أبو نصر الفارابي وجهوده العلمية مع إشارة خاصة إلى كتابه ” إحصاء العلوم ” ( الحلقة الثانية الأخيرة )

 تدبير الوقت وأثره في الإنتاج العلمي عند الإمام السيوطي
أكتوبر 20, 2020
الإسلام وخطاب الكراهية لأهل الكتاب ( الحلقة الثانية الأخيرة )
أكتوبر 20, 2020
 تدبير الوقت وأثره في الإنتاج العلمي عند الإمام السيوطي
أكتوبر 20, 2020
الإسلام وخطاب الكراهية لأهل الكتاب ( الحلقة الثانية الأخيرة )
أكتوبر 20, 2020

 

أبو نصر الفارابي وجهوده العلمية

مع إشارة خاصة إلى كتابه ” إحصاء العلوم ”

( الحلقة الثانية الأخيرة )

د . ثمامة فيصل *

الباب الثاني : نظرة خاطفة على المساهمات العلمية للفارابي

نبغ الفارابي في علوم وفنون مختلفة من الفلسفة والمنطق والطب والرياضيات والموسيقى وعلم الاجتماع وعلم النفس وما وراء الطبيعة وعلم اللغة [1] .

وألف في جملة من العلوم والفنون . وذكر ابن أبي أصيبعة في العيون ما يزيد عن مأة كتاب مما بين مجلدات ضخمة ورسائل وتعليقات مختصرة من تأليفات الفارابي ، معظمها في الحكمة والفلسفة في شكل تصنيف أو ترجمة أو شرح أو تعليق [2] .

ويقال إنه ألف 17 كتاباً في الطب والاجتماع والموسيقى ، و43 كتاباً في المنطق ، و11 كتاباً في ماورائيات الطبيعة ، و14 كتاباً موزعة بين الأخلاقيات والعلوم السياسية بالإضافة إلى عشرات من الشروح والتعليقات ، وقد فُقِدَ الكثير من مؤلفاته [3] .

ومن أشهر مؤلفاته : آراء أهل المدينة الفاضلة ، وإحصاء العلوم والتعريف بأغراضها ، وإحصاء الإيقاعات في النغم ، والمدخل إلى صناعة    الموسيقى ، وكتاب الموسيقى الكبير ، والآداب الملوكية ، ومبادئ الموجودات ، وإبطال أحكام النجوم ، والسياسة المدنية ، والنواميس ، والخَطابة ، وما ينبغي أن يتقدم الفلسفةَ ، وتحصيل السعادة ، وكتاب الألفاظ والحروف [4] .

ولم يصنف في الكراريس إلا القليل ، فلذلك جاءت أكثر تصانيفه فصولاً وتعاليق ، ويوجد بعضها ناقصاً مبتوراً [5] .

وقد بَوَّبَ المستشرق رشر Rescher مؤلفات الفارابي ورتَّبها على سبعة أقسام ؛ وهي : المنطق 7 كتب ، والخَطابة والشعر 3 كتب ، ونظرية المعرفة 4 كتب ، وما بعد الطبيعة والفلسفة العامة 12 كتاباً ، والفيزيا وعلم الطبيعة 5 كتب ، والموسيقى كتاب واحد ، والأخلاق والفلسفة السياسية 7 كتب [6] . مع أن رشر لم يذكر في تبويبه وتصنيفه إلا القليل من الكتب التي تنسب إلى الفارابي .

أما أسلوب الفارابي في كتبه فقال عنه حسين علي محفوظ : يمتاز أسلوبه التأليفي ونثره العلمي بالقصد والسهولة والوضوح وحسن البيان ودقة التعبير [7] .

وتحدث أحمد علي الملا عن مؤلفات الفارابي وعن أسلوبه قائلاً : وقد سار في عرض أكثرها على أسلوب ممتاز ، بالقصد في اللفظ ، والعمق في المعنى ، مع دقة في التعبير ، وقوة في التماسك ، وحسن الانسجام والنظام في التأليف ، وربط المواضيع ربطاً محكماً منطقياً .

ومن المؤسف حقاً أن تضيع أكثر مؤلفاته أثناء الانقلابات    والفتن ، وقد سلم منها القليل ، ومن هذا القليل ترجم الأوربيون ما وقع في أيديهم [8] . وذكر الباحثون أن عدداً من آثاره قد ترجم إلى اثنتي عشرة   لغة [9] .

مكانة الفارابي في مجال الفلسفة والمنطق :

تعتبر الفلسفة من مميزات الثقافة اليونانية التي انتشرت في بلاد الشرق منذ فتوح الإسكندر الأكبر ، ثم قامت مراكز عديدة في مدن العراق والشام مثل حَرَّان وجُنْدَيسابُور قبل الإسلام . وأقبل المسلمون على علم الفلسفة ترجمةً ودراسةً ونقداً وتأليفاً منذ القرن الثاني الهجري . وظهر منهم فيه العديد من الجهابذة العباقرة في القرون التالية . ويعد أبو يوسف يعقوب الكندي ( 260هـ ) أول فيلسوف عربي كبير ويسمى فيلسوف العرب [10] . والحقيقة أن اليونان هم أساتذة العرب في علم الفلسفة . وقد اعترف غوستاف لوبون Gustave Le Bon في كتابه ” حضارة العرب ” بأن العرب فاقوا أساتذتهم في جميع العلوم التي تقوم على التجربة ، إلا أنهم  – حسب اعتقاده – لم يتفوقوا تفوقاً ملموساً في مجال الفلسفة لأسباب مختلفة ذكرها في كتابه [11] .

وقد ألف الفارابي كتباً قيمةً نافعةً ومتميزةً في علم المنطق والفلسفة تحدث في كثير منها عما كتبه الحكماء والفلاسفة  اليونانيون ، وتناوله شرحاً وتوضيحاً ونقداً وتعليقاً ، كما ألف كثيراً من الكتب قدم فيها أفكاراً جديدةً تدل على طول باعه وعلو كعبه في هذين العلمين .

ويُذكر أن سبب قراءته الحكمةَ أن رجلاً أودع عنده جملةً من كتب أرسطوطاليس ، فاتفق أن نظر فيها ، فوافقت منه قبولاً وتحرك إلى قراءتها ولم يزل إلى أن أتقن فهمها وصار فيلسوفاً بالحقيقة [12] .

ولُقِّبَ الفارابي بالمعلم الثاني بحيث يعتبر أرسطو المعلم الأول . وكان اهتمام الفارابي بكتب أرسطو وآرائه شديداً للغاية ، فدرسها دراسةً عميقةً ثم شرحها وانتقدها وعلق عليها وأضاف إليها أفكاراً جديدةً وآراء سديدةً ، فسمي المعلم الثاني . ويقال إنهم سألوه : أأنت أعلم أم أرسطو ؟ فقال : لو أدركته لكنت أكبر تلامذته [13] .

وذكر محمد فارس في كتابه ” موسوعة علماء العرب ” كتاب الفصوص ضمن كتب الفاربي في الفلسفة ، وقال إنه كان مرجعاً للدارسين في جامعات العالم وما زال يدرس في بعض الجامعات الشرقية [14] .

ويقال : إن الفارابي قد مزج الفلسفة بالتصوف [15] ، وإنه أول فيلسوف في الإسلام نظر إلى الفلسفة نظرةً شاملةً ، وكانت فلسفته تعتمد على ثلاثة جوانب رئيسية هي : الفلسفة اليونانية وتعاليم الإسلام والعقل [16] .

وكان للفارابي اهتمام خاص بالتوفيق بين الفلاسفة وآرائهم . فكان يؤمن بوحدة الفلسفة ، وأن كبار الفلاسفة يجب أن يتفقوا فيما بينهم ، فحاول أن يجمع في كتبه بين رأي أرسطو وأفلاطون ، وأبقراط وأفلاطون ، وجالينوس وأرسطوطاليس ، وألف كتابه ” الجمع بين رأي الحكيمين : أفلاطون الإلهي وأرسطوطاليس ” ، وكان قد أخذ على عاتقه أن يبين أن مظان هذا الخلاف لا أساس لها ، وحاول على طريقته الجمع بين رأي الحكيمين ، فيرد أفلاطون إلى أرسطو تارةً ، وأرسطو إلى أستاذه تارةً أخرى ، وإذا عز عليه المزج بينهما قرب مسافة الخلف ما  وسعه [17] .

ويعد الفارابي رائد الفلسفة السياسية ، فهو الذي أسس بنيانها ورسخ قواعدها ، فأشار إلى ذلك الدكتور محمد آيت حمو في كتابه     ” الدين والسياسة في فلسفة الفارابي ” وقال : ولعله من نافلة القول أن نؤكد بأن الفلسفة السياسية تبتدئ دائماً بالفارابي ، ويكفينا لكي نبتين هذا الأمر بجلاء أن نلقي نظرةً خاطفةً على الكتب والرسائل العديدة التي دبجها هذا الفيلسوف في الفلسفة السياسية [18] .

وقال عباس محمود العقاد متحدثاً عن كتابه ” آراء أهل المدينة الفاضلة ” ، وهو من أشهر كتب الفارابي : ويمتاز الفارابي من بين فلاسفة الإسلام بأنه عالج البحث في السياسة من الناحية الفلسفية الخالصة . . . والمدينة الفاضلة اسم أطلقه الفارابي على المثل الأعلى للحكم ، ويريد به المدينة التي تحقق لأعضائها السعادة القصوى في الدارين [19] . واستعان الفارابي في وضع آرائه في هذا الكتاب من فلسفة اليونان وبخاصة كتاب الجمهورية لأفلاطون ، كما استعان بالإسلام وأحكامه ، وأضاف إلى هذا كله تجاربه وخبراته ، فكانت مدينته الفاضلة مدينة جديدة ، أحسن فيها الاختيار والاقتباس ، وأحسن فيها المزج والاستنباط ، فظهرت فيها قواعد سامية وأصول علمية ، يجدر بكل أمة السير عليها والاقتراب منها [20] .

وأما اهتمامه الخاص بالمنطق فقال عنه أحمد علي الملا : ويرى كثيرون أن اهتمام الفارابي بالمنطق بهذا الاهتمام العظيم ، قد أثر في التفكير عند العرب ، وتقدم به خطوات ، فقد اعتبره آلةً للفلسفة ، وأداةً يمكن بواسطتها الوصول إلى التفكير الواضح الصحيح [21] . وقد قال الفارابي عن أهمية المنطق : المنطق هو العلم الذي نعلم به الطرق التي توصلنا إلى تصور الأشياء ، وإلى تصديق تصورها على حقيقتها [22] .

وقد أثنى على كتبه في المنطق والفلسفة ابن صاعد في طبقات الأمم قائلاً : فجاءت كتبه في ذلك الغاية الكافية والنهاية الفاضلة .  وقال : الفارابي فيلسوف المسلمين بالحقيقة . . . فبذَّ جميعَ أهل الإسلام وأربى عليهم في التحقيق لها وشرح غامضها وكشف سرها وقرب    تناولها ، وجمع ما يحتاج إليه منها ، في كتب صحيحة العبارة لطيفة الإشارة ، منبها على ما أعيا الكنديَ وغيرَه من صناعة التحليل وأنحاء التعاليم [23] .

وقال ابن خلكان في وفيات الأعيان : هو أكبر فلاسفة المسلمين ولم يكن فيهم من بلغ رتبته في فنونه [24] .

وقال عنه ابن أبي أصيبعة في عيون الأنباء : وكان رحمه الله فيلسوفاً كاملاً ، وإماماً فاضلاً ، قد أتقن العلوم الحكمية ، وبرع في العلوم الرياضية ، زكي النفس ، قوي الذكاء ، متجنباً عن الدنيا ، مقتنعاً منها بما يقوم بأوده ، يسير سيرة الفلاسفة المتقدمين ، وكانت له قوة في صناعة الطب ، وعلم بالأمور الكلية منها ، ولم يباشر أعمالها ولا حاول جزئياتها [25] .

ووصفه الإمام الذهبي بشيخ الفلسفة الحكيم وأحد الأذكياء [26] .

واطلع المؤرخون الغربيون على فلسفة الفارابي ودرسوها وتأثروا  بها ، وخرجوا بالقول : إن الفارابي مؤسس الفلسفة العربية الحقيقي . وممن أثنى عليه من فلاسفة الغرب ” روجر بيكون ودي فو ” . وقد قدمه دي فو على ابن سينا حيث قال : إن الفارابي شخصية قوية وغريبة حقاً وهو عندي أعظم جاذبية وأكثر طرافة من ابن سينا ، لأن روحه كانت أكثر تدفقاً وجيشاناً ، ونفسه أشد تأججاً وحماساً [27] . ومن العجيب أن مستشرقاً كبيراً وباحثاً معروفاً مثل غوستاف لوبون يتحدث عن الفلسفة العربية والإسلامية في كتابه ” حضارة العرب ” ، ويهمل ذكر فيلسوف عربي فذ وعظيم مثل الفارابي ولا يذكر فيه من فلاسفة العرب إلا ابن رشد الأندلسي [28] .

وكانت للفارابي معرفة واسعة بعلم الموسيقى وألف فيه كتاباً . ومما يدل على طول باعه في هذا الفن القصة التي أوردها المؤرخون في كتبهم تثبت بها براعته في فن الموسيقى [29] . ويحكى أن الآلة الموسيقية المسماة بالقانون من وضع الفارابي ، وهو أول من ركبها هذا التركيب [30] . ولعله أخذها عن الفرس فوسعها وزادها إتقاناً فنسبها الناس إليه [31] . وجاء في العيون : وكان في صناعة الموسيقى وعملها قد وصل إلى غايتها وأتقنها إتقاناً لا مزيد عليه [32] .

وفي الموسيقى يشتهر للفارابي كتاب الموسيقى الكبير الذي أورد فيه شروحاً في علم الموسيقى إلى جانب ابتكاراته الموسيقية واختراعاته في الآلات الموسيقة وفي الأنغام والإشارات الموسيقية [33] .

وكان الفارابي يملك ناصية اللغة العربية ، وهذا يبدو واضحاً من أسلوبه الرائع في مؤلفاته ، فوضع المآت من المصطلحات اللغوية والموسيقية والعلمية والفلسفية والاجتماعية والسياسية [34] .

وقرض الفارابي بعض الأبيات ، إلا أن ما عُثِرَ عليه من شعره نزر قليل ، فمنه ما أورده ابن خلكان في الوفيات :

أخـــي خـــل حـــيز ذي باطل  وكــــن للــــحــقـائق في حيز

فـــمـــا الدار دار مــــقام لـنـا  وما المرء في الأرض بالمعجز

يـــنــافــس هـــذا لهـــذا علـى  أقـــل مـــن الــــكـــلم الـوجز

وهل نحن إلا خطوط وقعن  عـــلـــى نـــقطة وقع مستوفز

مــحيط السماوات أولى بـنا  فـــمـاذا التنافس في مركز

وقال ابن خلكان إنه رأى هذه الأبيات في الخريدة منسوبةً إلى محمد بن عبد الملك الفارقي البغدادي الدار [35] . وقال عنه الذهبي : ولأبي نصر نظم جيد ، وأدعية مليحة على اصطلاح الحكماء [36] . وقد ذكر ابن أبي أصيبعة في ترجمته أحد عشر بيتاً منسوبةً إليه [37] . هذا وقد كتب الباحث العراقي الدكتور محمد باقر مقالةً علميةً حقق فيها ما ينسب إلى الفارابي من الشعر . ويقول باقر في مطلع مقالته : لا تشكل أشعار الفارابي إلا جزءاً صغيراً جداً من نتاجه الضخم ، ولكن لهذه الأشعار أهمية بالغة في معرفة شخصية الفارابي ، ذلك لأنها تمثل الجانب العاطفي من هذه الشخصية الفذة [38] . وأما شك ابن خلكان في الأشعار التي ذكرها في الوفيات ونسبها إلى الفارابي وقال : إنه وجدها منسوبةً إلى الفارقي ، فيقول باقر بهذا الشأن : فالأبيات – كما تدل عليه هذه العبارات صراحةً – ليست من كلام الفارقي ، إنما هي لبعض الأدباء [39] .

وبرع في العلوم الرياضية وكانت له قوة في صناعة الطب كما أشار إلى ذلك ابن أبي أصيبعة في العيون [40] .

ومن تلامذته المعروفين : أبو بكر ابن السراج النحوي ، وأبو زكريا يحى بن عدي المنطقي ، وأبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله البغدادي . وسلك طريقته واتبع منهجه مشاهير الفلاسفة والمفكرين ولا سيما جماعة إخوان الصفا ، وابن سينا ، وابن رشد ، والفخر الرازي ، فقرأوا كتبه ، وانتفعوا بآرائه ، واقتدوا به ، ونحوا نحوه [41] .

الباب الثالث : كتاب ” إحصاء العلوم ” للفارابي :

التعريف بمختلف العلوم والفنون وتعيين حدودها وأبعادها من الموضوعات التي تناولها العديد من علمائها القدامى والمحدثين . ومنهم من أفرد لهذا الموضوع كتباً مستقلةً مثل الفارابي في إحصاء العلوم وابن النديم في الفهرست والخوارزمي في مفاتيح العلوم وابن خلدون في المقدمة والقلقشندي في صبح الأعشى والنواب صديق حسن خان في أبجد العلوم . وكان قد سبق العربَ الفيلسوفُ اليوناني أرسطو إلى تصنيف العلوم وتقسيمها .

لقد نال كتاب إحصاء العلوم لأبي نصر الفارابي مكانةً مرموقةً في الحضارة العربية الإسلامية ولاقى شهرةً واسعةً في القرون الوسطى في الحضارة اللاتينية ، فمنذ القرن الثاني عشر ترجم إلى اللاتينية ، وقد عرف كتاب إحصاء العلوم في القرون الوسطى في الغرب بعنوان ” في العلوم ” وظُنَّ مدة طويلة أنه بنصه العربي مفقود ، ولم ينشر في العربية إلا سنة 1921م في مجلة العرفان بصيدا لبنان بتحقيق الشيخ محمد رضا الشبيبي ، ثم ظهرت في القاهرة طبعة أخرى سنة 1931م بتحقيق الأستاذ عثمان أمين ، وفي مدريد ظهرت طبعة مع ترجمة إسبانية للكتاب سنة 1932م بتحقيق ” فونز أليس يالنسيا ” ، ثم قام الأستاذ عثمان أمين بطبعة جديدة مقارنة مع الترجمة اللاتينية واعتمد على كثير من المخطوطات للكتاب ونشره في القاهرة 1968م [42] . ونسخة الإحصاء التي اعتمدتُ عليها في هذا البحث هي طبعة دار ومكتبة الهلال ببيروت التي نشرت عام 1996م بشرح وتعليق بو علي ملحم . وتقع هذه النسخة في أربعة وتسعين صفحة .

لقد حاول الفارابي في هذا الكتاب أن يحصي العلوم المعروفة في عصره ومجتمعه ، أي في القرن العاشر للميلاد ، وفي العصر العباسي الثاني ، عندما بلغت الحضارة العربية أوج نضجها وازدهارها ، وبدأت تؤتي ثمارها الشهية [43] .

ولم يكتف الفارابي في إحصاء العلوم بمجرد ذكر مختلف العلوم والفنون الشائعة في عصره ، بل اهتم بترتيبها وتصنيفها ، فالذي يقرأ هذا الكتاب يستطيع أن يقارن ويقايس بين تلك العلوم ويعرف أيها أفضل وأيها أنفع [44] .

وقد جمع الفارابي في إحصاء العلوم بين علوم الحكمة المنبثقة من التراث اليوناني والعلوم الدينية النابعة عن التراث العربي الإسلامي ، فأشار إلى ذلك محمد آيت حمو في كتابه ” الدين والسياسة في فلسفة الفارابي ” حيث قال : فإن الأمانة العلمية تفترض علينا القول بأن الفارابي قد جمع قليلاً أو كثيراً في بعض تآليفه بين علوم الحكمة وعلوم الملة ، دليلنا في ذلك كتاب إحصاء العلوم [45] .

وقد أشار الفارابي إلى هدف تأليفه هذا الكتابَ في مستهله حيث قال : قصدنا في هذا الكتاب أن نحصي العلوم المشهورة علماً علماً ، ونعرف جمل ما يشتمل عليه كل واحد منها ، وأجزاء كل ما له منها أجزاء ، وجمل ما في كل واحد من أجزائه [46] .

وتابع قائلاً مبيناً هدفه من وضعه هذا الكتاب : وبهذا الكتاب يقدر الإنسان على أن يقيس بين العلوم ، فيعلم أيها أفضل ، وأيها أنفع ، وأيها أتق وأوثق وأقوى ، وأيها أوهن وأوهى وأضعف [47] .

وقال : ويتبين أيضاً هل يحسن ( الدارس ) علماً منها هل يحسن جميعه ، أو بعض أجزائه ، وكم مقدار ما يحسنه [48] .

وقسم الفارابي هذه العلوم بشكل أساسي إلى خمسة فصول أشار إليها مجملة في مقدمته المختصرة للكتاب حيث قال : ونجمله خمسة فصول :

الأول : في علم اللسان وأجزائه

الثاني : في علم المنطق وأجزائه

الثالث : في علوم التعاليم

الرابع : في العلم الطبيعي وأجزائه ، وفي العلم الإلهي وأجزائه

الخامس : في العلم المدني وأجزائه ، وفي علم الفقه وعلم الكلام [49]

ثم تحدث عن كل علم من هذه العلوم بالتفصيل ، وحدد تعريفه وأبعاده وأغراضه ومستوياته . ففي الفصل الأول تحدث عن علم اللسان ، ثم عن علم قوانين الألفاظ المفردة ، وعلم قوانين الألفاظ المركبة ، وعلم قوانين الكتابة وتصحيح القراءة ، وعلم الأشعار [50] . وهكذا يحتوي كل فصل على التفاصيل والجزئيات والتعريفات لكل علم من العلوم المذكورة في الكتاب .

وقال القاضي ابن صاعد القرطبي في ” طبقات الحكماء ” عن هذا الكتاب : ثم له ( أي للفارابي ) بعد هذا كتاب شريف في إحصاء العلوم والتعريف بأغراضها ، لم يُسْبَقْ إليه ولا ذهب أحد مذهبه فيه ، ولا يستغني طلاب العلوم كلها عن الاهتداء به وتقديم النظر فيه [51] .

وجاء في كتاب ” موسوعة علماء العرب ” عن الإحصاء : في تصنيف العلوم يشتهر كتابه : كتاب إحصاء العلوم ، وقد ورد فيه إلى الجانب التقسيمي المبادئ الأساسية للعلوم ، وهو كتاب متميز في    مجاله [52] .

ويعد الفارابي أول من عني بإحصاء العلوم بين العلماء العرب . وذهب بعض الباحثين الغربيين إلى أن هذا الكتاب يدل على أن الفارابي هو أول من وضع النواة لدوائر المعارف في العالم . وقد أيد هذا القول مصطفى عبد الرزاق في كتابه وفيلسوف العرب الفارابي حيث قال : ولعل ما نسميه اليوم الموسوعة أو دائرة المعارف أو المعلمة لا يخرج في الجملة عن أن يكون من هذا الباب ، فليس مجانباً للحق قول من يرى أن الفارابي هو أول من وضع دائرة معارف ، ولسنا نعرف من قبل الفارابي من قصد إلى تدوين جملة المعارف الإنسانية في زمنه موطأةً مجملةً يسهل تناولها على المتأدبين [53] .

وقال حسين علي محفوظ في كتابه الفارابي في المراجع العربية متحدثاً عن هذا الكتاب : يعد كتابه في ” إحصاء العلوم ” بداية التفكير في تدوين دوائر المعارف وتأليف الموسوعات [54] .

وقد قدم الفارابي المنطق على سائر العلوم في إحصاء العلوم ؛ لأن صناعة المنطق – كما قال هو بنفسه في الإحصاء – تعطي بالجملة القوانين التي شأنها أن تُقَوِّم العقل وتسدد الإنسان نحو طريق الصواب ونحو الحق في كل ما يمكن أن يغلط فيه من المعقولات ، والقوانين التي تحفظه وتحوطه من الخطأ والزلل [55] .

وقد أشار الفارابي إلى أهمية علم المنطق وتقدمه على العلوم الأخرى في كتابه التنبيه على السعادة أيضاً حيث قال : فإن قوانين المنطق عامة كلية لا بد من مراعاتها في أي علم ؛ لأنها تعصم الذهن من الزلل في الأحكام ، ولذلك وجب تقديم الكلام فيها قبل الخوض في سائر العلوم لحاجة إليها [56] .

ويرى الدكتور صالح الحمارنة أن الفارابي ألف كتابه إحصاء العلوم بعدما جرى البحث والنقاش بين معاصريه حول أفضلية بعض العلوم على الأخرى ، فأراد أن يبين الخطوط العريضة بكل علم ، ويشرح أغراضه وأبعاده ، فألف كتابه إحصاء العلوم ، جمع فيه العلوم الرائجة في عصره وحددها وعرف بها [57] .

* أستاذ مساعد ، قسم اللغة العربية ، جامعة مولانا آزاد الوطنية الأردية ، فرع لكناؤ ، sumamaid@gmail.com

[1] موسوعة علماء العرب ، لمحمد فارس ، ص 71 .

[2] عيون الأنباء ، لابن أبي أصيبعة ، ص 608 .

[3] موسوعة علماء العرب ، لمحمد فارس ، ص 72 .

[4] عيون الأنباء ، لابن أبي أصيبعة ، ص 608 ، وإخبار العلماء بأخبار الحكماء ، للقفطي ، ص 183 ، والأعلام ، للزركلي ، ص 20 ، وأثر العلماء المسلمين في الحضارة الأوربية ، لأحمد علي الملا ، ص 202 ، والفارابي في المراجع العربية ، لحسين علي محفوظ ، ص 21 .

[5] وفيات الأعيان ، لابن خلكان ، ج 5 ، ص 156 .

[6] الفارابي في المراجع العربية ، لحسين علي محفوظ ، ص 31 .

[7] المصدر السابق ، ص 18 .

[8] أثر العلماء المسلمين في الحضارة الأوربية ، لأحمد علي الملا ، ص 202 .

[9] الفارابي في المراجع العربية ، لحسين علي محفوظ ، ص 18 .

[10] أضواء على تاريخ العلوم عند المسلمين ، لمحمد حسين محاسنة ، ص 221 .

[11] حضارة العرب ، لغوستاف لوبون ، ص 458 .

[12] عيون الأنباء ، لابن أبي أصيبعة ، ص 604 .

[13] سير أعلام النبلاء ، للإمام الذهبي ، ج 15 ، ص 418 .

[14] موسوعة علماء العرب ، لمحمد فارس ، ص 72 .

[15] المصدر السابق ، ص 71 .

[16] أضواء على تاريخ العلوم عند المسلمين ، لمحمد حسين محاسنة ، ص 224 .

[17] أثر العرب والإسلام في النهضة الأوربية ، لجماعة من الباحثين ، ص 148 ، وانظر الفارابي في المراجع العربية ، لحسين علي محفوظ ، ص 17 .

[18] الدين والسياسة في فلسفة الفارابي ، لمحمد آيت حمو ، ص 5 .

[19] نقلاً عن أثر العلماء المسلمين في الحضارة الأوربية ، لأحمد علي الملا ، ص 205 .

[20] المصدر السابق ، ص 205 .

[21] المصدر السابق ، ص 203 .

[22] المصدر السابق ، ص 204 .

[23] طبقات الأمم ، لابن صاعد ، ص 53 .

[24] وفيات الأعيان ، لابن خلكان ، ج 5 ، ص 153 .

[25] عيون الأنباء ، لابن أبي أصيبعة ، ص 603 .

[26] سير أعلام النبلاء ، للإمام الذهبي ، ج 15 ، ص 416 .

[27] أثر العلماء المسلمين في الحضارة الأوربية ، لأحمد علي الملا ، ص 203 .

[28] حضارة العرب ، لغوستاف لوبون ، ص 458 .

[29] وفيات الأعيان ، لابن خلكان ، ج 5 ، ص 155 ، وسير أعلام النبلاء ، للإمام الذهبي ،  ج 15 ، ص 417 .

[30] وفيات الأعيان ، لابن خلكان ، ج 5 ، ص 156 ، وسير أعلام النبلاء ، للإمام الذهبي ،  ج 15 ، ص 417 .

[31] الأعلام ، لخير الدين الزركلي ، ج 7 ، ص 20 .

[32] عيون الأنباء ، لابن أبي أصيبعة ، ص 604 .

[33] موسوعة علماء العرب ، لمحمد فارس ، ص 72 ، وانظر : الفارابي والحضارة الإنسانية ، ص 236 .

[34] الفارابي في المراجع العربية ، لحسين علي محفوظ ، ص 18 .

[35] وفيات الأعيان ، لابن خلكان ، ج 5 ، ص 156 .

[36] سير أعلام النبلاء ، للإمام الذهبي ، ج 15 ، ص 418 .

[37] عيون الأنباء ، لابن أبي أصيبعة ، ص 607 .

[38] شعر الفارابي ، للدكتور محمد باقر ، نقلاً من كتاب : الفارابي والحضارة الإنسانية ، ص 301 .

[39] شعر الفارابي ، للدكتور محمد باقر ، نقلاً من كتاب : الفارابي والحضارة الإنسانية ، ص 303 .

[40] عيون الأنباء لابن أبي أصيبعة ص603.

[41] الفارابي في المراجع العربية لحسين علي محفوظ ص18.

[42] كتاب إحصاء العلوم والمنهج العلمي ، مقال لصالح الحمارنة ، أخذاً من كتاب الفارابي والحضارة الإنسانية ، ص 59 .

[43] مقدمة الإحصاء بقلم شارحه بو علي ملحم ، ص 5 .

[44] كتاب إحصاء العلوم والمنهج العلمي ، مقال لصالح الحمارنة ، أخذاً من كتاب الفارابي والحضارة الإنسانية ، ص 61 .

[45] الدين والسياسة في فلسفة الفارابي ، لمحمد آيت حمو ، ص 92 .

[46] إحصاء العلوم ، للفارابي ، ص 15 .

[47] إحصاء العلوم ، للفارابي ، ص 16 .

[48] إحصاء العلوم ، للفارابي ، ص 16 .

[49] إحصاء العلوم ، للفارابي ، ص 16 .

[50] إحصاء العلوم ، للفارابي ، ص 17 – 25 .

[51] طبقات الأمم ، لابن صاعد ، ص 53 .

[52] موسوعة علماء العرب ، لمحمد فارس ، ص 72 .

[53] فيلسوف العرب والمعلم الثاني ، لمصطفى عبد الرزاق ، ص 54 .

[54] الفارابي في المراجع العربية ، لحسين علي محفوظ ، ص 18 .

[55] إحصاء العلوم ، للفارابي ، ص 27 .

[56] التنبيه على السعادة ، نقلاً عن الفارابي والحضارة الإنسانية لمجموعة من الباحثين ،      ص 56 .

[57] كتاب إحصاء العلوم والمنهج العلمي ، مقال لصالح الحمارنة ، أخذاً من كتاب : الفارابي والحضارة الإنسانية ، ص 55 .