مغرب کی نظر میں ) بالأردية ، إدارة التحقيق والتصنيف الإسلامي ، علي جراه ، 2023م ، ص 101 .

[4] القدوائي : البروفيسور عبد الرحيم ، الإسلام في عيون الغرب ( بالأردوية ) ، ص 165 .

[5] القدوائي : الإسلام في عيون الغرب ( بالأردوية ) ، ص 102 .

[6] ماتر نبيل : ( Alexander Ross and the First English Translation of the Quarn ) ، أي           ( ألكسندر روس وأول ترجمة إنجليزية للقرآن ) مسلم ورلد ، 88 : 1 ( يناير 1998م ) ،    ص 85 .

[7] الندوي ، د . عبد الله عباس : ترجمات معاني القرآن الكريم وتطور فهمه عند الغرب ، سلسلة دعوة الحق ، رابطة العالم الإسلامي ١٤١٧هـ ، العدد ١٧٤ ، ص ٤٤ .

[8] اللبان ، إبراهيم : المستشرقون والإسلام ، مجمع البحوث الإسلامية ، سنة ١٩٧٠م ،      ص 44 .

[9] سيل ، جورج : ( The Koran ) ، لندن ، جيه . ويلكوكس ، ص 4 .

[10] القدوائي : الإسلام في عيون الغرب ، ص 103 .

[11] العليلي ، أ . م . د . حيدر مجيد حسين : الآراء الموضوعية للمستشرق جورج سيل في سيرة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في مقدمته التاريخية لترجمته للقرآن الكريم ، مجلة كلية التربية للعلوم الإنسانية ، جامعة ذي قار ، المجلد 13 ، العدد 2 ، ص 396 .

[12] القدوائي : الإسلام في عيون الغرب ، ص 109 – 110 .

[13] الدكتور وجيه حمد عبد الرحمن ، وقفة مع بعض الترجمات الإنجليزية لمعاني القرآن الكريم ، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف ، 2012م ، ص 8 .

[14] القدوائي : الإسلام في عيون الغرب ، ص 111 – 112 .

[15] القدوائي : الإسلام في عيون الغرب ، ص 111 – 112 .

[16] غويم ، ألفريد : ( Review on the Koran Interpreted ) ، مسلم ورلد ، 47 : 1 ( 1957م ) ، ص 248 .

[17] إين جيه داؤود ( N. J. Dawood ) ، ( The Koran ) ، لندن ، بنغون ، 1956م .

[18] القدوائي : الإسلام في عيون الغرب ، ص 115 .

[19] ألان جونز ( Alan Jones ) ، ( The Quran Translated into English ) ، لندن ، غيب ميموريل ترست ، 2007م .

[20] الإسلام في عيون الغرب ، ص 105 .

[21] سورة البقرة ، آية رقم : 208 .