رسل الله في خاتم كتبه السماوية ( الحلقة الأولى )
مارس 24, 2025رسل الله في خاتم كتبه السماوية ( الحلقة الثانية )
أبريل 28, 2025التوجيه الإسلامي :
إسهام الإسلام في عهد العلم والحضارة المعاصرة
الإمام الشيخ السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله
رقي أوربا مدين بالإسلام :
يقول رابرت بريفارت ( Robert Briffault ) في كتابه : ( Humanity The Making of ) ” ليس هناك جانب من رقي أوربا إلا وعليه منة المدنية الإسلامية ، وطابعها العميق ” .
وأضاف قائلاً : ” ليست العلوم الطبيعية وحدها ( التي لا تنكر منة الإسلام عليها ) مسؤولةً عن حياة أوربا الجديدة ، ووجود روح جديدة فيها ، بل خلفت المدنية الإسلامية آثاراً عميقةً على حياة أوربا ، ويبدأ ذلك العهد من العهد الذي بدأت فيه الأشعة الأولى للمدنية الإسلامية والحضارة الإسلامية .
يقال كثيراً : إن النشأة الثانية لأوربا هي ثمرة لإحياء الفكر اليوناني ، لكن المؤرخ الشهير ( H.G. Vells ) يرفض أن القوة والعلم قد حصل عليهما العالم عن طريق اليونان ، فيقول : إنَّ العلم الذي كان بدأه اليونانيون ، ثم ودعوه ، وتخلوا عنه ، أقبل عليه العرب ، بحماس جديد ، وعاطفة جديدة ، وجعلوه موضوعاً لهم ، وتبنوه ، وقاموا بتهذيبه ، وتنقيحه .
إذا كان اليونانيون مبتكرين للاكتشاف العلمى للحقيقة ، كان العرب مهذبين ؛ لأنهم قاموا بتسهيله ، وشرحوه شرحاً سائغاً ، وحلوه بألفاظ وكلمات موزونة وملائمة ، ونقد إيجابي ، إنهم كانوا العرب لا اللاطينين ، الذين منحوا العالم الجديد هديةً غاليةً ثمينةً للعلم والقوة [1] .
تفوق المسلمين العلمي الماضي ودورهم الرائد في العلوم النافعة والتجريبية :
إنني أستطيع أن أدعي في ضوء دراستي للتاريخ أن المسلمين لم يقوموا بتأسيس دول واسعة كبيرة فحسب ، بل كانوا يمتازون أيضاً عن الأمم الأخرى بالعناية بالعلوم والبراعة في الفنون ، وكانوا يتفوقون عليها من كل جانب ، وقد أنجبت الأمة الإسلامية في جميع العصور نبغاء ذاع صيتهم ، وطبقت الآفاق شهرتهم في التعمق في الدراسة ، والرغبة في العلم ، والتأليف فيه بإخلاص .
وبرز في القرن الأول عدد كبير من أئمة الفكر من المسلمين ، بالإضافة إلى المفسرين ، والمحدثين ، والفقهاء الذين لا يوجد لهم نظير في التاريخ العلمي الإنساني ، كان لا يدانيهم أحد من علماء الأمم الأخرى .
لم يحصر المسلمون دائرة علومهم في العلوم الدينية من التفسير ، والحديث ، والفقه ، وأصول الفقه ، والدراسة المقارنة للأديان والمذاهب فحسب ، بل أبدوا براعتهم في علوم حديثة كثيرة ، وخدموها خدمةً جليلةً كالجغرافية ، والطبيعة ، والهندسة ، والطب ، والكيمياء ، والتاريخ ، والنباتات ، والمدنية ، وقاد معظمهم العالم في هذه العلوم والفنون إلى قرون طويلة ، وخلفوا آثاراً ورسوماً لا تطمس أبداً .
نذكر هنا بعض هؤلاء العلماء المسلمين ؛ لأن استقصاء جهود جميع هؤلاء العلماء يحتاج إلى مجلدات ضخمة ، ويستغرق وقتاً طويلاً .
أئمة العلوم وواضعو العلوم من المسلمين :
الخوارزمي ( م 850/226 ) ، هو أول من ألف كتاباً عن الجغرافية العالمية ، ويليه محمد بن محمد الإدريسي ( م 1153/560 ) الذي بيَّن في كتابه : ” الممالك والمسالك ” : الطرق التجارية للعالم الإسلامي مع عرض خريطتها الجغرافية .
ألف ابن الهيثم ( م 1093/431 ) حوالي مائتي كتاب ، سبعة وأربعون منها ألفت حول موضوع العلم الرياضي ، وثمانية وخمسون عن الهندسة ، وهو أول من قدَّم اقتراحاً لبناء سد أسوان ، واكتشف اكتشافات مفيدةً في علم البصارة ، وعرض في كتابه ” المناظر ” : نظريةً عن الإدراك البصري ، فقال : ” إن البصارة تنحصر على الأشعة التي تعود بعد الاصطدام بها ” .
محمد بن موسى الخوارزمي ( م 850/226 ) هو أول من أضاف الصفر في العدد ، وقام بتعيين مكانة الأعداد ، وهو الذي اخترع الجبر .
وكان البتاني ( م 929/317 ) الذي سماه الغرب بالبتيني ( Albategni ) أو الباطنيوس ( Albatenus ) كان بارعاً في الفلكيات ، وهو الذي قام بتقدير عوج الخسوف تقديراً صحيحاً ، وقام باكتشاف مدة السنة الشمسية ، والفوارق في الموسم ، ومحور الشمس الأوسط ، ورفض اعتقاد بطليموس أن محور الشمس لا يتحرك .
أبو بكر محمد الرازي ( م 937/311 ) الذي دعاه الغرب بـ ريزز ( Rhazes ) كان أكبر طبيب ، بالإضافة إلى أنه كان فيلسوفاً عظيماً ، وكيمياوياً أريباً ، وقدم في كتابه الشهير ” الحاوي ” : استعراضاً للطب اليوناني ، والمصري ، والعربي القديم ، والهندي .
كانت لابن البيطار ( م 1248/646 ) اليد الطولى في الأدوية في عصره ، وذكر في كتابيه ” المغني في الأدوية و ” الجامع لمفردات الأدوية ” علامات للأمراض المختلفة ، وذكر أربع مائة من الحيوانات ، والنباتات والمعادن بإطناب وتفصيل من قبل نفسه ، أو على أساس مشاهدة 150 من البارعين .
أبو علي ابن سينا ( م 1037/428 ) الذي عرفه الغرب بـ آوي سينا ( Avicena ) ألف على موضوع الفلسفة كتابه الشهير ” النجاة ” و ” الشفاء ” ، وعلى موضوع الطب كتابه : ” القانون في الطب ” ، وعلى علم النفس ” أحوال النفس ” ، وقد اشتهر بمائتين وواحد وثلاثين كتاباً ، ويقال : إن مائة وعشرة كتب أخرى تنسب إلى غيره هي من تأليفه ، وتقدر مكانته في الطب أن كتابه في الطب ظل كتاباً منقطع النظير مدة خمسة قرون ، أي : إلى أواخر القرن السابع عشر للميلاد ، وكان حجةً في موضوعه .
ومن هؤلاء الأعلام ، أو نجوم العلم اللامعة ابن خلدون ( م 1406/808 ) الذي كان أكبر عالم للعلوم الاجتماعية ، والذي لفت الانتباه إلى البحث عن القوانين التي توجه الإنسانية ، ولفت الاهتمام إلى العلوم الاجتماعية قبل الفيلسوف الغربي كومتي ( Comte ) بخمسين سنة .
ولمع في هذه السلسلة العلمية اسم أبي ريحان البيروني ( م 105/443 ) لسعيه المشكور ، الذي كانت له اليد الطولى في الطبيعة وما بعد الطبيعة ، والأدوية ، والكيمياء ، والجغرافية ، والتاريخ ، بصفة خاصة ، وهو والعالم المسلم الآخر ابن الهيثم أساس البحوث العلمية لأوربا المعاصرة .
كارثة علمية تاريخية :
قبل أن أنتهي من هذا البحث أريد أن ألفت نظركم إلى هذه الحقيقة الثابتة الأساسية ، ينبغي لنا ألا ينسى الإنسان أنه خليفة الله في الأرض ، وليس بذاته مصدراً للعلم ومنبعاً له ، إنما هو خليفة الله في الأرض ، يعمل بما يرضيه ، ويمتثل أوامره ، وينتهي عن نواهيه ، وذكر القرآن الكريم تعليم الأسماء لآدم – عليه السلام – بعد أن ذكر تمكينه في الأرض ، واستخلافه فيها ، وذلك يدل على أنه كان مأموراً باستخدام علمه كخليفة الله في الأرض .
كانت المأساة الكبرى لتاريخ العلم بل لتاريخ العالم أن نسي الإنسان أنه كان خليفةً لله ، وكانت مسؤولية العالم تقع على كاهله ، ولم يبعث إلى هذه الدنيا سيداً ومالكاً يستخدم خزائن الأرض داخلها وخارجها للمصلحة الذاتية والقومية ، والعنصرية ، والطبقية ، أو لإحراز التفوق السياسي .
كان يوماً سيئاً مشؤوماً اختار فيه الإنسان هذا الطريق المؤدي إلى الدمار والهلاك .
يستطيع هذا الشعور بأن الإنسان خليفة الله في الأرض ، ولم يكن خالقها ومالكها أن يسيره على الصراط المستقيم ، لأن المعرفة بهذه الحقيقة هي التي تستطيع أن تردعه من الحرية المطلقة .
انقطاع صلة العلم عن مالكه فتنة عظيمة في الحقيقة ، وقد نال الإنسان العلم وبرع فيه ، لكنه نسي خالق العلم .
أقول لكم بكل صراحة وأنا أعتذر إلى العلماء والقادة السياسيين في أوربا وأمريكا ، وإلى كل من يفتخر بحضارة الغرب : أن الإنسان وقع في خطأ كبير عندما اعتبر نفسه مالكاً أصيلاً للعلم ، ومستقلاً وحراً ، لما نسي بداية أمره ؛ نسي غاية حياته ، وهدفها الحقيقي .
وأقول لكم بكل شعور بالمسؤولية : إن الإنسان لا ينجح في تغيير ظروف العالم وإصلاحها إذا لم يعترف بأنه مخلوق محض يقدم إلى خالقه ويسأل عن أعماله ، وعليه أن يعتقد بأنه يقوم على جانب علمه ، والله سبحانه وتعالى خالق العلم يقوم على جانبه الآخر .
فإذا انقطعت هذه الصلة ؛ نسي الإنسان هدف خلقه ، وتحولت الدُّنيا إلى ساحة قتال ، ومجزرة للإنسانية ، وتكون فيها سيطرة لإهانة الإنسانية ، وغلبة لأصناف الظلم والعبودية .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
[1] The Making of Humanity P.202.