صوم عاشوراء وتاريخه في الكتب السماوية
يوليو 28, 2023الوعي الإسلامي ومدى ارتباطه بقضية فلسطين
ديسمبر 11, 2023التوجيه الإسلامي :
أسلوب الدعوة إلى الله وعاقبة المؤمنين والكافرين
سماحة الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي ( رحمه الله )
تعريب : محمد فرمان الندوي
( وَٱتْلُ مَآ أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً . وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَوٰةِ وَٱلْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ) [ الكهف : 27 – 28 ] .
أمر الله تعالى في هذه الآية نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يتلو أمام الناس ما أوحي إليه من القرآن الكريم ، ولم يقل هناك أن يبلِّغه ، بل يتلوه ، معناه أن يقرأ عليهم ما أوحي إليه من القرآن مراراً وتكراراً ، ثم قال : لا مبدِّل لكلماته ، ليس معناه أن كلمات الله للحال فقط ، ولا حاجة إليها في المستقبل ، بل إن كلمات الله لا تتغير ولا تتبدل إلى يوم القيامة ، وهي درس وعبرة لنا ، ولن يجد الإنسان سواه ملجأً لنفسه ، فإن هذه البيوت والمنازل الدنيوية التي يأوي إليها الإنسان كلها موقتة وضعيفة وضئيلة ، وقد خلق الله جميع وسائل الدنيا ، وكل ما يوجد من وسائل وطرق لوقاية النفوس وصيانتها خلقها الله تعالى ، وليس معناه كذلك أنها خُلقت من غير خالق ، سواء استعملناها أم لم نستعمل ، بل الواقع أن الله خلقها ، ونحن مكلَّفون لاستعمالها ، مثال ذلك أن الأدوية والأدوات الأخرى التي خلقها الله تعالى ، لم تُصنع بنفسها ، فإن الشيئ الذي ينشأ بنفسه يكون له شأن آخر ، وإذا صنعه رجل فكان له شأن ، فإن الشيئ الذي خلقه الله تعالى يتصرف فيه كيفما شاء ، ويسلب منه تأثيره وصلاحيته ، فإنه ليس بنفسه ، بل هو تابع لأمر الله ، وخلقه الله تعالى ، فإذا اعتمد عليه الإنسان كان اعتماده ضعيفاً ، وعلى شفا جرف هار ، وهذه حقيقة ناصعة أن الإنسان لا يجد من دون الله ملتحداً [1] .
مكانة فقراء الصحابة رضي الله عنهم [2] :
كان نشر الإسلام وهداية الناس مما يهمُّ ويشغل بال رسول الله صلى الله عليه وسلم دائماً ، فكان يتمنى أن صناديد كفار مكة إذا أسلموا وهم أغنياء وأثرياء مكة ، أو أسلم واحد منهم أسلمت معه قبيلته كلها ، فكان هذا شغله الشاغل وهمه الوحيد ، لينتشر الإسلام في الدنيا كلها ، وبالنسبة إلى هذا ذكر الله تعالى في الآيات المذكورة أعلاه مخاطباً رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء الكفار الذين يحملون قوةً وتأثيراً في مجتمعاتهم ، لا تتفكر في إسلامهم ، إنهم ثوار وبغاة على دين الله ، وليست لهم قيمة عند الله ، وإن كانت لهم جولة وصولة في الحياة الدنيا ، وأنت تظن أن المؤمنين هم ضعاف الناس مقابل الكافرين ، وأنهم آمنوا بأنفسهم ، وليس لهم وزن في المجتمع ، وأنهم يكونون معنا ، فلا حاجة إلى التفكير في شأنهم ، بل الحاجة إلى التفكير في الذين لهم مكانة في المجتمع ، فلا بد لهم من الاعتناء بأمرهم ، ليس الأمر كذلك ، بل اصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ، وصاحِبهم ، وأجبر نفسك على الجلوس معهم ، ولا تنظر إلى أن صناديد مكة يسلمون ، لكن بلّغ إليهم الدعوة إلى الله ما أمكن ، وتكلم معهم حول الإيمان بالله ما تيسر ، وقل لهم ما تريد أن تقول لهم ، فالذين قدَّر الله تعالى لهم أن يكونوا كافرين لا يمكنك أن تجعلهم مسلمين ، إنما عليك البلاغ والمجاهدة في الدعوة إلى الله ، أجهِد نفسك على التعايش مع فقراء الصحابة الذين يذكرون الله صباح مساء ، ويمارسون عمل الدعوة والدين .
ولا تعد عيناك عنهم أي لا ينبغي أن تصرف عينك عنهم ، بحيث تزدريهم ، وتحتقرهم ، فلا تعتبرهم محتقرين [3] ، هؤلاء أرفع شأن عند الله تعالى ، والذين هم أكبر شأناً في الدنيا أقل قيمة عند الله ، فلا بد أن يكون موقفك أن تعتبرهم أرفع شأناً ، أما تقديم الدعوة إلى كفار مكة فلا تتغافل عنه ، ولا تنظر إلى ما أعطيناهم من زهرة الحياة الدنيا ، ولا شك أنهم أصحاب حول وطول في المجتمع ، وهم أغنياء وأقوياء ، يعقد بهم الرجل آمالاً ، وأما ضعفاء القوم فلا يثق بهم الناس كثيراً ، نظراً إلى هذا قال الله تعالى : ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ، ثم قال إشارةً إلى كبار القوم : ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا ، وليعلم أن القلب لا ينصرف إلا بإذن الله تعالى ، ذلك أن الله فعال لما يريد ، فنسب هذا الأمر إلى نفسه ، أي من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً [4] .
اللافت للنظر في هذه الآية أن كفار مكة كانوا يقولون : نحن نريد أن نحضر مجالسك ، لكن يجلس معك ضعفاء القوم وأراذلهم ، فكيف نجالسهم ؟ أولاً اجعل هؤلاء الضعفاء بعيدين من مجلسك ، وقد فكَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الواقع أن ساعة من الوقت إذا كان ضعفاء الصحابة بعيدين عنه فلا بأس بهم ، وخلال هذه الوقفة يمكن إبلاغ الدعوة إلى صناديد قريش ، فنهى القرآن الكريم عن هذا ، وقال : إن هؤلاء الضعفاء هم خير وأحسن لك ، فلا تطع كلام كفار مكة الذين طبع الله على قلوبهم ، ولا يؤمنون بالله واليوم الآخر ، فكلامهم لا يُعتبر صدقاً ، ثم قال الله تعالى : هؤلاء هم الذين اتبعوا هواهم ، وهم يكفرون بالدين ، فكان أمرهم كسلاً وضلالاً عن الحق الذي أنزل إليهم ، رغم أنه واضح وضوح النهار ، فقل يا محمد لهم بكل صراحة : الحق من ربك ، فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر ، لا يضر ذلك الله شيئاً ، وهو غني حميد .
عاقبة المؤمنين والكافرين :
( إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا [5] وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَٱلْمُهْلِ يَشْوِى ٱلْوجُوهَ بِئْسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً . إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً . أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ ٱلأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى ٱلأَرَآئِكِ نِعْمَ ٱلثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً ) [ الكهف : 29 – 31 ] .
ذكر الله تعالى في هذه الآية أن الظالمين قد أعد الله لهم جهنم ، أحاط بهم أسوار ، كأنها دائرة مدورة ، أحدقوا بها ، وإذا احتاجوا إلى الماء والطعام واستغاثوا له ، فيوفر لهم ماء حميم أو زيت سخين [6] ، يحرق وجوههم وحلقومهم ، وهم في أسوء مكان ، وأخبث شراب ، هؤلاء وإن كانوا في الدنيا في أحسن حال ، ويتوافر لهم كثير من الوسائل ، لكن تكون حالتهم في جهنم سيئةً للغاية .
أما الذين آمنوا وعملوا عملاً صالحاً ، فلن يضيع الله أجرهم ، بل يوفي أعمالهم ، وتكون لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ، ويزينون فيها بأساور من ذهب ، كما يلبسون ثياباً خضراً من سندس واستبرق [7] ، ويتكئون فيها على الأرائك [8] ، ويقضون هناك حياةً هنيئةً مريئةً ، نعم الثواب ، وحسنت مرتفقاً ( أي منزلاً ومقيلاً ومقاماً ) .
[1] قال الإمام ابن كثير : عن مجاهد ملتحداً قال : ملجأ ، وعن قتادة : ولياً ولا مولى ، – – وقال ابن جرير : يقول الله : إن أنت يا محمد لم تتل ما أوحي إليك من كتاب ربك فإنه لا ملجأ لك من الله .
[2] وهم بلال وعمار وصهيب وخباب وابن مسعود – قال مسلم في صحيحه : عن سعد بن أبي وقاص قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر ، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم : اطرد هؤلاء لا يجترؤون علينا ، قال : وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ، ورجلان نسيت اسميهما ، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يشاء أن يقع ، فحدث نفسه ، فأنزل الله عز وجل : ( وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَدَوٰةِ وَٱلْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) .
[3] قال ابن عباس : ولا تجاوزهم إلى غيرهم ، يعني تطلب بدلهم أصحاب الشرف والثروة .
[4] أعماله وأفعاله سفه وتفريط وضياع ، ولا تكن مطيعاً ولا محباً لطريقته ، ولا تغبطه بما هو فيه . كما قال : ( وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ) .
[5] السرادق : سور جهنم ، وفي مسند الإمام أحمد بن حنبل عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : لسُرادق النار أربعة جدر ، كثافة كل جدار مسافة أربعين سنةً ، وقال ابن عباس : حائط من نار .
[6] وردت كلمة المهل في الآية : وهي الماء الغليظ مثل دردي الزيت ، هذا قول ابن عباس ، وقال مجاهد : هو كالدم والقيح ، وقال عكرمة : هو الشيئ الذي انتهى حره ، وقال آخرون : كل شيئ أذيب ، وقال الضحاك : ماء جهنم أسود ، وهي سوداء ، وأهلها سود ، وقال ابن كثير : هذه الأقوال ليس شيئ منها ينفي الآخر ، فإن المهل يجمع هذه الأوصاف الرذيلة كلها ، فهو أسود منتن غليظ حار ، ولهذا قال : يشوي الوجوه من حره . إذا أراد الكافر أن يشربه ، وقربه من وجهه شواه ، حتى تسقط جلدة وجهه فيه .
[7] السندس : ثياب رفاع رقاق كالقمصان وما جرى مجراها ، وأما الاستبرق فغليظ الديباج وفيه بريق .
[8] الاتكاء : قيل : الاضطجاع ، وقيل : التربع في الجلوس ، وهو أشبه بالمراد هنا ، والأرائك ج أريكة : السرير تحت الحجلة .