أيُنقص الدين و أنا حي ؟

التوجيه الإسلامي :

أيُنقص الدين و أنا حي ؟ *

الإمام الشيخ السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله

أيها الإخوان ! أقول لكم : إن الأشياء الكفيلة الضامنة لنجاح الدعوة إنما هي عوامل معدودة ، أستطيع أن ألخصها في عاملين أساسيين :

أولهما : أن تملك الفكرة وتهيمن على مشاعر الداعي ، وأن تجري منه مجرى الروح والدم ، وأن تمتزج بنفسه ، هنالك يكون الداعي هو الداعي الموفق الملهم ، المؤيد من الله الذي سيكتب له النصر ، ولا يكتب له أي إخفاق أو فشل .

فالشرط الأول ألا تكون الدعوة صناعةً أو حرفةً أو فناً ، وألا تكون حذلقةً ومجرد براعة في الخطابة ، بل تكون عقيدةً وفكرةً ، وإيماناً يستحوذ على النفس الإنسانية ، ويملأ جميع جوانب النفس ، حتى إذا أراد الإنسان أن يتخلى عنها لم يستطع ولم يقدر ، هذا كان شأن سيدنا أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – يوم الردة ، هل تستحضرون الكلمة الخالدة التي نطق بها والتي غيرت مجرى التاريخ ؟!

طُلب مني أن ألقي الكلمة الأخيرة في المؤتمر الآسيوي الإسلامي الأول في كراتشي ، وأمامي نخبة من قادة الفكر الإسلامي ، ومن قادة العالم الإسلامي ، فاستعنت بهذه الكلمة ، وقلت لهم : ما هي تلك الكلمة التي ستكون رائدة هذا المؤتمر ، فيحملها الذين يتصرفون من هذا المؤتمر ؟ قلت لهم : إن الكلمة التي تحملونها من هنا هي الكلمة التي جرت على لسان أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – يوم الردة ، ومنع الزكاة : ” أينقص الدين وأنا حي ؟ ” .

أنتم المسؤولون أمام الله يا إخوتي الطلبة ! أبنائي شباب المسلمين والعرب ، أنتم مسؤولون أمام الله ، درستم في هذه الجامعة المباركة ، وأي مكان أقرب إلى مدرسة الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى صفة المسجد النبوي التي درس فيها كبار الصحابة ، وحفظوا ، ووعوا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتخرج منها مثل أبي هريرة راوية الحديث، ووعاء من أوعية العلم ، أي جامعة أقرب إلى هذه المدرسة من هذه الجامعة ، إذا فمن أي جامعة تتوقع أن يخرج منها دعاة تملكهم الدعوة ؟!

والله لو استطعت أن أنقش هذه الكلمة على صدر كل واحد منكم لفعلت ، يا ليتها كانت هذه الكلمة مكتوبةً في كل بيت على لوحة بقلم عريض : ” أينقص الدين وأنا حي ؟ ” .

أما الشيئ الثاني : فهو التجرد عن المطامع ، والزهد في الدنيا ، لا أعني به زهداً نصرانياً ، ولا زهداً رهبانياً .

( وَرَهْبَانِيَةُ ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ ) [ الحديد : 27 ] .

ولا رهبانية في الإسلام ، ولكن الدعوة تحتاج إلى شيئ من سمو النفس وعلو الهمة ، والتجرد عن المطامع ، والزهادة في المناصب والوظائف الكبيرة .

إن من توجهون إليهم الدعوة إذا علموا أنكم تنافسونهم في ملكهم ، وفيما وسع الله به عليهم ، فإنهم يشكون في إخلاصكم ، ويكونون حرباً عليكم ، فأوضحوا لهم أنكم لستم طلاب ملك ، ولا منتجعي جاه ومنصب ، ولا رواد ثروة ورخاء ، أو مدفوعين من شح وحرص .

قيل لشيخ الإسلام ابن تيمية : يقال : إنك تريد الملك ، فقال في دهشة وقوة : أنا أريد الملك ؟! والله إن ملك التتار لا يساوي عندي درهماً ، وقد كانت دولة التتار أكبر دولة ، وأكبر قوة على وجه الأرض في ذلك الحين .

وإن أحد المربين في الهند الذي نفع الله به خلقاً كثيراً ، عرض عليه ملك دهلي مالاً طائلاً ، فقال له : لا شأن لي به ، قال : لا بد من أن تقبل شيئاً مما أعطاني الله ، فقال : إن الله سبحانه وتعالى يقول : ( قُلْ مَتاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ ) [ النساء : 77 ] فإذا كانت الدنيا كلها قليلة : فقارة آسيا – طبعاً – أقل منها ، والهند أقل منها ، ثم دهلي أقل منها ، وأنت لا تملك إلا هذا ، فكيف أرزؤك في هذا الزهيد اليسير ؟!

وأحكي لكم قصةً وقعت في دمشق ، كان الشيخ سعيد الحلبي من كبار الأساتذة والمربين في القرن الماضي ، وكان – مرةً – يلقي درساً في جامع من جوامع دمشق ، فجاء إبراهيم باشا – الحاكم العام لسورية – وإبراهيم باشا من تعرفونه في القسوة والعنف – ودخل ووقف أمام الباب ، وكان الشيخ يشكو ألماً في رجله ، وكان ماداً رجله إلى الأمام ؛ لأنه كان مستنداً إلى جدار المحراب ، ويلقي الدرس ، فكانت رجله إلى الباب ، فدخل إبراهيم باشا ومعه المحافظون العسكريون ، والشرطة ، فانتظر وتوقع أنه سيقبض رجله ، ولكنه لم يفعل ، وخاف أصحابه عليه من السيف ، وقبضوا ثيابهم لئلا يصيبها دم زكي ، دم عالم تقي ، وبقي إبراهيم باشا واقفاً ، ثم رجع ، وأرسل صرةً من دنانير ذهبية مع أحد الخدم ، وقال : تقدم إلى سيدنا الشيخ سعيد الحلبي ، وتقول له : هذه هدية من إبراهيم باشا ، فلما جاء بها الخادم إليه قال كلمته البليغة الحكيمة التي هي أبلغ من ألف قصيدة ، قال : قل لسيدك : إن الذي يمد رجله لا يمد يده .

فالإنسان مخير ، إما أن يمد رجله وإما أن يمد يده ، فإذا مد رجله لا يسوغ له أن يمد يده ؛ لأنه تناقض .

وقد جُبل الناس على حب من زهد فيما عندهم والبغض لمن ينافسهم فيما يحرصون عليه ، هذه هي الطبيعة البشرية منذ آلاف السنين ولا تزال ، فأنتم إذا أردتم أن تؤثروا في نفوس من توجهون إليهم الدعوة ، فأوضحوا لهم أولاً ، وطمئنوهم أنكم لستم طلاب ملك ومال وطلاب رئاسة وجاه ، وطلاب مناصب ووظائف ، إنما أنتم تفعلون ذلك شفقةً عليهم ، ورقةً بهم ، وعطفاً عليهم ، وخوفاً من أن يصيبهم مكروه .

أنا تليمذ صغير لتاريخ الإصلاح والتجديد ، وإن هواياتي – وإن كانت متعددةً – ولكن تأتي في مقدمتها هوايتي في التاريخ ، وخاصةً تاريخ الإصلاح والتجديد ، فما رأيتُ تجربةً في القرون الأخيرة – أعني : بعد القرن الثامن على الأقل – أنجح وأكثر توفيقاً من تجربة الإصلاح والتجديد التي قام بها الشيخ أحمد السرهندي في القارة الهندية ، وقد حكيت قصته في الجزء الرابع من كتابي : رجال الفكر والدعوة ، وستقرؤون هذه القصة بالتفصيل هناك .

تقرؤون فيه أنه كيف استطاع الرجل الأعزل المجرد من كل سلاح ، والمجرد من كل ثروة مادية ، والمجرد من كل جيش ، أن يحول التيار في الإمبراطورية المغولية العظمى التي كانت في الدرجة الثانية بعد الإمبراطورية التي لم تكن إمبراطوريةً – بعد الإمبراطورية العثمانية – أكبر منها مساحةً ، وأكثر منهما فتوحاً ونجاحاً ، كان على رأسها الملك القوي القاهر الذي اتسعت له الفتوحات الواسعة العظيمة ؛ وهو جلال الدين أكبر ، وكان هذا الإمبراطور نشأ في قلبه عداء للإسلام ، وحقد عليه ؛ لأنَّ مَنْ ينحرف عن الإسلام ، ويثور عليه أقبح وأشد من الذي نشأ في الكفر ، كما حكيت لكم في حديثي بالتفصيل في محاضرتي بعنوان : ” عاصفة يواجهها العالم الإسلامي والعربي وفي هذه الجامعة نفسها ، ولأن الذي يخرج من النور إلى الظلام يكون أعمش ، وأقل إبصاراً من الذي نشأ في الظلام ، ثم إنه يُصاب بمركب النقص .

فكان الإمبراطور جلال الدين ، نشأ فيه عداء شديد للإسلام ، ومن الأمثلة على ذلك أنه ما كان يستطيع أحد في بلاطه أن يُسمي ابنه محمداً ؛ لأنه كان يكره هذا الاسم ، فترك الناس التسمية بهذا الاسم ، وكان من يذبح بقرةً في عهده يعاقب بالقتل ، وكان قد فتح الخمارات ، وشجع الناس على شرب الخمور ، وأكل لحم الخنزير ، وكان قد تأثر بالبرهمية والوثنية الهندية . كان يتجه بالمملكة إلى الطابع الهندي البرهمي ، والفلسفة الهندية القديمة [1] .

هنالك قيض الله – تعالى شأنه – لمكافحة هذا التيار ، ومقاومة هذه الفتنة العظيمة الشيخ أحمد السرهندي ( 971 – 1034هـ ) فجلس في ركن من أركان بيته ، وبدأ يفكر في شق الطريق لمكافحة هذا التيار ، فجعل يراسل الملك وأهل البلاط ، من الوزراء الكبار ، والأمراء العظام ، ويثير فيهم النخوة الإسلامية ، والحمية الدينية ، ويقول لهم : يا جماعة ، أنتم مسلمون وأولاد المسلمين ، وقد شرفكم الله تعالى بنعمة الإسلام ، ورغم ذلك نرى أتباع محمد صلى الله عليه وسلم – وهو حبيب رب العالمين – أذلاء في هذه البلاد التي فتحها المسلمون ، وأراقوا عليها أزكى دمائهم ، وصرفوا لها أفضل عبقرياتهم ، وأحسن مواهبهم كيف تحتملون هذا الوضع ، وكيف ترضون بذلك يا عباد الله ؟!

صار يثير فيهم كامن الإيمان ، ويُحرّك فيهم العرق الإسلامي الذي لا يخلو منه قلب أي مسلم ، وما زال يثير فيهم النخوة الإسلامية ، ويواصل العمل ، وبقي هكذا مدةً طويلةً يراسل ، ويكتب ، ويقابل حتى كسب عدداً من الأمراء ، فكانوا أنصاره وتلاميذه ، ومات جلال الدين أكبر ، وخلفه ابنه نور الدين جهانكير ، وطلبه إلى بلاطه ، ولم يسجد له الشيخ تعظيماً كما كانت العادة في البلاط ، فسجنه فبقي في السجن سنتين ، ثم أمره بأن يبقى في المعسكر ، ويرافقه لمدة ثلاث سنين ، فصبر على هذه الحالة ، وعرف جهانكير أنه من طراز آخر ، وأنه عالم رباني مخلص ، زاهد في الدنيا محب للخير فأحبه وأجله ، وبدأ يهتم برفع شعائر الإسلام وبناء المساجد في المناطق والقلاع التي كان يفتحها ، واحترام الإسلام والمسلمين .

ولم تزل تجري اتصالاته بالأمراء المسلمين وكبار الوزراء ؛ حتى كوَّن مجموعةً مؤمنةً ذات حمية دينية ، فقلَّب التيار ، وغيَّر مجرى التاريخ ، فكان جهانكير أفضل من أبيه أكبر ، وكان ابنه شاهجهان أفضل من أبيه جهانكير ، ومما يدل على ذلك أنه لما صنع له عرش الطاووس ، الذي صرف عليه الملايين ، وتربع عليه نزل بعد هنيهة ، وقال : لقد كان فرعون سفيهاً ، إنه جلس على عرش آبنوس ، وادعى الألوهية ، وقال :    ( أَنَا رَبُّكُمُ الأعلى ) [ النازعات : 24 ] ولكني أنا مسلم ، ثم سجد الله شكراً ، ثم جلس على العرش .

وخلفه أورنك زيب عالمكير ، ذلك الذي دوَّن الفتاوى الهندية ، وطبق الأحكام الشرعية ، ونصب الجزية على الهندوس ، وكان من أفقه الملوك الذين عرفناهم في العصور الأخيرة ، ومن أغير الملوك على الإسلام ، ومن أكثر الناس حرصاً على اتباع السنة لا تفوته جمعة ولا جماعة ، وحفظ القرآن الكريم ، وجمع أربعين حديثاً ، وشرحها .

كل ذلك بجهود رجل واحد فقير أعزل ، ولكنه تملكته العقيدة ، وسيطرت عليه الفكرة ، وتشبثت به الغاية النبيلة ، حتى أصبح لا يملك نفسه ، ولا يقدر على التحول من موقفه ، وقد أثبت للملوك أنه لا يريد الملك ، وقال لهم : إذا صلحتم أنتم فأنتم أولى للحكم ، لا أشاطركم ، ولا أنافسكم في ملككم ، وأدعو الله تعالى لكم بالتوفيق والنجاح ، وخذوا أنتم الزمام بأيديكم ، وطبقوا الأحكام الشرعية ، وتوجهوا بهذه البلاد إلى الإسلام .

هذان عاملان أساسيان في رجال الدعوة : أحدهما : تملك الفكرة وسيطرتها على نفسه ، والثاني : التجرد عن المطامع الدنيوية ، والزهد في المناصب ، والملك .

وأكتفي بذلك ، وأرجو أن يكون هذا بلاغاً للمستمعين النبهاء الأذكياء أبنائنا أبناء الجامعة الإسلامية ، وعسى الله أن ينفعنا جميعاً لما فيه خير الإسلام والمسلمين .

وأعود لأقول لكم : إنه ينبغي أن تكون كلمتكم الرائدة :       ” أينقص الدين وأنا حي ” ؟!

والسلام عليكم ، ورحمة الله وبركاته ، وآخر دعوانا : أن الحمد لله رب العالمين .

* ألقى العلامة الندوي هذه الكلمة في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ، في شهر ربيع الأول سنة ( 1400هـ ) ، وحضرها طلاب الجامعة وأساتذتها والمسؤولون عنها في عدد كبير . وقد رأس الحفل سعادة الدكتور عبد الله الزايد ، نائب رئيس الجامعة .

[1] راجع للتفصيل محاضرة العلامة الندوي في هذا الجزء بعنوان ” الدعوة الإسلامية في الهند وتطوراتها ” .

أعتقونا لوجه الله
نوفمبر 22, 2024
صانع التاريخ ، وليس من صنع التاريخ
ديسمبر 23, 2024
أعتقونا لوجه الله
نوفمبر 22, 2024
صانع التاريخ ، وليس من صنع التاريخ
ديسمبر 23, 2024