إبراهيم عليه السلام وبيت الله الحرام

من وحي الحرب على غزة ( الحلقة الثانية الأخيرة )
مايو 4, 2024
قصة موسى والخضر عليهما السلام ، وما لها من دروس
يونيو 4, 2024
من وحي الحرب على غزة ( الحلقة الثانية الأخيرة )
مايو 4, 2024
قصة موسى والخضر عليهما السلام ، وما لها من دروس
يونيو 4, 2024

التوجيه الإسلامي :
إبراهيم عليه السلام وبيت الله الحرام
الإمام الشيخ السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله
حديثنا اليوم حديث عن عصر قد مضى عليه بضعة آلاف من السنين ، عصر عريق في القدم ، ولكن لم يخلِّف عصر من العصور الماضية من الآثار الباقية الخالدة على وجه البساطة ، وفي أعماق النفوس ، وأغوار القلوب ، وجذور العقيدة ، وصفحات الحضارة مثل ما خلَّف هذا العصر ، إنه عصر كثرت فيه الدول والحكومات ، وازدهرت فيه المدنيات والحضارات ، وقامت فيه القصور الشامخة ، والأبنية الباذخة ، فلكل أمة دولة ، ولكل دولة عاصمة ، ولكل ملك ” بلاط ” ولكل أمير قصر ، ولكل إله وآلهة معبد ، ولكل كوكب ” هيكل ” ، عصر قد قامت فيه دولة الآلهة والكواكب ، ونفقت فيه سوق الكهانة والسدانة ، ولكنه عصر قد تجرد عن شيئ واحد ، تجرد عن رجل مؤمن شجاع يقول بملء فيه ، وبأعلى صوته : ” ألا لله الدين الخالص ” وتجرد عن مركز روحي لا يعبد فيه إلا الله ، ولا يُدعى منه إلا إلى الله ، مركز يجتمع حوله المؤمنون الموحدون في أنحاء العالم ، وتتفجر منه عين الإيمان والتوحيد ، فيفيض في سهول الأرض وحزونها ، وفي أغوارها وأنجادها .
لقد وجد هذا الرجل المفقود في شخص إبراهيم : ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّهُ قَانِتَا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاط مُستَقِيم ) [ النحل : 120 – 121 ] رجل أكرمه الله برسالته ، واصطفاه بخلته ، ( وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ) [ النساء : 125 ] ثم أمره أن يبني له بيتاً يظل مركزاً روحياً للإيمان ، والتوحيد ، وعبادة الله وحده ، والدعوة إلى الله ، ومثابةً للناس وأمناً .
ولكن أين يقوم هذا البيت ؟ إنَّ الحواضر والعواصم التي تزدهر فيها المدنية ، ويكثر فيها الخصب ، وتنفق فيها التجارات ، ويجذب إليها جمال الطبيعة ، وزينة الصناعة كثيرة ، ولكن اقتضت حكمة الله أن يقوم هذا البيت في واد غير ذي زرع ، لا طبيعة فيه ، ولا صناعة ، فلا يشد الرحال إليه إلا المؤمنون الموحدون ، ولا يقصده من أنحاء العالم إلا المخلصون المتجردون ، ووقعت الخيرة على مكة التي لا ماء فيها ، ولا كلأ ، ولا زرع فيها ، ولا ضرع ، واد ضيق بين جبال سود جرداء ، لا طبيعة تغري ، ولا صناعة تستهوي ، ولا تجارة تشوق ( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَابِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) [ الحج : 26 ] .
لقد أتم إبراهيم عليه السلام عمله في صدق ، وإخلاص ، وحماسة ، وإيمان ، وشاركه في ذلك ولده المؤمن المخلص نبي الله إسماعيل بن إبراهيم ( وإذ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) [ البقرة : 127 ] .
لقد قام هذا البيت كما أراد الله ، واجتمع حوله كل ما يزهد الناس في السكنى حوله ، وقصده من أنحاء بعيدة ، ومن أقاصي البلدان ، فلا تجارة ، ولا صناعة ، ولا عذوبة ماء ، ولا رقة هواء ، ولا حسن مظهر ، ولا جمال منظر ، ولكن الله قد قضى أن يكون هذا البيت هو البيت الوحيد الذي يبقى على طول الزمان ، ويُقصد على بعد المكان ، لا يضارعه في ذلك قصر ملكي ، ولا معبد ديني ، يسعى إليه الناس بشق الأنفس ، وعلى الأقدام والأرؤس ، وتأتيه الوفود كل عام من أقصى المعمورة ( وأذن في النَّاسِ بِالْحَجَ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ . ليَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ . ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) [ الحج : 27 – 29 ] .
لقد أصبح هذا البيت الكريم شعاراً لله تعالى ، وحرمةً من حرماته ، ورمزاً للتوحيد والعبادة ، فمن عظَّمه ؛ فقد عظَّم حرمات الله ، ومن أهانه ؛ فقد أهان شعائر الله ، وإن أعظم رسالة بهذا البيت هي رسالة التوحيد الذي قام على أساسه ، فليحافظ على ذلك ، وليتفهمه كل من قصده ، وطاف حوله ، ونسك ، وذبح ( ذَلِكَ وَمَن يُعَظِمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَمُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ . حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ . ذَلِكَ وَمَن يُعْظِّمْ شَعَائرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ) [ الحج : 30 – 32 ] .
لقد أحب الله النسك وإراقة الدماء في الذبح في هذه الأيام ؛ لأنه عبادة وشعار من شعائر التوحيد ( وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) [ الحج : 36 ] ، ولكنه يقرر أن روح هذا النسك والذبايح والأضاحي هو إرادة وجه الله ، وامتثال أمره ، وتوحيده ، ليست هذه الدماء المهراقة واللحوم المبضعة ( لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ) [ الحج : 37 ] .