أثر اللغة واللباس على خلق الإنسان ودينه
سبتمبر 15, 2020دراسة حول السيرة النبوية
سبتمبر 15, 2020
وصف الطبيعة في شعر ابن خفاجة الأندلسي
الدكتورمحمد شمس الدين *
ملخص البحث :
يعد أبو الفتح إبراهيم بن خفاجة من أكبر شعراء الأندلس في وصف الطبيعة الأندلسية وقد امتازت أرض الأندلس بجمال الطبيعة وخصوبة الأرض والأنهار الجارية والحدائق الغناء والجبال الشامخة والأودية الخضراء الواسعة ، إذ يمتد عصره بين ( 450هـ – 533هـ ) ، وكانت ولادته في جزيرة ( شقر ) ، وقد وهب الله هذه الجزيرة أيضاً طبيعةً ساحرةً من أنهار وأزهار ورياض وبساتين ، وهذه الطبيعة قد سحرت ابن خفاجة واستولت على لبه وعقله ، بل إن هذه الصلة الوثيقة بها قد أثرت في نفسه تأثيراً بالغاً ، فابن خفاجة اعتنى بوصف مظاهر الطبيعة الأندلسية كالنواوير والأزهار والأشجار والأنهار والبرك والبحار وما إلى ذلك من المظاهر الحية والجامدة ، وليس عجيباً أن يصفه النقاد الأندلسييون بـ ( جنان الأندلس ) أو لقبوه بـ ( صنوبري الأندلس ) .
يعد شعره من النوع الوجداني الإبداعي المملوء بالصور الجميلة والأخيلة الرائعة ، واشتمل شعره على جميع الأغراض الشعرية المتداولة : الغزل ، والرثاء ، والمدح ، والفخر ، والشكوى ، وما إلى ذلك ، ولكن اشتهر بوصف الطبيعة ومناظرها الجميلة الساحرة ، وفي الجانب الآخر نجد في جميع أغراضه الشعرية لون وصف الطبيعة ، حتى إنه قد مزج الطبيعة بالرثاء ، إن ابن خفاجة قد أقدم في جرأة على هذا النهج الجديد من مزج الطبيعة بالرثاء الذي لا شك فيه ، ذلك لأن الطبيعة الفاتنة تمثل مولد الحياة وبهجتها وغناءها وبسمتها ، والرثاء نهاية الحياة وآلامها ، وبكاؤها والحسرة عليها ، وهذا الجمع بين نقيضين وهو صعب جداً لكن ابن خفاجة جمع بين ضدين بأسلوب جيد وبطريقة أنيقة ، وقد استخدم في شعره أنواع البيان والبديع من الاستعارات والتشبيهات والجناس والطباق فصعبت معانيه أحياناً على القراء .
المقدمة :
يهدف هذا البحث إلى دراسة وصف الطبيعة الأندلسية في شعر ابن خفاجة ، وهذه الطبيعة التي قد بهرت أعين الشعراء الأندلسيين بجمالها الفاتنة ، فمالوا إلى وصف مظاهرها الجميلة التي قد هباها الله الأندلس من غزارة أشجارها وكثرة أزهارها وأنداء أفيانها الوارفة وجبالها المغطاة بالثلوج ، وساعدت هذه الطبيعة الفاتنة على نضوج الشعر وحلاوته ، وإن شعر الطبيعة في الأندلس قد تعددت أغراضه ولم تعرف الزهريات والمائيات والثلجيات وما إليها إلا في القرن الخامس ، وقد بين هذا البحث العوامل التي لعبت دوراً كبيراً في جعل إبراهيم بن خفاجة أكبر شعراء الأندلس في وصف الطبيعة الأندلسية ، وكانت ولادته في جزيرة ( شقر ) سنة 450هـ ، ويحيط نهر شقر بهذه الجزيرة من جميع جهاتها فجعلها جنةً من جنان الأندلس ، وتحدث هذا البحث عن شعر ابن خفاجة وأغراضه وميزاته ، وابن خفاجة تطرق إلى جميع الأغراض الشعرية لكن اشتهر بوصف الطبيعة ومناظرها الجميلة الساحرة ، وجانب آخر نجد في جميع أغراضه الشعرية لون وصف الطبيعة حتى إنه قد مزج الطبيعة بالرثاء ، فوصفه النقاد الأندلسيون بـ ( جنان الأندلس ) ولقبوه بـ ( صنوبري الأندلس ) ، ويعد شعره من النوع الوجداني المملوء بالصور الجميلة والأخيلة الرائعة .
نبذة عن حياته :
ولد أبو إسحاق إبراهيم بن أبي الفتح بن عبد الله بن خفاجة سنة 450هـ في جزيرة ( شُقر ) من أعمال بلنسية ، وهي تقع شرقي الأندلس وسميت جزيرة لان نهر شقر يحيط بها من جميع جهاتها ، فجعلها جنة من جنان الأندلس [1] .
وكان شاعراً مفلقاً ، وأديباً موهوباً ، وكاتباً بليغاً وتطرق إلى جميع الأغراض الشعرية ، لكن غلب شعره في وصف الطبيعة ، فوصف الأشجار والأثمار والحدائق والبساتين ، ولم يتعرض لاستماحة ملوك طوائفها مع تهافتهم على أهل الأدب .
كما قال الزركلي : ” شاعر غزل من الكتاب البلغاء ، غلب على شعره وصف الرياض ومناظر الطبيعة ، وهو من أهل جزيرة ( شُقر ) من أعمال بلنسية في شرقي الأندلس ، لم يتعرض لاستماحة ملوك الطوائف مع تهافتهم على الأدب وأهله ، له ديوان شعر ” [2] .
وقد نشأ وترعرع ابن خفاجة في مهد العلم والفضيلة ، فأقبل على الدرس ، وحفظ القرآن الكريم وبعض الأحاديث النبوية ، ودرس الشعر والنثر وعلوم اللغة وتضلع في جميع العلوم الإسلامية ، لكن مال إلى دراسة الأدب والتعمق فيه .
وقد كان ابن خفاجة في شبابه صاحب لهو ومجون ، كما وصفه الفتح بن خاقان بقوله : ” وكان في شبيبته مخلوع الرسن في ميدان مجونه كثير الوسن ، بين صفا الانتهاك وحجونه لا يبالي بمن التبس ، ولا أي نارٍ اقتبس ” [3] .
وابن خفاجة يتغني في أشعاره بشرب الخمر ، والمجون ، والطبيعة الجميلة من حوله كما يتجلى هذا العنصر الكبير في أشعاره واضحاً جلياً في السطور التالية .
وبعد أن بلغ به الكبر عتياً ، ندم على ما فاته ، وابتعد عن لهو الصبا ومجونه ، وأخذ يفكر دائماً في مآله ، فأخذ يقرض الأشعار في العظمة والاعتبار ، والتوبة والابتهال والاستغفار .
وقد حدثنا الفتح بن خاقان في قلائد العقيان عن توبته ، فقال : ” إلا أنه قد نسك اليوم نسك ابن أذينة ، وغضّ عن إرسال نظره في أعقاب الهوى عينه ، وقد أثبت ما يقف عليه اللواء ، وتصرف إليه الأهواء ” [4] .
وقد نقل الفتح بن خاقان قول ابن خفاجة ما أخبره به من خبر توبته فقال : ” أخبرني أنه لما أقلع عن صبوته ، وطلع ثنية سلوته ، والكهولة قد حنكته ، وأسلكته من الإرعواء حيث سلكته ، نام فرأى أنه مستيقظ ، وجعل يفكر بما مر من شبابه ، وفيمن ذهب من أحبابه ، يبكي على أيام لهوه ، وأوان غفلته وسهوه ، ويتوجع لسالف ذلك الزمان ، ويتبع الذكر دمعاً كواهي الجمان ، ثم استيقظ وهو يقول [5] :
ألا ســــاجــــل دمــوعي يا غمام وطارحني بــشجوك يا حمام
فـــقـــد وفـــيـــتــهـــا سـتين حولا ونـــــادتــــنـــي ورائي هل أمام
وكنت ومـــن لـــبـــاناتي لبيني هناك ومـــن مراضـعي المدام
يطالعنا الــصباح ببطن حزوي فيرفعنا ويــنـــكــرنـا الظلام
وكــان به الــبشام مراح أنس فـــمــاذا بعدنا فعل الـبشام ؟
فـــيــــاء شـــرخ الشباب الإلقاء يــــــبـــــــل بـــه عــلى بـرح أوام
ويا ظل الشباب وكنت تندي على أفياء سرحتك السلام [6]
ابن خفاجة شاعر الطبيعة ومصورها ، وقد امتلأت نفسه وعينه من جمال الطبيعة وجمال الحياة ، كما قال ابن خاقان في كتابه : ” وابن خفاجة هذا هو مالك أعنّة المحاسن وناهج طريقها ، العارف بترصيعها وتنميقها ، الناظم لعقودها ، الراقم لبرودها ، المجيد لإرهافها ، العالم بجلائها وزفافها ، تصرّف في فنون الإبداع كيف شاء ، وأبلغ دلوه من الإجادة الرشاء ، فشعشع القول وروّقه ومدّ في ميدان الإعجاز طلقه ، فجاء نظامه أرق من النسيم العليل ، وآنق من الروض البليل ، يكاد يمتزج بالروح ، وترتاح له النفس كالغصن المروح ، إن وصف فناهيك من غرض انفرد بمضماره ، وتجرد بحمى ذماره ، وإن مدح فلا الأعشى للمحلق ، ولا حسان لأهل جلّق ، وإن تصرف في فنون الأوصاف ، فهو فيها كفارس خصّاف ” [7] .
وابن خفاجة لم يترك مظهراً من مظاهر الطبيعة إلا وصفه بأبيات جميلة معبرة من الأوصاف والتشبيهات ما تطير له النفس ارتياحاً وقبولاً وإعجاباً وأخبرنا الفتح بن خاقان أن ابن خفاجة كان يقرض الشعر مرتجلاً ، فقال : ” أخبرني أنه لقي عبد الجليل الشاعر بين ” لورقة ” و ” المرية ” فباتا ليلتهما ” بلورقة ” يتعاطيان أحاديث حلوة المشاق ، ويواليان أناشيد بديعة الاتساق إلى أن طلع لهم الصباح ، ومرا بمشهدين عليهما رأسان باديان ، وكأنهما بالتحذير لهما مناديان ، فقال أبو إسحاق مرتجلاً :
ألا رب رأس لا تــــــــزاور بـــــــيـــنه وبــــيـــن أخـــيـه والمزار قريب
أناف به صلد الصَّفا ، فهو منبر وقامَ على أعلاه فهو خطيب
فقال عبد الجليل مسرعاً :
يقول حــذار الاغـترار فطالما أناخ قـــتــيــل بـي ومــرّ سليب
وينشد كلانا غريبان ههنا وكل غريب للغريب نــسيب
فإن لم يزره صـــاحب خليله فقد زاره نسر هناك وذيب [8]
وقال الذهبي في كتابه ” سير أعلام النبلاء ” :
” شاعر وقته ، له ديوان مشهور ، ولم يتعرض لمدح ملوك الأندلس ، وهو القائل :
وعـشي أنـس أضجعتني نشـوة فيه تـمهّـد مضـجـعي وتـدمّث
خـلعـت عـليّ به الأراكـة ظـلّـــهـا والغـصن يصغي والحمام يحدّث
والشمس تجـنح للغروب مريضة والرعد يرقى والغــمـــامة تنفثُ [9]
نقل الصفدي قول ابن بسام في كتابه : ” كان مقيماً بشرق للأندلس ولم يتعرض لاستماحة ملوكها مع تهافتهم على أهل الأدب ، وله ديوان شعر موجود قد أحس فيه كل الإحسان ، عاش ثلاثاً وثمانين سنة توفي من جزيرة ( شُقر ) سنة533هـ ” [10] .
مكانته :
لقد كان لابن خفاجة مكانة رفيعة في نفوس الأندلسيين ، وكانوا يعجبون به وبشعره حتى ليرفعوه إلى الأفق الأعلى ، يقول الفتح بن خاقان في كتابه ويصفه وصفاً دقيقاً : ” مالك أعنة المحاسن وناهج طريقها العارف بترصيعها وتنميقها ، الناظم لعقودها ، الراقم لبرودها ، المجيد لإرهافها ، العالم بجلائها وزفافها ” [11] .
وبهذه المكانة الرفيعة المتميزة استحق ابن خفاجة لقب ” صنوبري الأندلس ” كما وصفه المقري في النفح وصفاً تامّاً : ” وكان صنوبري الأندلس أبو إسحاق ابن خفاجة ، وهو من رجال المسهب والمطرب والمغرب ، وشهرته تغني عن الإطناب فيه ، مغري بوصف الأنهار والأزهار ، وما يتعلق بها ، وأهل الأندلس يسمونه الجنان ” [12] .
شعره :
أما شعره فهو من النوع الوجداني الإبداعي المملوء بالصور والأخيلة ، كما قال أحمد حسن الزيات في وصف شعره : ” ابن خفاجة شاعر الطبيعة ومصورها ، قد امتلأت نفسه وعينه من جمال الحياة وجمال الطبيعة ، فراح يبرز هذا الجمال المعنوي في صور مختلفة من الجمال اللفظي ” [13] .
وطرق شعره إلى جميع الأغراض الشعرية : الغزل والوصف والمدح والرثاء والشكوى والعتاب والفخر ، لكن اشتهر بوصف الطبيعة ومناظرها الجميلة الساحرة ، وفي الجانب الآخر نجد في جميع أغراضه الشعرية لون وصف الطبيعة ، فإذا مدح أو رثى أو تغزل نجد الطبيعة في مدحه ورثائه وتغزله ، وأما وصفه للطبيعة فلا يختلف في ذلك أحد ، وصار أفضل شاعر بوصفه الأندلس .
كما قال المقري : ” وهل منكم من برع في أوصاف الرياض وما يتعلق بذلك فانتهى إلى راية السباق وفضح من طمع بعده في اللحاق وهو أبو إسحاق ابن خفاجة ” [14] .
هناك عوامل كثيرة لعبت دوراً هاماً في جعله أشهر وصافي الطبيعة وجعله شاعر شرقي الأندلس ، منها ما كان خارجياً ، ومنها ما كان داخلياً ، فالطبيعة الأندلسية بجمالها عامةً ، وما امتازت به جزيرة شقر خاصةً من أنهار وأزهار ورياض وبساتين ، وهذه الطبيعة قد سحرت ابن خفاجة ، واستولت على لبه وعقله بل إن هذه الصلة الوثيقة بها قد أثرت في نفسه أثراً بالغاً ، ويرى الأندلس على أنها جنة الخلد ، فيقول :
يــــا أهـــل الأنــدلــس لله دركـــــم مـــاء وظـــل وأنـــهــار وأشجار
مــــا جــــنــة الـخلد إلا في دياركم ولو تــخيرت هذا كنت أختار
لا تخشوا بعد ذا أن تدخلوا سقرا فليس تدخل بعد الجنة النار [15]
وهناك باعث آخر قد زاد من إقبال ابن خفاجة على وصف الطبيعة والتغني بها وهو حياة اللهو والمجون وشرب الخمر ومجالس اللهو والطرب ، وهذه الحياة كانت أهم عامل في تطور وصف الطبيعة لديه ، وقد وصف لنا ابن خفاجة هذه المجالس في صورة الأشعار منها ، ما يتغني بمجلس لهو ويصف ما فيه من شراب وروض وماء وحمام :
ســقــيًا لـــيوم قد أنختُ بسرحةٍ ريّا تُــــلاعـــبُــها الـــشـــمـال فـتلعب
ســـكــرى يغنّيها الحمام فتنثني طـربــــاً ويـــســقـيها الـغـمام فتشرب
يــــلــــــهــــــو فـــتـــرفـع للشبيبة راية فــــيـــه ويــسرج للـتـصـابي مـركـب
ويكرمن كأس الـمداحة أشقر يـجـري ويـطـلـع للسلافـة كوكب
والــــروض وجـــه أزهــر والظل فر عٌ أســـــود والــمـــاء ثــــغـــــر أشــنـب [16]
ولقد صوّر لنا ابن خفاجة في أشعاره مظاهر الطبيعة الأندلسية من أشجار ورياض ، وأزهار وأنهار ، وحيوانات ونجوم وشموس وأقمار ، فقد تناول في أشعاره ما وقع عليه بصره من بيئته الطبيعية الجميلة ، فأجاد وأبدع فاستحق بوصف لقب الجنان ، ويتناول الباحث بعضاً من أشعاره في وصف الطبيعة ، ومن أجود أشعاره في وصف الأزهار وهو يصف زهرة الخيري ذات المنظر الناعم الهادئ والعبير الفواح العطر الذي يفوح ليلاً فيرسم لها هذه الصورة :
وخـــيـــريــــة بــــيـــن الــنسيم وبينها حديث إذا جَنّ الظلام يطيبُ
لها نَفَسٌ يَـــســرى مـع الليل عَاطِرٌ كــــأن له ســـرا هــناك يريب
يــــدبُّ مــع الإمســاء حتى كأنما له خلفَ أستارِ الظلام حـبيبُ
ويخفى مع الإصباح حتى كأنما يـــظـــل عــليــه الــصباح رقيب [17]
ويرى ابن خفاجة شجرةً منورةً كساها نورها فتنة وبهجة فيصفها وصفاً جميلاً وقد تراكمت عليها قطرات الندي ، فيقول :
يــــا رب مائــــسة المعاطف تزدهي من كــــل غـصن خافق بوشاح
مــــهـــــتـــــزة يــــرتـــج من أعطافها ما شـــئت من كفل يموج رداح
نــــفــــضــت ذوائـبها الرياح عشية فـــــتـــــمــــلَّــــكــتـها هزّة المرتاح
حــــــطّ الـــربيع قناعها عن مفرق شمط كما ترتد كأس الراح
لــــفـــــاء حــــاك لـها الغمام ملاءة بست بها حســنا قميص صباح
نــــضــــح الــندي نوارها فكأنما مسحت معاطفــهــا يمين سماح
ولوي الخليج هناك صفحة معرض لـثـمـت سـوالـفـها ثـــغـــور أقـاح [18]
إن الشعراء الأندلسيين مزجوا الطبيعة بشعر الهموم والشكوى ، وهذا أمر جديد ، لكن مزج الطبيعة بالحزن والبكاء عند الأندلسيين أمر عجيب وهذا شيئ جديد لا يوجد له نظير في نتاج الشعر العربي .
ومن أروع الأبيات التي قالها ابن خفاجة في رثاء الوزير أبي محمد عبد الله ابن ربيعة :
في كــــل نـــــاد مـــنــك روض ثــناء وبــــكـــل خـد فيك جدول ماء
ولكل شخص هزة الغصن الندي غــبّ الـــبـــكاء ورنّــة الـمكّاء
يـــــا مــــطــلـــع الأنـــوار إن بـــمقلتي أســـفا عــليك كمنشــأ الأنواء
وكــــفى أســـى أن لا ســفـير بيننا يــــمشـــي وأن لا مــــوعــد للـقاء
فــــيـــــم الـــــتــجــمل في زمان بزّني ثوب الشبـــاب وحـــلـــيـة النبلاء
فــــــعـــــريـــت إلا مـــن قـــناع كآبة وعطلت إلا مــــن حــــلـي بكاء
فـــــإذا مـــــررت بــــمــعــهـــد لشبيبة أو رسم دار للـــصـــديــــق خـلاء
جــــــالـــــت بــــطــرفي الصبابة عبرة كالغيم رقَّ فحال دون ســــماء
ورفـــــعـت كفي بين ظرف خاشع تــــنــــدي مــآقـيـه ، وبـيـن دعاء
وبــــســـطـــت في الــغبراء خدي ذلة استنزل الرحمى من الخضراء
مـــتـــمـــلـــمــلا ألـمــاً بــمصرع سيد فـقد كان سابق حلبة النجباء
لا والـــــذي أعـــــلـــقت من قدسيته كـــفِّي بحبلى : عصمة ورجاء
وخــــــررت بـــــيـــــن يـــديه اعلم أنه ذخــــــري لـــيــومــي شدة ورخاء
لا هـــــــزنــي أمـل وقـد حـل الـردى بأبي محمد في المـحـل الـنـائي [19]
يقول مصطفى الشكعة : ” إن ابن خفاجة قد أقدم في جرأة على هذا الضرب الجديد من مزج الطبيعة بالرثاء ، فهل استطاع أن يقدم شيئاً ذا بال من خلال محاولته تلك ، الذي لا شك فيه أن الطبيعة الفينانة تمثل مولد الحياة وبهجتها وغناءها وبسمتها ، والرثاء يمثل نهاية الحياة وآلامها ، وبكاءها والحسرة عليها ، ومن ثم كان الجمع بين الطبيعة والرثاء جمعاً بين نقيضين ” [20] .
خاتمة :
يقدم الآن أهم ما توصل إليه هذا البحث من نتائج ومعطيات في النقاط التالية :
- عرف من دراسة حياة ابن خفاجة أن الحضارة الأندلسية والطبيعة الأندلسية لها مكانة مرموقة في تطور شعر الطبيعة ، وهذا العنصر قد لعب دوراً ريادياً في جعله أشهر وصاف الطبيعة .
- مما توصل إليه هذا البحث أن وصف الطبيعة في شعر ابن خفاجة يمثل صورةً صادقةً لحياة الأندلس وطبيعتها ، وإنه مرآة تنعكس فيها حياة الأندلسيين بخيرها وشرها وآلامها وآمالها وترفها وسذاجتها ، كما يتجلى هذا العنصر الكبير في أشعاره واضحاً جلياً .
- من نتائج هذا البحث أن ابن خفاجة قد بلغ إلى الذروة في إبداع الشعر والجمال الفني والروعة الفكرية التي لا يتصور بعدها مرحلة من مراحل الإبداع الشعري في وصف الطبيعة ، وإنه قد سبق الغرب بكثير في إيجاد هذا النوع من الشعر والوصول به إلى القمة .
- وصل هذا البحث إلى أن ابن خفاجة تطرق إلى جميع الأغراض الشعرية لكن اشتهر بوصف الطبيعة ومناظرها بأبيات جميلة معبرة من الأوصاف والتشبيهات الجميلة والاستعارات الرائعة المبنية على بيئة الأندلس وحضارتها ما تطير له النفس ارتياحاً وقبولاً وإعجاباً .
- مما توصل إليه هذا البحث أن ابن خفاجة قد اهتم بوصف الطبيعة ومناظرها بعاطفة شاملة سريعة الانفعال والتأثر بالطبيعة ، وهذه العاطفة كانت قوية وإنسانية لأنه تميز بسعة الأفق والثقافة الواسعة .
- من نتائج هذا البحث أن ابن خفاجة قد أقدم في جراءة على هذا النهج الجديد من مزج الطبيعة بالرثاء الذي لا شك فيه أن الطبيعة الفاتنة تمثل مولد الحياة وبهجتها وغناءها وبسمتها ، والرثاء نهاية الحياة وآلامها ، وبكاؤها والحسرة عليها ، وهذا الجمع بين نقيضين وهو صعب جداً لكن ابن خفاجة جمع بين ضدين بأسلوب جيد وبطريقة أنيقة ترتاح إليها النفوس .
* محاضر ضيف في قسم اللغة العربية وآدابها ، جامعة مولانا آزاد الوطنية الأردية .
[1] ابن خلكان ، وفيات الأعيان ، تحقيق : إحسان عباس ، ( بيروت : دار صادر 1978م ) 1 : 16 .
[2] الزركلي ، الأعلام قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين ، ( الطبعة الثانية ؛ بيروت ) ، 1 : 57 .
[3] ابن خاقان ، قلائد العقيان ، تحقيق : حسين يوسف ، ( الطبعة الأولى : مكتبة المنار 1989م ) ، 232 .
[4] ابن خاقان ، قلائد العقيان ، المرجع السابق ، 232 .
[5] ابن خاقان ، قلائد العقيان ، المرجع السابق ، 232 .
[6] ديوان ابن خفاجة ، تحقيق : عبد الله ، ( الطبعة الأولى : بيروت : دار المعرفة ، 2006م ) 281 .
[7] ابن خاقان ، قلائد العقيان ، المرجع السابق ، 230 – 231 .
[8] ابن خاقان ، قلائد العقيان ، المرجع السابق ، 231 – 232 .
[9] أحمد بن عثمان الذهبي ، سير أعلام النبلاء ، ( بيروت : مؤسسة الرسالة : الطبعة الحادية عشرة 1996م ) ، 18 : 51 .
[10] صلاح الدين الصدفي ، الوافي بالوفيات ،( الطبعة الأولى : بيروت : دار إحياء التراث العربي 2000م ) 6 : 55 .
[11] ابن خاقان ، قلائد العقيان ، المرجع السابق ، 232 .
[12] المقري ، أحمد بن محمد نفح الطيب من غصن الأندلس الطيب ، المحقق : إحسان عباس ، ( بيروت : دار صادر 1988م ) 3 : 488 .
[13] أحمد حسن الزيات ، تاريخ الأدب العربي ، ( دلهي : مطبعة فيصل ، د . ت . ) 248 .
[14] المقري ، نفح الطيب ،المرجع السابق ، 3 : 200 .
[15] ديوان ابن خفاجه ، المرجع السابق ، 133 – 134 .
[16] ديوان ابن خفاجة ، المرجع السابق ، 40 – 41 .
[17] ديوان ابن خفاجة ، المرجع السابق ، 30 .
[18] ديوان ابن خفاجة ، المرجع السابق ، 79 – 80 .
[19] ديوان ابن خفاجة ، المرجع السابق ، 18 – 19 .
[20] مصطفى الشكعة ، الأدب الأندلسي ، ( الطبعة الحادية عشرة : بيروت : دار العلم للملايين 2005 ) 355 .