أعمال المؤمنين والكافرين وعاقبتهم في الآخرة

فأما الزبد فيذهب جفاء
سبتمبر 2, 2024
أعتقونا لوجه الله
نوفمبر 22, 2024
فأما الزبد فيذهب جفاء
سبتمبر 2, 2024
أعتقونا لوجه الله
نوفمبر 22, 2024

التوجيه الإسلامي :

أعمال المؤمنين والكافرين وعاقبتهم في الآخرة

الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي رحمه الله تعالى

تعريب : محمد فرمان الندوي

اغترار بحسن العمل وعاقبته :

( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِٱلأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً . ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً . أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَزْناً . ذٰلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ وَٱتَّخَذُوۤاْ آيَاتِى وَرُسُلِى هُزُواً ) [ الكهف : 103 – 104 ] .

أخبر الله تعالى في هذه الآيات بأبسط أسلوب عن الذين هم الأخسرون أعمالاً ، وقد ضل سعيهم في الحياة الدنيا ، ولم يدركوا هذه الحقيقة : ما يحدث في الدنيا ، وماذا سيكون في الآخرة ، وكانوا منهمكين في أعمالهم ، وقد اعتبروا الدنيا ووسائلها غايتهم ، ولم يفرقوا بين الحلال والحرام ، وتبنوا كل منهج من الحياة كان أمامهم ، ولم ينظروا إلى ما يحبه الله ويرضاه ، بل اختاروا كل حلال وحرام لمصالحهم الذاتية ، الواقع أن جهود هؤلاء الناس ذهبت سُدىً ، وتبعثرت ، لكن مما يُستغرب أنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ، ويعملون أعمالاً حسنةً ، وهم على أحسن نظام ، فنظراً إلى هذا يذهبون في ذلك كل مذهب ، ويكثرون من أموالهم لزيادة شرفهم وعظمتهم ، أو يختارون كل ما يشاؤون من طرق العيش ، ويعتزون بها .

الجاحدون لآيات الله تعالى :

تدل الآية التالية على أن هؤلاء هم الذين كفروا بآيات الله تعالى ، رغم أن آياته قد انتشرت في الأرض كلها ، ويمكنهم أن يشاهدوها من طرائق قدد ، وهي تخبر بأن منسِّق هذا النظام قوة أخرى ، وهي تنسق كل شيئ بحكمة بالغة ، وبصيرة تامة ، لا يوجد فيه خلل ، لا اضطراب فيه ولا صراع ، كأنه نظام محكم متقن دقيق ، فإن طلوع شمس وغروبها ، وطلوع قمر وأفوله لا يحدث فيه خلل لثانية ولا دقيقة ، كذلك نظام الصيف والشتاء وما وفر الله تعالى فيهما من تسهيلات وإمكانيات ، وكيف تنبت الأشجار ، وكيف تحصل موارد الرزق ، وما هو مقدار الأمطار ، كل هذا يعمل فيه نظام الله تعالى بحكمته البالغة ، وجميع هذه الآيات أمام الناس ، لكن الجاحدين لها قد أطبقوا عيونهم عنها ، فلا يزالون يجحدون آيات الله تعالى الباهرة .

فالذين يجحدون آيات الله هم يجحدون يوم القيامة ، فلا يؤمنون بالسؤال والجواب عند الله تعالى ، ولا يوقنون بالقيام أمام ربهم ، وتخبر الآية المذكورة أعلاه أن أمثال هؤلاء الناس في خسارة كبيرة ، فإنهم يجدون جزاء أعمالهم ، وتحبط جميع عباداتهم وهم لا يشعرون بها ، فإنهم حينما تخرج أرواحهم ويموتون فلا يملكون مقدار ذرة أيضاً ، وإن حيزت لهم الدنيا بحذافيرها ، فلا يقدرون على عيونهم ولا أجسامهم ، ولا أي جزء من أجزائها ، وتضيع جميع نشاطاتهم وأعمالهم وتنتهي أمورهم .

والذين يملكون قوةً وسطوةً في الدنيا ، ولكنهم كانوا جاحدين لنعم الله تعالى ، فلا يحملون يوم القيامة وزناً ، يقول الله تعالى : ( فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَزْناً ) ، ذلك أنهم لا يملكون شيئاً ، بل يكونون صفر اليدين ، لا قيمة لهم ، ولا شأن لهم ، وقد ذهبت أعمالهم وضاعت ، وليس لديهم ما يستندون إليه ، أو يقدمونه للخلاص من العذاب ، هناك يعرفون خسارتهم وضررهم ، لأن الآخرة لا تنفع فيها إلا الأعمال الصالحة ، فإذا لم تكن الأعمال الصالحة فلا ملجأ للإنسان ، وقد ذ كر الله تعالى في مواضع كثيرة من القرآن الكريم أن الله عز وجل يعامل الإنسان يوم القيامة حسب أعماله وأحواله ، فإذا كانت أعماله صالحةً كانت عاقبته حسنةً ، وإذا كان الأمر بالعكس خسر خسراناً مبيناً .

عاقبة منكري الآيات والآخرة :

ذكر الله تعالى في هذه الآيات كذلك عاقبة منكري الآيات الإلهية والآخرة أنهم يصلون سعيراً ، لأن أعمالهم قد حبطت ، فلا تكون إلا صفراً ، وكان مأواهم جهنم ، فلا يطرحهم الله تعالى في جهنم قسراً ، بل كان سببه أنهم جحدوا أوامر الله تعالى ، كما قال تعالى : ( ذٰلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ وَٱتَّخَذُوۤاْ آيَاتِى وَرُسُلِى هُزُواً ) [ الكهف : 106 ] ، أي إنهم كانوا يستهزؤن بآيات الله ورسله ، ويسخرون منهم في الدنيا ، ولا يهتمون بالأمور التي تنفعهم في الآخرة ، ويحمِّقون الأنبياء ، ويعتبرون كلماتهم جنوناً وسفاهةً ، وإذا نظرنا إلى مجتمعاتنا اليوم عرفنا أن الاستهزاء بأهل الدين قد عم وانتشر على كل مستوى ، فالناس يقولون لهم : ما أحمق هؤلاء ، فإنهم لا يفكرون في كسب أموالهم ، ولا يدخرونها ، ويشتغلون كل وقت بالصلاة والصيام ، يا للأسف أن المسلمين اليوم قد تغيرت عقليتهم ، فإنهم يسخرون من الدين ، هؤلاء هم الذين كفروا بآيات الله تعالى ، واستهزؤا بها وبرسل الله تعالى ، وتشتمل كلمة ” رسل الله ” على الدعاة الذين يدعون الناس إلى الله ، ويبلغون دين الله إلى أرجاء العالم ، فكان الجاحدون لنعم الله تعالى يستهزؤن بأهل الدين ، ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً ، ويجدون كل نوع من النجاح والفلاح ، فكان جزاء هؤلاء الناس جهنم ، ولا يملكون في الآخرة شيئاً ينقذهم من عذاب جهنم .

أعمال المؤمنين وعاقبتهم :

( إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ ٱلْفِرْدَوْسِ نُزُلاً . خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً ) [ الكهف : 107 – 108 ] .

إن الذين يكونون مقابل المنكرين ليوم القيامة وآياته هم أهل الإيمان ، وقد اختاروا الأعمال الصالحة في الحياة الدنيا ، ولم يبالوا بنعم الدنيا مقابل نعم الآخرة ، بل عملوا أعمالاً تضمن لهم النجاح في الآخرة ، وآمنوا إيماناً أحرز لهم القبول والحظوة عند الله تعالى ، يقول الله عزوجل عنهم : كانت لهم جنات الفردوس نزلاً ، خالدين فيها ، لا يبغون عنها حولاً ، فلا يخرجون منها ، ولا يريدون الذهاب إلى مكان آخر ، أي لا يضطرون إلى أن يمكثوا هناك ، سواءً أرادو أم لم يريدوا ، فتكون هذه الإقامة سجناً لهم ، لا نعمةً ، فهذا المكان هو الذي لا يبغون عنه ذهاباً إلى مكان آخر لجودته وحسنه وجمال موضعه .

تمثيل بليغ للكلمات الإلهية :

( قُل لَّوْ كَانَ ٱلْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّى لَنَفِدَ ٱلْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً ) [ الكهف : 109 ] .

ضرب الله تعالى في هذه الآية مثالاً لقدرته ، فإن قدرته وحكمته ونظامه الذي صنعه واسع ، ومترامي الأطراف والنواحي ، بحيث لو أصبحت البحار مداداً ، وكتبت بها كلمات الله لنفد المداد الذي صنع من البحار كلها ، ولا تنفد كلمات الله تعالى ، هنا وقفة تأمل أن مقداراً قليلاً من المداد ينفد في كتابة شيئ ، بالرغم من ذلك لو أصبحت البحار كلها مداداً لا تنفد كلمات الله ، بل تكتب بكل تسلسل ، وليس الأمر فحسب أن مداد البحار ينفد ، ويزول ، بل أن مزيداً من البحار إذا ضم إلى هذه البحار ، وألحق بها ما نفدت كلمات الله تعالى .

موضع للتأمل :

إذا فكر إنسان في هذا الأمر تفكيراً عابراً ، استغرب من مقدار كلمات الله التي ينفد من كتابتها مداد البحار ، لكن كلمات الله لا تنفد ، وإذا تأملها الإنسان أدرك أنه إذا سجل تفاصيل كل ذرة من ذرات الكون ، واستعرض مزاياها وخصائصها ، لم يكن نفاد مداد البحار مستحيلاً له ، لأن هذا الكون واسع الجوانب ، لا يدري كم توجد فيها من العوالم والكرات ، وكم توجد فيها من المخلوقات والمعادن ، والنبات ، والحيوانات ، فلو كتبت تفاصيل هذه الأشياء التي خلقها الله تعالى ، وتأمل الإنسان أسباب خلقها ، وصناعتها ، ما هي طبعيتها ؟ وما هي مزاياها ؟ وما هي متطلباتها ؟ وما هي حاجياتها ؟ وما هي مواهبها ؟ فهذه الأمور كلها هي كلمات الله تعالى ، التي إذا كتبها الإنسان لنفد مداد البحار ، ولا تنفد كلمات الله تعالى .

مكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم :

( قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا ) [ الكهف : 110 ] .

هذه الآية تدل على مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فالرسول تابع لله عزوجل ، وخاضع لأمره ، فليس معنى ذلك أن كل ما يخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من أمور ، وما يذكر من كبريائه ، أو يقص من قصص الأمم الماضية ، يفعل كل ذلك لمجرد قرابة أو علاقة حميمة ، بل الواقع أن الله عزوجل اصطفاه من بين سائر خلقه ، فهو رسول الله ، غير أنه بشر ، ويعيش مثل البشر ، وليس ملكاً أو مخلوقاً آخر ، فالفارق الأساسي بينه وبين عامة البشر أن الله تعالى يوحي إليه ، وينزل عليه وحي إلهي ، وإلا لا يكون بينه وبين الناس فرق ، فإنه نال مكانةً خاصةً بين الناس على أساس رسالته الإلهية ، وهذه الرسالة هي أن الله يخبر الناس بواسطة رسوله أن إلههم هو الله وحده ، وهو يستحق كل نوع من الألوهية والربوبية ، وتوحيد الأسماء والصفات ، هذه هي الرسالة التي يبلغها الله تعالى بواسطة رسوله إلى الناس ، وقد أخبر بأنهم إذا وضعوا نصب أعينهم هذه الرسالة أفلحوا ونجحوا في الدنيا والآخرة ، وإلا كانت لهم خسارة فادحة في الآخرة .

بيان صريح :

دل آخر الآية على أن كل من يرجو لقاء الله ، ويتمنى أن يرجع إلى الله عزوجل راضياً مرضياً ، وينال رحمة الله تعالى فعليه أن يعمل أعمالاً صالحةً في الحياة الدنيا ، ولا يعبد أحداً سوى الله ، ولا يعتبره جديراً بالعبادة ، ولا يخضع أمام أحد ، بل عليه أن يخضع أمام الله تعالى ويعتبره ولياً وناصراً .