هذا الطفل ( تحية لأطفال غزة الأبطال )
يوليو 9, 2025الأدب المعاصر :
أثر التيارات الفكرية في ظاهرة الأدب المعاصر
بقلم : أ . د . مفيدة إبراهيم علي عبد الخالق *
يواجه المجتمع العربي اليوم موجةً استعماريةً جديدةً لا تقل خطراً عن الموجات السابقة التي تعـرض لها من قبل علـى مدى تاريخـه الطويل .
ويكمن خطر تلك الموجة في التوقيت الذي اختارته لهجمتها ، فقد جاءت والمجتمع العربي في أشد حالات ضعفه ، إذ يعاني غياباً حضاريّاً يتمثل في فشله في تحديد وجهته وتمييز هويته واختيار ثقافته وضعف انتمائه لتراثه وعقيدته مما هيـأ لهذه الموجة فراغاً امتدت فيه ثقافيّاً وحضاريّاً واجتماعياً وسياسياً .
لقد كان الأدب قديماً ولا يزال حديثاً ، يمثل دوراً خطيراً في حياة المجتمعات وتذوقها ، فالأدب ظاهرة عامة بمعنى أن أفراد المجتمع كلهم يتذوقونه أو على استعداد ظاهرة جمالية وصورة مشتركة للناس جميعاً ، وأن تأثيره يدخل كل نفس فتجد فيه راحتها واستجمامها من عناء الحياة والمطـالب الحياتية .
والظاهرة الأدبية تسيطر على الأفراد بشكل لا يستطيعون الخروج عليها أو تحديه .
ويفسر ” دور كايم ” ذلك بقوله : إن شعور الفرد ليس هو المنبع الذى تفيض منه الظواهر الاجتماعية – أو على حد تعبيره التيارات الاجتماعية – وإنما تأتي هذه الظواهر من الخارج فتتسرب إلى شعور كل فرد ، على الرغم منا ، ومن هنا كانت الموضوعية والميزة .
ومن جهة أخرى نجد الظاهرة الأدبية كغيرها من الظواهر الاجتماعية ، تتشكل وتتخذ سماتها المميزة من عقائد وعادات الجماعة بكل أحوالها ، فتثبت بالتكرار والتعود ، وبهذه القهرية أو الجبرية لا يشعر بها أى فرد في المجتمع ، وهى قهرية أيضاً في الأديب نفسه بدليل بسيط ، وهو أن أديباً أو شاعراً مصريّاً لن يستطيع التعبير عن البيئة الإنجليزية مثلاً ، لأنه ليس عضواً في المجتمع الإنجليزي ، وليس معتاداً عاداته وتقاليده .
وخروج الظاهرة الأدبية من بيئتها إلى عامة المجتمع الإنساني يخدمها في الواقع ولا يضر بها ، إذ أن الأدب يمتاز بأنه للحياة ، كما يمتاز بأنه للمجتمع باعتبار أن له نمطاً ثقـافيّاً معينـّاً يمـيزه عـن غـيره مـن المجتمعات .
كما تتصف الظاهرة الأدبية بأنها تاريخية ، فهى تراث اجتماعي وتاريخي في آن واحد ، وتاريخ الأدب يمثل جزءاً من الدراسات التاريخية ؛ لأنه يحتوي على معلومات قيمة تصور لنا عادات أهل هذه الأمة وتقاليدهم ، وترسم لنا صورة صادقة عن ذوقهم وما سادهم من نظم اجتمـاعية .
فالمطلوب من كل إنسان أن يحمل حضارته وعقيدته ومبادئ مجتمعه ليعرف مركزه في الحياة وعلاقته بالكون والغرض الذى من أجله خلق ، وهذه المبادئ هي الموجهة لأفكار الإنسان وسلوكه وسائر تصرفاته ، ولا يمكن التخلي عنها في شأن من الشئون ، وحيث إن الإنسان اجتماعي بالطبع ، فمن البديهي أن تكون القصيدة والمقالة وغيرهما هى الموجهة له في بناء المجتمع والنظام الذى يختاره له والأساس لإقامة مجتمـع بشـري متـوازن .
ومن الممكن أن يدرك كل إنسان وأن ينفعل كذلك بأية حادثة عيانية مشهودة ، وهذه ظاهرة عامة يتناولها الأدب وينفعل بها ويعبر عنها كل من لديه قدرة على التعبير والمشاركة الوجدانية مع كل متطلبات المجتمع التي ينطق بلسان حاله .
ومن هنا كانت أفكار كل من الكاتب والشاعر وآراؤه منتمية بطبيعتها إلى الجماعة التي يعيش فيها ونابعة بطبيعتها من البيئة التى يتشكل بها . ومن ثم فإن الشاعر يتمثل نظمها فيسير وفقاً لها لا يحيد عنها ولا يخرج عليها . ومن السهل أن نجد في بعض الأعمال الأدبية الإنجليزية صدى في الشعب الفرنسي أو المصري مثلاً ، لأن هناك ظواهر بشرية مشتركة بين الجنس البشري كله كالغرائز الأساسية وما يتفرع منها من إحساسات وعواطف كعاطفة الحب وعاطفة الشفقة أو الخوف أو الغيرة أو غير ذلك .
إن الأديب أو الشاعر من أمته ، وهو يذيع أفكارها ومشاعرها وكل ما يؤثر فيها من أحداث ظاهرة أو باطنة ، وعليه أن يتغلغل إلى الصميم مـن نفسه ومن الوجود وأسراره وأن يؤدى ذلك في قيم تمتع النفوس والقلوب والأرواح .
ولا شك في أن شخصيات كثيرة كان لها أثرها على جبين العصر فضلاً عن تأثيرها في وجدان المجتمع ، ولكن الذى لاشك فيه أيضـاً أن شخصيات بعينها كانت صرخـاتها أعلى وصيحـاتها أقوى بحيث لا يمكن إغفالها أو تغافلها .
وذلك عندما اتصل هؤلاء الأدباء بوجدان المجتمع ، وكان التفاعل معه تفاعلاً مباشراً أو غير مباشر في توجيه الأفراد مع استبصار واع بحركته وتفاعل مع همومه وقضاياه ، وهنا تبرز قضية الالتزام ومـدى مـوقف الشـاعر والأديب المعـاصر منهـا .
ويُراد بالتزام الأديب وجوب مشاركته بالفكر والشعور والفن في القضايا الاجتماعية والإنسانية والسياسية وفيما يعانيه من آلام وما يبنيه من آمـال .
وانعكاس ذلك وصداه في مرآة الشعر والنثر ، وكذا الظروف التى يمر بها المجتمع من المساوئ والسلبيات وانعكاسها بدورها على الحياة الفكرية وما يسودها من ضغوط ، وفى خضم هذه الضغوط احتل الجانب التوعوي الجانب الوجداني في الأدب العربي الحديث في مصر خاصة مكانة بارزة بين فنون الشعر الأخرى ، فكانت مصر هى المحور السياسي والاقتصادي والاجتماعي ، مصر هي الشغل الشاغل للشعراء والأدباء المعاصرين الذين وقفوا طويلاً عند التيارات الفكرية المختلفة يدفعهم في ذلك حب عميق وعاطفة متأججة وأمل في غد أفضل .
ولهذا كان الالتزام التوعوي ضرورة قومية واجتماعية تقع على كاهل الشاعر والأديب المؤمن بقضايا مجتمعه وواقعه الذى يحياه ، وذلك معناه ضرورة احتكاك الأديب بمشكلات عصره وقضاياه حتى يتمكن من أن يجعل من قوة التعبير الفني وسيلة فعالة في تنبيه النفوس إلى ما هى رازحة فيه وتوعيتها بواقعها في مواجهة المعاصرة وغياب مفهوم الحوار في ظل معزوفة الصراع والمناورات والاتهامات التي طمست فكرة محاولة تعرف أنصار كل تيار على أبجديات فكر التيارات الأخرى .
وبهذا تتحدد رسالة الأدب ، فكما أنه تعبير عن النفس في آناتها وأحلامها وآمالها ، فإنه أيضاً لابد أن يكون تعبيراً عن الجموع في كل الظروف الحياتية .
* أستاذ الأدب والنقد وعميد كليات الدراسات الإسلامية والعربية ، جمهورية مصر العربية .