أوربا وإخفاقها في إسعاد الإنسان

أعمال الإنسان في الدنيا والآخرة
فبراير 7, 2023
القرآن الكريم وافتراءات النصارى
مارس 14, 2023
أعمال الإنسان في الدنيا والآخرة
فبراير 7, 2023
القرآن الكريم وافتراءات النصارى
مارس 14, 2023

التوجيه الإسلامي :

أوربا وإخفاقها في إسعاد الإنسان

بقلم الإمام الشيخ السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله

ادعى علماء الغرب أنَّ المجتمع الإنساني المتمدن يمكن ، لا بل يجب أن يقوم على غير أساس الإيمان ، وتعاليم الأديان ، والقيم الخلقية ، والرسالات السماوية . إنَّه يستطيع أن يقوم على أساس العلم والتنظيم . والصناعة والاقتصاد ، والوعي السياسي ، والقومية ، والوطنية ، والاتفاقات ، والتعهدات الاجتماعية الدستورية ، وإن المجتمع يسعد ويترفه بالوسائل والآلات التي تمنحها علوم الطبيعة والكيمياء ، وتسخير الكون والطبيعة لصالح الإنسان ورغباته وطموحه ، وتذليل العقبات التي كانت نتيجة الجهل للعلوم الكونية والطاقات البشرية ، وإن سر شقاء الإنسان في العصر الماضي صعوبة التعارف ، والتفاهم بين أعضاء الأسرة الإنسانية في أنحاء الأرض ، وفي مختلف القارات والأقاليم .

لقد ألح الغرب على هذا المعنى ، وتحمس له تحمس المؤمنين الجدد ، وكان هتافه ” لا إله ، ولا دين ، ولا غيب ، ولا إيمان ، ولا روح ، ولا أخلاق ، ولا آخرة ” ، إنما هو حسن وتجربةٌ ، أو لذة أو منفعة ، أو قومية ووطنية ، أو غريزة وعاطفة ، أو ديموقراطية ، أو جمهورية ، أو اشتراكية وشيوعية ، وبرز في الميدان أئمة هذه الفلسفات ، وأبطال هذه الدعوات . وتلاميذهم ، ومعارضوهم على اختلاف فلسفاتهم ونزعاتهم ، وكثرة مذاهبهم ، وتوزعوا العالم الغربي ، وخضع لهم كل شيئ ، وازدهرت مدارسهم مدةً طويلةً ، ولا تزال تسيطر على العقول ، والآداب ، ومراكز السياسة ، ودور الاختبار ، والمجتمع الأوروبي المعاصر قد اقتبس من هؤلاء ، وتأثر بمجموعهم في قليل أو كثير ، وآمن بالقدر المشترك بينهم ، وهو ” المادية ” .

منحت أوربا فرصةً لتحقيق هذه المبادئ التي آمنت بها في سخاء وحرية لا نظير لها في تاريخ الحضارات ، وهي أطول فرصة مع أعظم مقدار من الآلات ، والوسائل ، والتسهيلات ؛ التي تمنح القيادات في التاريخ على يد عمالقة نوابغ عبقريين في العلم والاختبار ، والتنظيم والإدارة ، وليست على وجه الأرض قيادة تعارض هذه القيادة ، أو دولة قوية تعرقل سيرها ، وقد وضعت الكنيسة النصرانية أوزارها قديماً أمام طموح أوربا المادي والفكري ، والنهضة العقلية الوثابة ، التي لا قبل لها بها ، وخضع الشرق الإسلامي لغزواتها السياسية ، والفكرية في القرن التاسع عشر المسيحي ، وخَلا لها الجو ، ودان لها العالم بشرقه وغربه ، وشماله وجنوبه .

لقد أمكن أوربا المادية أن تبرز جميع مواهبها ، وأن تمثل ” المادية ” على المسرح العالمي في جو مليئ بالهتاف ، والتصفيق ، والتأييد ، والتصديق ، فإذا كان لمسرحية في العالم أن تنجح كان ذلك لهذه المسرحية التي يمثلها أبرع رجال في أوفق أحوال .

ولكن ماذا كان ؟ أخفقت هذه المسرحية التي كانت حصيلة أذكى عقول بشرية ، وأغنى قرايح إنسانية في أهدافها ومراميها إخفاقاً لم يعرفه التاريخ .

عداء داخلي ، وخارجي ، صراع بين الأفراد والطبقات ، والشعوب ، غيوم الحرب الكثيفة التي تغشى العالم كله ، وبركان متهيئ للانفجار الأدنى  مناسبة ، ونذر صارخة لنهاية البشر الأليمة ، وفقدان الثورة والهدوء والأمن العاطفي ، وتسلط الذعر والفزع على الأعصاب ، وقلق دائم ، وتفسخ خلقي كبير يتخطى القياس ، وفراغ روحي هائل لا يملؤه شيئ ، وسآمة لا نهاية لها ، ولا علاج ، وتشاؤم ويأس وحيرة .

إن قصة إخفاق الحضارة الغربية قصَّةٌ معادة مكرّرة ، ولكنها قصة يجب أن تُروى ، وتُتلى ، وتُعاد ، وتُكرر ، وهي قصة تهم الإنسان في كل مكان ، وتتصل به ، وبحياته من أقرب طريق ، ولأن في الشرق من لا يزال يؤمن بعصمة هذه الحضارة وقدسها ، ولا يصدق أن مثلها يحقق ويخيب ، أو أنها قد أفلست في معنوياتها ، وهو يراها تبرهن على وجودها وقوتها في الشرق والغرب .

لقد جرب العالم الإسلامي هذه الحضارة ، واكتوى بنارها ، وعاش فيها زمناً طويلاً ، وشاهد إخفاقها ، وتهيؤها للانهيار في كل مكان ، شاهد ذلك في أخلاق الساسة وقسوتهم ، وموت العاطفة الإنسانية في قلوبهم ، وفي أخلاق الشعب ، ورخص قيمة الأعراض في عينه ، وهدر الكرامة الإنسانية ، وضياع القيم الخلقية ، وفشو الجنايات والسفالات في المجتمع ، وعجز قادة الفكر والسياسة عن إيجاد رسالة إنسانية تنفخ روحاً جديدةً في المجتمع ، وتسوق الأمم نحو هدف واحد ، وتجمع شملها ، وعن ملء الفراغ الروحي ، وعن إعادة الهدوء والسلام ، والثقة بالإنسان ومستقبله ، إلى غير ذلك مما يتّسم به هذا المجتمع الراقي ؛ الذي بلغ أوج الحضارة ، والتنظيم ، والوعي .

يتجلى لكل من يشاهد هذه الآثار أنَّ كل مجتمع لا يقوم على أساس الإيمان إنَّما هو مجتمع يقوم على شفا جرف هار ، لا بد له أن ينهار ، وإن طال أمده ، واتَّسع سلطانه ، ولا سبيل إلى ” الإيمان ” إلا دعوة الأنبياء والرسل وسيرتهم ، الذين يملؤون الأمم الواسعة والجماهير الكثيرة بالروح الخلقية ، وقوة الإيمان ، والإنسانية السامية التي ليس فوقها إلا الصفات الإلهية ، ويشعلون قلوب الملايين – من غير مدارس ، وجامعات ، ومجامع علمية ، ووسائل للنشر والتأثير – إيماناً وحماسةً وزهداً في المطامع والزخارف ، وقوة مقاومة للشهوات ، وإيثاراً للآخرة على الآجلة ، وإيثاراً لغيرهم على نفوسهم ، وحبَّاً لله ، الذي لا يرونه بعيونهم ، ولا تتناوله حواسهم، والتفاني في رضاه ، وهذه سيرتهم ، وكتب التاريخ تحكي عنهم وعن اتباعهم كل غريب ، وكل معجب ، ولولا التواتر ، ولولا الآثار لسارعت النفوس إلى تكذيبه ، والشك فيه ، وهم الذين أنقذوا البقية الباقية من الحضارة والمجتمع البشري من رسل الهمجية والفوضى والوحوش مرات عديدةً ، وحفظوا السفينة البشرية من الغرق في آخر لحظة . وفيها التراث الحضاري وكل ما شاده البشر في آلاف من السنين ، وصانوا القيم الخلقية والمفاهيم الصَّالحة من الضياع والتلف إلى آخر الأبد ، ومدوا في أجل السلالة البشرية ، ومنحوها – بجهادهم الطويل وإخلاصهم العميق – حق البقاء وجدارة الحياة .

ومن المقرر المشاهد ؛ الذي لا شك فيه أن هذه الأديان – التي أسعفت الإنسانية في أزماتها ومحنها المختلفة ، وفضلها لا ينسى في تاريخ المدنية – قد فقدت قوتها وحياتها مع امتداد الزمن وطوارق الحدثان ، وأصبحت فتيلةً قد نفد زيتها ، أو كحبوب عصرت إلى آخر قطرة ، فهي لا تسمن ، ولا تغني من جوع ، وهي ليست من القوة والحياة بمكان تستطيع فيه أن تقاوم هذه المدنية القوية ، وإغراءاتها الجارفة ، وليس في الذين لا يزالون يدينون بها ويحملون أسماءها ثقةً بهذه الأديان ، وصلاحها لكل زمان ومكان ، وحماسة للدعوة إليها والجهاد في سبيلها ، ولمواجهة المدنية العصرية وتحدياتها ، وجلُّهم أو كلُّهم قد وضع أوزاره أمام المادية الغربية . واعتزل المعترك ، وآمن بأنَّ ” المادية ” لا مفر منها ، وأنها مصير الإنسانية المحتوم .

الإسلام هو الدين :

إن هنالك ديناً لا يزال في حياته ، وأصالته ، ونقائه ، ولا يزال أهله يعتقدون أنهم مأمورون بتبليغ الرسالة ، وإنقاذ المدنية ، والحسبة على الإنسانية ، ومسؤولون أمام الله ، وأمام الخلق عن اتجاهات هذا العالم ، ويمتازون بين أهل الأديان بأربع ميزات بارزة :

أولها : وجود هذا الكتاب العظيم المتدفق بالحياة ، الكفيل بسعادة البشرية وتوجيهها ، يحمل أعظم علم وأعمقه بين دفتيه ، ويملك أعمق تأثير في القلوب والعقول ، وهو ثروة البشرية العظمى ، والمعين الذي لا ينضب ، والمدد الذي لا ينفد ، قد أحدث أعظم ثورة في تاريخ البشرية ، ويستطيع إذا أطلق له العنان ، وحُكِّم في قيادة الإنسان أن يحدث أعظم ثورة أخرى .

والميزة الثانية : هذه السيرة النبوية العطرة التي هي أجمل صورة على الإطلاق في مجموع الصور البشرية الغنية ، وأعظم صفحة مشرقة في تاريخ البشر ، تعيد إلى الإنسانية كرامتها ، ومكانتها ، وتعيد الثقة والاعتزاز في نفس الإيمان بأشرفية النوع الإنساني ، الصورة التي لا يملك أمامها الإنسان – إذا لم يفقد حس الجمال وحب الكمال – إلا أن يفتخر بأنه من نوعه ، ومن بني جنسه ، ويتمنى أن يتسامى بتقليده للصورة التي يجد فيها كل إنسان قوةً وسكينةً ، وأسوةً ، وقدوةً ، وحياةً ، وتوجيهاً ، وجوانب مشرقة تفتح منافذ جديدةً ، وتثير معاني جديدةً ، وهذه الصورة لا تزال بملامحها وقسماتها الأصيلة لم تطوها يد الزمان .

الميزة الثالثة : وجود الشريعة الإسلامية كما تركها صاحب الرسالة محفوظةً في أصلها وأساسها ، غنيةً في ثروتها الفقهية ، صلبةً مرنةً لا تتنازل عن القديم ، ولا تتجهم للجديد ، لا تخجل من ماضيها ، ولا تفر من حاضرها ، تالدةً خالدةً ، صالحةً لكل عصر وبيئة ، تعطي الأسس الحكيمة التي يقوم عليها مجتمع جديد ، وحضارة صالحة .

الميزة الرابعة : وجود العاطفة الدينية القوية في المسلمين على علاتهم ، ومواضع الضعف فيهم ، وانقيادهم للدعوة الدينية ، وخضوعهم لها إذا وُجد الدعاة المخلصون ، وهذه قوة فقدها وأفلس فيها عامة الأمم الغربية ، وهي قوة لا يعرف قيمتها إلا من اشتغل بالدعوة والتجديد الديني في أمة من الأمم ، ومن رأى إخفاق هؤلاء الدعاة في إعادة الحياة الدينية والروح الدينية في هذه الأمم [1] .


[1] انظر كتاب العلامة الندوي ” حديث مع الغرب ” . ص 57 – 63 .