أزهار الربيع كيف ينبغي أن نجنيها

كيف يستعيد المسلمون مكانتهم السالفة ؟
أغسطس 3, 2024
كيف يستعيد المسلمون مكانتهم السالفة ؟
أغسطس 3, 2024

الافتتاحية :                بسم الله الرحمن الرحيم

أزهار الربيع كيف ينبغي أن نجنيها

!إن الله سبحانه قد أودع في كل لمحة من لمحات سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أسوةً حسنةً لكل من يبحث فيها عن مفتاح السعادة الدائمة في جميع الأحوال والأزمان ، ولا يعرف للشقاء معنى في أي شأن من القوة والضعف ، ومن الصحة والمرض ومن الفقر والغنى ، بل يعتقد من أعماق قلبه أن هذه الأسوة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم مستمرة بكل قوة ، وتيارها سار في جميع عروق القلب والجسم يكهرب الحياة والمجتمع بإيمان يتجدد مع كل لحظة ، وبعلاقة تتوطد في كل حين ، مع شهادة الوحدانية والرسالة التي يتمتع بها كل فرد من أفراد الأمة ، وتحث بني آدم جميعاً على الحصول على هذه الشهادة الغالية التي تنفعهم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، وقد شهد الله سبحانه بصيغة التأكيد بأنه على خلق عظيم ( وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) ، فكان ذلك شهادة من السماء لأهل الأرض جميعاً ، وإشارة إلى أن الإنسان مهما كان لا يتمتع بحلية الإنسانية ما لم تتحلّ حياته بالخلق العظيم الذي ليست بعده فضيلة ولا كرامة .

وعلى ذلك كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم قاعدةً صلبةً للشريعة الإسلامية التي أنزلت على الإنسان والكون بصفة دائمة لا يعتريها تغيير أو تطوير ، ولا يستغني عنها العالم البشري في أي عصر ومصر ، وقد أكملها الله سبحانه وتعالى وأتم نعمتها على عباده ، فكانت شريعة خالدة باقية نامية لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها ، تنزيل من حكيم حميد .

ومن ثم كانت الأمة المسلمة مسئولةً عن تمثيل هذه السيرة الحسنة في جميع شئونها وأعمالها ، وكان على المرء المسلم أن يعيش هذه السيرة المثالية ويطبقها على الحياة حتى تكون حياته أنموذجاً كاملاً لغيره من أفراد البشر والأمم والشعوب التي لا تعرف عنها ، سوى أنها لا تتفق وطبيعة العصر الحديث ، وأنها تبلغ من القدم والبلى إلى ما تأباه الفطرة وترفضه العصرنة التي هي علامة حضارة الإنسان اليوم .

الأمة الإسلامية حينما تستقبل شهر الربيع كل عام ، فهي تجدد العهد بالإيمان والحب والطاعة ، وتقر بأنها لا تزال على ذكر من ذلك العهد الذي تعاهدنا به مع الله سبحانه ورسوله بالدعوة إلى هذا الدين وإبلاغه إلى جميع أنحاء العالم بوسائل العلوم والمعارف ، وصالح الأعمال وأمثل النماذج الإيمانية ، وذلك هو العمل المستمر الدائم والمسئولية الكبرى القائمة التي تواصل المؤمن ليل نهار من غير انقطاع للحظة ما ، وليس هو ما يزعمه الناس من أن يباشروا بالعمل الدعوي وتذكير الناس بصلتهم بالدين وحبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والاحتفال بتعظيمه والإشادة بالشهر الذي بعث فيه رسول الإنسانية وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم ، ويتظاهروا في هذا الشهر كله أو بعضه بصلتهم برسول الله والعمل بما جاء به من عند الله .

كلا ! ليس هذا الدين معبراً ننتقل عن طريقه من جانب إلى جانب ، وليس جسراً نستخدمه متى نشاء للعبور من بلد إلى آخر ، إنما هو دستور للحياة والكائنات كلتيهما ، دستور يخلد مع كل واحدة منهما ، ولا يسمح لأي واحد بالخروج عنه ولو لوقت قليل ، وإنما هو القاعدة الثابتة الراسخة لكل مَن وما في هذا الكون من خلق ، لا الإنسان وحده ، بل الكائنات كلها مما خلقه سبحانه وتعالى من ذوي العقول الظاهرة والكامنة كل ذلك خاضع لهذا الدستور الدائم الخالد ، من غير تعطل وتخلل ، أو تحيل بحيلة ، إنه يتفق مع كل شيئ في جميع الأحوال والشئون التي تفصلها تعاليم النبوة على صاحبها ألف ألف تحية وسلام ، ومن ثم كان للتفقه في الدين درجة عالية عظيمة أُوتيها علماء هذا الدين وفقهاؤه ، وأصحاب الدعوة إليه من الرجال والنساء ، فقد كان طلب العلم فريضةً على الجميع ليتمكنوا من إدراك أسرار السعادة والنصح والخير والإحسان ، ويعملوا بها في جميع الأعمال والأحوال ، وينفذوها في السلوك والأخلاق ، يقول الله تعالى في كتابه العظيم : ( فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِى ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوۤاْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) ، يقول الإمام الشيخ ولي الله الدهلوي : يجب أن يوجد في كل فرقة طائفة لكي يعكفوا على الجلوس مع النبي صلى الله عليه وسلم في مجالسه ، ويتعلموا الدين وعلومه ويعلموها الآخرين ، ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس موجوداً في عالمنا هذا ، ولكن العلوم الدينية قائمة وعلماء الدين موجودون ، لذلك فإن طلب العلم فرض كفاية على أفراد الأمة ، كما يقول أبو حيان ويصرح : ” بأن هذه الآية ليست إلا لطلب علم الدين ” .

فالتفقه في الدين أمر من الله سبحانه وتعالى لا يستغني عنه  المسلم ، وليس من الواجب أن يتابع دراسته والتعمق في تفهم الدين بالالتحاق بالمدارس والجامعات إذا كان يتحقق هذا الغرض من خلال مجالس العلماء والتعلم منهم أمور الدين من الفرائض والواجبات والمستحبات والنوافل ، والتأكد من أن هذا الدين إنما هو الملجأ الأول والأخير لكل إنسان مهما كان ، وبه وحده يستطيع أن يؤدي واجبه ويوطد صلته بالله تبارك وتعالى وبرسوله خاتم النبيين ، واتباع سيرته في كل صغير وكبير ، وبذلك يتأدى الواجب الديني ويتمتع المرء بربيع الإنسانية الذي أنزله الله تعالى بولادة ووجود رسول العالم البشري بعد جفاف طويل ، امتد إلى أكثر من خمسة قرون ونصف قرن ، وبعد ما كان الزرع الإنساني يعاني من الجدب والسنين ، وكان العالم البشري يعيش اليأس من مستقبله ، الأمر الذي أنتج حروباً طائفيةً ، وجرائم خلقيةً ، وقتالاً وخناقاً ووأداً ، وطرائق قدداً من العذاب النفسي والجوع والفقر والشقاء ومن الهموم والأحزان ما لا يأتي عليه الحصر .

أما اليوم فإن العالم وإن كان قد تطور كثيراً في جميع مرافق الحياة ، واستطاع الإنسان المعاصر أن يأتي بما يشبه معجزةً في العلوم والصناعات ، وفي إيجاد التسهيلات من كل نوع وفي كل مجال ، فكل ذلك كان نتيجةً لذلك النظام الكوني الذي أغدق به الله تعالى على الكائنات لبناء المستقبل الذي يواجهه الناس في تيسير الوسائل التي تتطلبها الحضارات الإنسانية في سبيل البلاغ الدعوي ، والتوجيه الديني ، إذن ليس ما نراه اليوم من التطورات العلمية إلا طريقاً إلى إبلاغ صوت الدين بسرعة وتأثير أكثر رغم المسافات البعيدة التي يعيش فيها المجموعات الإنسانية وتتمتع بكل وسيلة من الوسائل المدنية والأسس الإنسانية التي تجعل العالم كله كقرية واحدة ، وما ذلك إلا عكساً من المنن التي أفاضها الله سبحانه على العالم البشري عن طريق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .

فمهما تطورت الحياة وتعانق الناس في المرافق والحاجيات إلا أن الاستغناء عن أداء الحقوق التي تتولاها فطرة الإنسان للإنسان وفطرة الله التي فطر الناس عليها لن يتيسر من غير شعور بحق الله تعالى على الخلق وحقوق الخلق التي قررها رب الخلق والكون على نفسه هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم ، فكم من الناس من يتمتعون بمثل هذا الشعور بعمق ودقة ، وإيمان كامل بالربوبية الدائمة القائمة في جميع لحظات الحياة وشئونها في عالمنا اليوم !

فلا نكاد نتبرأ عن مسئوليتنا بمجرد الثناء على هذه السيرة المباركة وتلاوة آيات من كتاب الله تعالى في المناسبات ، بل الواقع أننا مخطئون في تقدير صلتنا بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، إنها ليست سيرةً فقط ، وإنما هي أسوة حسنة بصفة مستمرة خالدة ، نتصل بها باستمرارية كاملة ودوافع الاتباع الكامل بصورة واقعية عملية نموذجية مثالية ، وإيمان شامل ، وذكر دائم متتابع ( لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيراً ) .

ألم يأمر الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يعلن في الناس بصراحة عن حقيقة محبة الله تعالى التي لا تتحقق من غير اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ، وبذلك يتوافر الحب الصادق المتبادل بينه وبين عباده المخلصين ، وتسنح الفرص لتطبيق تعاليم الكتاب على الحياة والمجتمع ، وتنفيذ توجيهات السنة المطهرة في حياة الفرد والجماعة . ( هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً ) . ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ   رَّحِيمٌ ) .

والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .

سعيد الأعظمي الندوي

15/2/1446هـ

21/8/2024م