أستاذ شفوق ، قائد حكيم

ستظل ذكراك خالدةً في قلوبنا
نوفمبر 19, 2023
صورة صادقة للأسوة المحمدية
نوفمبر 19, 2023
ستظل ذكراك خالدةً في قلوبنا
نوفمبر 19, 2023
صورة صادقة للأسوة المحمدية
نوفمبر 19, 2023

أستاذ شفوق ، قائد حكيم

بقلم : الشيخ خليل الرحمن سجاد النعماني الندوي *

تعريب : الأخ مرزا ريحان بيغ §

قال الله تعالى : ( مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً ) [ الأحزاب : 23 ] .

إن ذكرياتي عن أستاذنا الراحل الشيخ السيد محمد الرابع الحسني الندوي رحمه الله تغطي حوالي 62 سنة ، والآن أنا في 67 – 68 من عمري ، ولو سجلتُ تفاصيل هذه العلاقات التي ظلت بين أسرتنا وأسرته رحمه الله من خلال مشاهداتي ، لقلت مئات الصفحات ، فأحاول أن أذكر بإيجاز بعض الأمور المهمة التي تكون منارةً للطلاب أمثالنا ، وسبباً لتقوية العزائم والهمم وإنضاج العقل والفكر في هذه الظروف التي تثبط طموحاتهم .

والله إني لأشهد أن هذه الأسرة الحسنية من الأسر الممتازة والعجيبة ( حفظها الله وأدام عزها وشرفها ، واستمر إرث سلفها الصالح في أجيالها القادمين إلى يوم القيامة الذين توارثوا المجد كابراً عن كابر ) هاجرت في القرن السابع الهجري من المدينة المنورة إلى شبه القارة الهندية ، منذ ذلك الوقت إلى الآن مرت بمراحل مختلفة ، ولكن ظلت متمسكةً بخصائصها إلى حد كبير ، فإن نجابتها ومثلها وثقافتها وذوقها الأدبي الرفيع وتحمسها الديني وسعيها الحثيث في تأليف كتب التاريخ والتراجم ، وتعهدها بثقافة العرب والإسلام ، ومع ذلك تقدير وحب أهل القلوب والاستفادة منهم ظل باقياً حتى اليوم ، رغم مرور زمن طويل على الإقامة في هذه الديار الهندية ، كما أنها حفظت تراثها ومزاياها الأسرية وأعراقها وذوقها الأصيل للأدب والشعر ووثوق الصلة بمنابع الإسلام الأصيلة الصافية ، ما نجد نظيرها خارج هذه الأسرة المباركة ، ثم إن كل خصائص الأسرة التي ذكرتها انعكست في طبيعة أستاذنا واعتبرت أهم مميزات شخصيته ، فجاء في العصر الأخير المثل الأعلى لها وصورة كاملة تمثل خير إنسان وعالم رباني وقائد حكيم وصحافي بارع .

ويجدر بالذكر أن قضية اللغة العربية قضية مهمة للغاية ، ولقد ذكر الإمام ولي الله الدهلوي شيئاً غريباً في إحدى وصاياه ، يقول :        ” أوصيكم يا معشر مسلمي الهند ! أن تلتزموا بالعربية وبالحرمين الشريفين دائماً ” ، وهي وصية غالية نفيسة ، إنها تحذير من أمر وقع فيه كثير من العائلات والثقافات ، وهي من طبيعة أرض الهند أنها أذابت في بوتقتها كل من جاء إليها واستوطنها إلا الشعب المسلم ، فإنه امتاز في الهند بهذه الميزة البارزة ، فهو يعيش فيها محتفظاً بجزء كثير من شخصيته الدينية و معتزاً بحضارته و قيمه الإسلامية ، وأكبر من أسهم فيها ورفع راية الرفض والبراءة عن كل ما يخالف الدين الحنيف من عقائد وأعمال وفلسفات واتجاهات إلى يومنا هذا ، هي أسرة شيخنا وأستاذنا الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي ، أرجو من الله تعالى وأدعو أن تبقى هذه الأسرة إلى يوم القيامة بخصائصها ومبادئها ، كي تساهم في خدمة العلم والدين وترقية الإنسانية والبلاد اجتماعياً وأدبياً ومدنياً .

التحقت بدار العلوم لندوة العلماء في 1964م ، وأنا في التاسعة من عمري ، وبعد بضع سنوات وصلت إلى الصفوف التي استفدنا نحن الطلبة فيها من دروس الشيخ محمد الرابع ، وقرأت عليه منثورات ومختارات من أدب العرب ، وكتابه الشهير العلمي ” جزيرة العرب ” ، وكان له شغف زائد بالأدب العربي وتاريخه ، كما كان يمتاز بولوعه بالجغرافية أيضاً . ولا يمكن لأحد غض النظر عن أهمية وحاجة هذا الموضوع ، وذلك لأنه ورد في القرآن الكريم والكتب الأدبية العربية عشرات من أمم العرب ومدنهم ومواضعهم ، فإن دراسة هذا الموضوع تعين الإنسان على التدبر في خلق الله ، وفهم ما ورد من نصوص شرعية ، وله أهمية كبرى في الدعوة إلى الله ، فإنه لم يقم نبي من الأنبياء بالدعوة إلى الله إلا عرف مسالك المناطق التي بُعث إليها ، فأسلوب دعوة إبراهيم عليه السلام يختلف تماماً عن أسلوب سيدنا سليمان عليه السلام ، وهذا باختلاف الزمان والمكان ، فإن معرفة الأمكنة المذكورة في القرآن الكريم والأدب العربي لازمة جداً ، وقد رزق الله أستاذنا رحمه الله ذوقاً خاصاً لهذا الموضوع ، فبحث فيه وألف كتاباً علمياً تاريخياً سمّاه : ” جزيرة العرب : تاريخياً ، ثقافياً وجغرافياً ” ، ومن سعادتي أنني قرأت عليه هذا الكتاب مباشرةً ، ونشأ فـيَّ ذوق تاريخي وجغرافي ، وكان منهجه التدريسي سهلاً سائغاً مقبولاً ، فيشرح الأبيات شرحاً يلذ الطلاب بسماعه ، ويستنبط المعاني والشواهد التي لا ينطق بها إلا من له نظر عميق في هذا الموضوع ، ففي حصة تعليمية كان أستاذنا رحمه الله أديباً يحمل ذوقاً في التعليم وقدرةً تامةً على التفهيم ، وفي حصة أخرى يتمثل أمامنا كخبير بالجغرافية وعارف بها .

وكل منا يعلم أن أستاذنا تربى تحت إشراف الإمام الشيخ السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي ، فاستفاد منه كثيراً ، وتشرب روحه وفكره ، وقد جمع الله في شخصية الإمام الندوي صفات ومميزات مختلفةً ، ذات مرة حينما نزل بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ضيفاً لسلسلة المحاضرات ، فأمرني نائب رئيس الجامعة الدكتور عبد الله الزائد أن أعرِّف الحضور بشخصيته البارزة قبل إلقائه المحاضرة ، وكان هنالك تجمع كبير ، وحضر حوالي سبعة آلاف طالب ، ومئات من الأساتذة والأكاديميين وأئمة الحرم المكي والمدني ، فوقفت ، ولا أعلم من أين أبدأ الحديث ، فقرأت مبدأ قصيدة مشهورة للفرزدق :

هَذا الَّذي تَعرِفُ البَطحاءُ وَطـأَتَهُ        وَالبَيتُ يَعرِفُهُ وَالــــحِــــلُّ وَالــــحَــرَمُ

هَــــذا اِبـــنُ خَــيرِ عِبادِ اللَهِ كُلِّهِمُ         هَذا التَقِيُّ الـــنَـــقِـــيُّ الطاهِرُ العَلَمُ

هَذا اِبنُ فاطِــمَةٍ إِن كُنتَ جاهِلَهُ بِـــــجَـــــدِّهِ أَنـــــبِـــــياءُ اللَهِ قَد خُتِموا

وَلَيسَ قَولُكَ مَـــن هَـــذا بِـــضــائِرِهِ     العَربُ تَعرِفُ مَن أَنكَرتَ وَالعَجَمُ

فلما قرأت هذه الأبيات وطبقتها على شخصية الإمام الندوي ، بدأت الدموع تسيل من عينيه ، وهو يحاول إخفاءها ومسحها بيده ، ولكن من فوائد هذه الكلمات التعريفية الدافقة المحيطة بمختلف جوانب شخصيته ؛ أنه ألقى خطاباً أشعل به العالم العربي والإسلامي حماسةً وحميةً وانقلاباً ، كأن شلالاً يتدفق بالكلمات ذات المعاني الطيبة في أسلوب قوي ملتهب من غير توقف ولا تلعثم ، لم نكن نراه في هذا الأسلوب القوي منذ سنوات لضعف صحته ونقاهته .

كان أستاذنا وشيخنا السيد محمد الرابع خير خلف لخير سلف ، وكان صنو خاله العظيم في زهده وصلاحه وورعه ، رغم مما يحمل من مناصب جليلة ، كان متواضعاً ، صغيراً في عينيه ، زاهداً في حطام الدنيا ، معرضاً عن زخارفها ، طامعاً في الآخرة ونعيمها ، مخلصاً لدينه وأمته ، كلما زاد مجده وتضاعفت مسؤولياته وانتشر صيته وعظم احترامه وتقديره على مستوى الهند والعالم ، كنت رأيت أن زهده وورعه وعزلته وإقباله بعلو همته على الله تعالى قد ازداد مع مرور الزمن ، وحينما كان في الأربعين من عمره كان يقول والدي للإمام الندوي :       ” أشهد على نفسي أن الشيخ محمد الرابع ولي شاب ” ، قبل أيام من رمضان المنصرم 1444هـ سُعدت بلقائه ، وكان هذا اللقاء لقاءً أخيراً ، وكان في غاية من القلق والتألم لأمور الدين والتحرق للأمة على أوضاعها الشرسة ، فقلت مسلياً له وغاضاً عما يجيش في قلبه من الكآبة والحزن ، سيدي ! كنت أسمع في صباي من والدي ، وهذا الذي سمعت منه مرات قائلاً : ” أن الأستاذ السيد محمد الرابع ولي شاب ” ، فامتلأت عيناه بالدموع متأسفاً ، وقال في حزن : ” أعطاني الله فرصاً كثيرةً ، وكان في وسعي أن أكون عظيماً ، وأنجز أعمالاً جليلةً ، ولكن ما استطعت أن أفعل شيئاً ” .

إن المسلمين اليوم يواجهون في الهند حملات ممنهجةً من الاضطهاد والعنصرية والإساءة إلى دينهم ، ففي هذه الأوضاع الحرجة تؤكد على المسلمين التسامح والوحدة فيما بينهم على أساس الكلمة ، وعليهم أن يصمدوا أمام العواصف والتيارات ، ويواجهوا الأحداث والتقلبات بصبر ويقظة ووعي وحكمة وبتخطيط استراتيجي جاد محكم ، رحل عنا إمامنا الهمام في وقت كانت البلاد بأمس الحاجة إلى أمثاله ، حينما تم اختياره رئيساً رابعاً لهيئة قانون الأحوال الشخصية للمسلمين لعموم الهند في حيدر آباد سنه ٢٠٠٢م فلم يكن موجوداً في الاجتماع الذي اختاره فيه أعضاء الهيئة رئيساً لها ، ثم لما لقيته في مدينة لكهنؤ ، فقال وحوله ثلة من العلماء والمثقفين : ” لم أرغب في ذلك على أي حال ، و ” هذا ” لعب دوراً هاماً في هذه المؤامرة ، ( وأشار إلي بيده ) ، وأشكر الله على هذا التوفيق الغالي ، لأنني أخاف أن هيئة قانون الأحوال الشخصية للمسلمين لعموم الهند تظل متحدةً أم لا ؟ في ذلك الوقت التقيت بعديد من كبار الأعضاء بشكل فردي حسب ما أمكن ، والحمد لله على أن آراء الأعضاء اتفقت على ضرورة توحيد الصفوف ، وعلى أنه ليس هناك من يحمل مؤهلات القيادة المنشودة التي تتطلبها الأوضاع الحاضرة سوى الشيخ محمد الرابع رحمه الله ، فوافق الأعضاء على انتخابه رئيساً بالإجماع ، لأنه يريد ألا يحدث اختلاف ونزاع ، فقادها قيادةً حكيمةً موفقةً ، وأثبت أنه كان موفقاً مؤيداً من الله ؛ لأن القيادة جاءت تسعى إليها ، ولم يطلبها قط :

أَتَتــهُ الخِلافَــــــةُ مُـــنــقادَةً      إلَـــيـــهِ تُــجَــــرِّرُ أَذيــالَها

وَلَــم تَـــكُ تَـــصـــلُــحُ إِلا لَـهُ   وَلَـــم يَــكُ يَصلُـحُ إِلا لَها

وبعد فهذه سطور عاجلة لا تستوعب إنجازاته ولا تمثل حياته العامرة الخصبة ، وإنما هي كلمات أملاها الحب والإخلاص والوفاء للراحل الكريم والفقيد العظيم ، ويشتاق قلبي إلى أن أحبر به الورق ، والأحداث والذكريات أيضاً تتذكرني وتعود إلى ذاكرتي ، ولكن أكتفي بها . وأدعو الله أن يورثنا خلقاً حسناً وعلماً نافعاً ، لتتوارث الأجيال الأمجاد السالفة والآثار الخالدة .


* رئيس تحرير مجلة الفرقان الغراء ، لكناؤ ، ( الهند ) ورئيس دار العلوم الإمام الرباني في مهاراشتر .

§ طالب في العالية الرابعة الشريعة بدار العلوم لندوة العلماء .