التفسير الموضوعي لسور القرآن العظيم
ديسمبر 23, 2024الإفتاء في الإسلام نشأته .. أعلامه .. مؤلفاته
يناير 28, 2025قرأت لك :
أبو حنيفة : حياته وعصره ، آراؤه وفقهه
للشيخ محمد أبي زهرة المصري
عرض : الباحث محمد مرغوب الرحمن الندوي *
الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطي التيمي الكوفي وُلد في سنة ثمانين من الهجرة ، وتتلمذ على الإمام حماد في السنة الثانية والعشرين من عمره ، ولازمه إلى الأربعين ، ثم جلس على منصب التدريس في سن الأربعين من عمره ، وتوفي في سنة خمسين ومائة ، فتم له من العمر سبعون سنة .
آراء وأفكار :
وأبو حنيفة أحد أئمة الإسلام والسادة الأعلام ، وأحد الأئمة من أصحاب المذاهب المتبعة ، ما في ذلك من ريب ، ومع ذلك كان بحراً زاخراً من بحور العلم ومفكراً سليم التفكير ، وقد اطلع الإمام على جميع العلوم الإسلامية والعلوم الأخرى المهمة ، وله خبرة في مجال الشريعة الإسلامية ، وعمق في التفكير وسعة معرفة الإسلام ، ومما يدل على ذلك ما كتبه ” أبو زهرة ” في كتابه ” أبو حنيفة حياته وعصره ، آراؤه وفقهه ” تحت هذا العنوان : ” آراء لأبي حنيفة في الفكر والأخلاق والاجتماع ” ، فيقول :
” امتاز أبو حنيفة ( رحمه الله ) في عقله بأنه بعيد الغور في تفكيره ، عميق النظرة ، شديد الغوص في تعرف البواعث والأسباب والغايات لكل ما يقع تحت نظره من أعمال وأمور ، ولقد كان يغشى الأسواق ، ويتجر ويعامل الناس ، ويدرس الحياة كما يدرس الفقه والحديث ، ويجادل الرجال في شئون العقيدة ومناهج السياسة ، لذلك أثرت عنه آراء محكمة في مناهج الفكر ، وأخلاق الناس ، ومعاملتهم ، وما ينبغي أن يتبعه الشخص معهم ، ولننقل لك طائفة من مأثور قوله تبين منحى فكره ، ونظراته إلى الحياة والاجتماع ” .
ويقول ( الإمام أبو حنيفة ) في كتاب ” العالم والمتعلم ” : ” اعلم أن العمل تبع للعلم ، كما أن الأعضاء تبع للبصر ، والعلم مع العمل اليسير أنفع من الجهل مع العمل الكثير ، ومثل ذلك : الزاد القليل الذي لا بد منه في المفازة مع الهداية بها أنفع من الجهل مع الزاد الكثير ، وكذلك قال الله تعالى : ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو ٱلأَلْبَابِ ) . قال المتعلم لأبي حنيفة رحمه الله : أرأيت إن كان رجل يصف عدلاً ، ولا يعرف جور من يخالفه ولا عدله ، أيسعه ذلك أن يقال : إنه عارف بالحق أو هو من أهله ؟ فأجابه العالم : إذا وصف عدلاً ، ولم يعرف جور من يخالفه ، فإنه جاهل بالعدل والجور ” .
رسالة تاريخية لأبي حنيفة :
واستطرد أبو زهرة قائلاً : ” آراء أبي حنيفة في الناس والاجتماع ، وعلاقة العالم بالمجتمع الذي يعيش فيه آراء عالم خبير بأحوال النفوس ، دارس لها ، متعمق في دراستها ، فاحص لأحوالها ، قد ذاق حلوها ومرها ، وقد اشتملت وصيته التي ودع بها تلميذه يوسف بن خالد السمتي على شيئ كثير من محكم تفكيره ، ولننقل لك زبداً منها ، فقد جاء فيها :
” اعلم أنك متى أسأت عشرة الناس صاروا لك أعداء ، ولو كانوا لك أمهات وآباء ، وإنك متى أحسنت عشرة قوم ليسوا لك بأقرباء صاروا لك أمهات وآباء ، كأنك وقد دخلت البصرة ، وأقبلت على المخالفة بها ، ورفعت نفسك عليهم ، وتطاولت بعلمك لديهم ، وانقبضت عن معاشرتهم ومخالطتهم ، وهجرتهم وهجروك وشتمتهم وشتموك ، وضللتهم وضللوك وبدعوك ، واتصل ذلك الشين بنا وبك ، واحتجت إلى الهرب والانتقال عنهم . وليس هذا برأي ، إنه ليس بعاقل من لم يدار من ليس له من مداراته بد ، حتى يجعل الله مخرجاً . . . . إذا دخلت البصرة ، . . . فأنزل كل رجل منزلته ، وأكرم أهل الشرف ، وعظم أهل العلم ووقر الشيوخ ، ولاطف الأحداث ، وتقرب من العامة ودار الفجار ، واصحب الأخيار ، ولا تتهاون بسلطان ، ولا تحقرن أحداً ، ولا تقصرن في مروءتك ، ولا تخرجن سرك إلى أحد ، ولا تثق بصحبة أحد حتى تمتحنه ، ولا تخادن خسيساً ولا وضيعاً ، ولا تألفن ما ينكر عليك في ظاهره ، وإياك والانبساط إلى السفهاء . . . وعليك بالمداراة والصبر والاحتمال وحسن الخلق وسعة الصدر ، واستجد ثياب كسوتك ، واستفره دابتك ، وأكثر استعمال الطيب ، . . . وخذ العفو و أمر بالمعروف ، وتغافل عما لا يعنيك ، واترك كل ما يؤذيك وبادر في إقامة الحقوق ، ومن مرض من إخوانك فعده بنفسك ، وتعاهده برسلك ومن غاب منهم افتقدت أحواله ، ومن قعد منهم عنك فلا تقعد أنت عنه . . . وأعط كل من يختلف إليك نوعاً من العلم ينظرون فيه ، ويأخذ كل واحد منهم بحظ شيئ من ذلك ، وخذهم بجلي العلم دون دقيقه ، وآنسهم ومازحهم أحياناً ، وحادثهم ، فإن المودة تستديم مواظبة العلم ، وأطعمهم أحياناً ؛ واقض حوائجهم ، واعرف مقدارهم ، وتغافل عن زلاتهم ، وارفق بهم ، وسامحهم ، ولا تبد لأحد منهم ضيق صدر أو ضجر ، وكن كواحد منهم ، . . . واستعن على نفسك بالصيانة لها ، والمراقبة لأحوالها ، . . . ولا تكلف الناس ما لا يطيقونه ، وارض لهم ما رضوا لأنفسهم ، وقدم إليهم حسن النية ، واستعمل الصدق ، واطرح الكبر جانباً ، وإياك والغدر ، وإن غدروا بك ، وأدِّ الأمانة وإن خانوك ، وتمسك بالوفاء ، واعتصم بالتقوى ، وعاشر أهل الأديان ، وأحسن معاشرتهم ” .
دلالات ومعارف :
استطرد الكلام أبو زهرة وهو يبين ما في هذه الوصية من آراء فيقول : هذه وصية الإمام أبي حنيفة لبعض تلاميذه وقد فارقه إلى البصرة ، يعلم أهلها فقه الكوفة ، وآراء شيوخها ، وهي تكشف عن ثلاث نواح في ذلك الإمام الجليل :
أولاها : أنها تكشف عن أخلاقه وقوة استمساكه بالفضيلة ، وقد صارت له ملكة كالطبع والجبلة ، وليس بغريب أن تكون أخلاق الإمام على ذلك النحو فقد راض نفسه على مكارم الأخلاق ، والبعد عن سفساف الأمور ، حتى لقد كان يترك المعاصي لأنها تنافي المروءة ، لا لأنها تنافي الدين فقط ، فقد كان يقول : رأيت المعاصي مذلةً ، فتركتها مروءةً ، فصارت ديانةً .
الناحية الثانية : دراية أبي حنيفة بشئون الاجتماع وأخلاق الناس ، وما يعالجون به ، وقد انتهى رحمه الله في علاجه إلى أن مصلح الجماعة يجب أن يكون ودوداً ، يألف ويؤلف ، لا يخالف ولا ينافر ، بل يجيئ إلى الناس من ناحية ما يألفون ويطيقون ، لا من ناحية ما ينكرون ، فإذا كان له رأي يخالفهم فيه لا يفجؤهم بالمخالفة ، حتى لا تجمح نفوسهم ، بل يقرر رأيهم ثم يقرر أن هناك ما يخالفه ؛ ويدلي برأيه من غير أن ينسبه إليه ، ويدعمه بالحجة ، ويقويه بالبرهان ، فإن سألوه عن صاحب هذا الرأي قال : إنه بعض الفقهاء ، وبذلك يقبلون الرأي من غير اصطدام .
الناحية الثالثة : التي تكشف عنها هذه الوصية ناحية المربي الذي يتعهد تلاميذه ، والذي يعرف كيف يبث فيهم علمه وآراءه ، ويقربها إليهم ، وهو في ذلك يعطي نصائح الخبير المجرب ، فهو يدعو المعلم إلى أن يعطي تلاميذه من أنواع العلم وأبوابه ما يتفق مع مواهبهم ونزوعهم ومداركهم ، حتى يستأنسوا به ، ولا يتقدم لهم من العلم أولاً ما يخالف منازعهم ، فينفروا ، ثم يبتدئ من المسائل بالواضح الجلي ، ويتدرج بهم حتى يصير إليهم الخفي واضحاً جلياً ، ويوصي المربي بأن يحادث تلاميذه في فنون الأحاديث ليجلب مودتهم ، ويستديم مواظبتهم ، ثم يدعو إلى أن يمازجهم ويؤنسهم ، ويتغافل عن زلاتهم ، ويرفق بهم ويسامحهم ، ولا يضيق صدره حرجاً بهم ، وليكن كواحد منهم .
وإن من عالج الدرس وخبر التعليم ليعرف قيمة تلك النصائح وجدواها في النفوس ، وأثرها في تحبيب الطلبة للعلم ، وتسهيله عليهم ، وتشويقهم إليه ، ومكانة آراء أبي حنيفة في الفكر والأخلاق والاجتماع . والله ولي التوفيق .
* مجمع البحوث والدراسات الشرعية لندوة العلماء ، لكناؤ .