رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه
ديسمبر 23, 2024صور وأوضاع :
والذي خبث لا يخرج إلا نكداً
محمد فرمان الندوي
انقضت فترة الظلم والطغيان الممتدة على أكثر من خمسين سنةً في سوريا بفرار الطاغية بشار الأسد ، الذي ظل رئيساً لسوريا منذ أربعة وعشرين عاماً ، فإنه ولى هاربا ولجأ إلى ماسكو بفرنسا ، تاركاً عرشه ودولته ، ونابذاً وراءه المناصب الرفيعة ، والقصور الملكية ، فلم ينفعه ما يتمتع به من وسائل وإمكانيات ، وما ينعم به من ملذات وسلطات ، إنه ورث دولته عن أبيه حافظ الأسد عام 2000م ، وكان دكتاتورياً وجائراً مستبداً ، ومتربعاً على حكومة سوريا حوالي ثلاثين سنةً ، وقد خُيل إلى مواطني سوريا ، وسكان العالم الإسلامي بأسره أن ابنه يختلف عن أبيه ، ولا يقلِّده في جميع سياساته الماكرة نظراً إلى المصالح الدولية ، لكنه فاق الرقم القياسي في العنجهية ، والظلم والاضطهاد ، وترك أباه في مؤخر الركب ، وكفاه دليلاً على هذا ما يأتي في الصحف من ظروف قاسية للسجون والمعتقلات السورية أمثال صيديانا ، وغيره من السجون ، وصدق الله العظيم : ( وَٱلَّذِى خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً ) [ الأعراف : 58 ] .
عاشت أرض الشام تاريخاً مشرقاً في الماضي ، وظلت أرضاً مباركةً ، حيث وضع الله فيها بركات دنيويةً ودينيةً ، فتوجد فيها حدائق ذات بهجة ، وبساتين غناء ، وزروع وحقول ، وجنات تحوي ثماراً طازجةً ويانعةً ، ونظراً إلى أرضها الخصبة قال بعض الشعراء : إنها جنة الدنيا ، ففيها روح وريحان وجنات ، أما البركات الدينية فقد أرسل الله تعالى عدداً من الأنبياء والرسل إلى هذه الأرض ، وكما يقال : فيها عشرة آلاف قبر من أنبياء الله تعالى ، وقد سميت هذه الأرض بالأرض المقدسة ، وأرض المحشر والمنشر ، وقد بسط الملائكة أجنحتها على الشام ، وتوجد هنا الطائفة المنصورة التي لا يضرها من خذلها ، وقد رفع الله شأن هذه المنطقة من رحلة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى القدس ، وذكرها في القرآن الكريم بشيئ من التأكيد ، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم متجهاً إلى المسجد الأقصى نحو ستة عشر شهراً ، وقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم بأن نزول عيسى عليه السلام يكون في أرض الشام ، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم للشام مراراً وتكراراً بقوله : ” اللهم بارك في شامنا ” ، وقوله : عليكم بالشام ” ، هذه هي الجوانب المشرقة لأرض الشام التي نطقت بها المصادر الصحيحة الثابثة من القرآن والسنة .
سوريا بين الماضي والحاضر :
كانت هناك قبيلتان في قديم الزمان قبل ألفين وخمس مائة سنة من ميلاد المسيح تُعرفان بالكنعانيين والغسانيين ، وهما نزحتا من جزيرة العرب ، فالكنعانيون سكنوا أرض فلسطين وما جاورها من المناطق ، وأما الغساسنة فإنهم نزلوا أرض سوريا ، فسيطر عليها إلى مدة ، الآشوريون والشعوب الأخرى ، ثم جاء عصر الكلدانيين ، وكان فيهم الملك بخت نصر الذي حكم هذه المنطقة ، ثم استولى الملك الفارسي سائرس على أرض الشام ، ورفع هنا رايته الفارسية ، ثم جاء عصر الفاتح اليوناني إسكندر أعظم ، فهزم الفرس ، وأسس فيها حكومته ، وبعد زوال هذه السيطرة استولت عليها الإمبراطورية البيزنطينية وظلت قائمةً إلى العهد النبوي .
انتشر الإسلام ، وأضاءت أشعته وإشراقاته جزيرة العرب ، فاستنارت البقاع المجاورة لها ، وقد فتحت الشام زمن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه التي سارت جملته الذهبية : ” سلام على سوريا ” ، وكانت دمشق في العهد الأموي عاصمة الخلافة المترامية الأطراف ، فكانت هذه الفترة فترةً زاهرةً للشام ، ثم انتقلت في العهد العباسي عاصمة الخلافة إلى بغداد ، لكن لم تفقد دمشق ومدنها المتمدنة مكانتها ، وظلت مركز الثقافة الإسلامية ، ولما انهارت الخلافة العباسية أخذ زمام هذه المناطق ، السلاجقة ، ثم استولى عليها الصليبيون وظلت القدس وما والاها تحت سيطرتهم ، فأنقذ هذه الأرض من براثنهم السلطان عماد الدين الزنكي والسلطان صلاح الدين الأيوبي ، وكان السلطان صلاح الدين الأيوبي من الأكراد ، فلعب دوراً ريادياً في تحرير هذه الأرض حتى ضرب المثل باسمه ، ثم انتقلت الحكومة إلى المماليك ، وظلت إلى مائتي سنة ، ثم أغار السلطان سليم العثماني على آخر سلاطين المماليك قانصوه الغوري عام 1517م ، فانضمت الشام إلى الدولة العثمانية حوالي أربع مائة سنة ، وبعد الحرب العالمية الأولى حينما انفصمت عُرى الدولة العثمانية دخلت قوات بريطانيا وفرنسا في الشام ، فوزعت الشام في أربع دويلات : (1) لبنان على ساحل البحر الأبيض ، وكان يقودها الزعماء المسيحيون (2) فلسطين ، وهي كانت تحت الانتداب البريطاني (3) سوريا ، وهي كانت تحت سيطرة فرنسا (4) الأردن .
تحررت سوريا عام 1944م من استيلاء فرنسا ، وكان رئيس جمهوريتها شكري القوتلي ، لكن العقيد حسني زعيم قلَّب نظام حكومته ، وهكذا جرت تقلبات سياسية في سوريا ، حتى سيطر عليها حزب البعث الذي كان قد أنشأه المسيحي ميشيل عفلق ، وحكمها خلال هذه المدة عدد من زعماء البعث ، لكن الجنرال حافظ الأسد قد حكم سوريا منذ عام 1970م إلى 2000م ، وظل مسيطراً على حكومة سوريا ، وكان ينتمي إلى الفرقة النصيرية من الشيعة ، ثم ورثه ابنه بشار الأسد ، فإنه حكم على منوال والده ، يخنق أصوات السنة الإسلاميين الذين توجد نسبتهم 80/ في المائة ، ويشجع العلويين النصيريين الذين لا يزيدون من 10/ في المائة ، بإدخالهم في القوات الأمنية والعساكر ، فسنحت لهؤلاء القوات المسلحة فرصة ذهبية للاعتداء على السنة ، فقد زُجوا في السجون والمعتقلات ، وضربوا وأوذوا إيذاءً شديداً ، وقد أعدم آلاف مؤلفة من الناس ، وخمسة ملايين هاجروا إلى تركيا ، وهم يعيشون حياة التشريد والفقر ، فهذه الاعتداءات والمظالم كان ينفذها حافظ الأسد وابنه بشار الأسد ، وقد ساندت روسيا وبعض الدول المجاورة لسوريا وآزرتها في هذه العمليات القعمية ، وإلا ذهبت ريح هذه الدكتاتورية الظالمة التي امتدت على أكثر من خمسين سنةً .
ردع العدوان في سوريا :
ظل أبطال سوريا يقاومون هذا الظلم والقمع والغطرسة ، بحماستهم الدينية وروحهم الإسلامية ، لكن الفتح والانتصار لم يحالفهم خلال هذه المدة المديدة ، فلم تضعف طموحاتهم ، ولم تلن عزائمهم ، وقاموا مرابطين على إنقاذ دولتهم من مستنقع الظلم والعدوان ، وتكونت لهم جبهات جهادية ، ومنظمات إسلامية ، ثم انضمت هذه الوحدات إلى هيئة تحرير الشام ، وأسندت رئاستها إلى الفتى المجاهد محمد أحمد الشرع ، فانتشر هؤلاء الأبطال كالجراد المنتشر ، وبدأوا يفتحون مدينةً تلو مدينة ، حتى وصلوا إلى دمشق عاصمة سوريا ، وبدأت هذه العمليات العسكرية التي أطلقتها فصائل المعارضة السورية المسلحة في شمال غربي سوريا ، منذ 27/ نوفمبر عام 2024م ، وكانت هناك اشتباكات ومناوشات بين الجيش السوري والمليشيات الإيرانية ، وفصائل المعارضة في حلب ، وإدلب ثم حماة ، ولم يمر أحد عشر يوماً حتى تم الفتح والغلبة في 8/ ديسمبر 2024م ، وقد ذكر بعض الصحفيين عن خلفية هذا الردع أن أطفالاً صغاراً كتبوا على جدار : بشار يسقط ، فما إن قرأ هذه العبارة الجيش السوري حتى قبض على هؤلاء الأطفال ، وقلع أظفارهم ، وقال : ” يسقط ربك ولا يسقط بشار ” ، ثم لما ذهب المسئولون عنهم إلى محطة الشرطة : قال الجيش السوري : هؤلاء أولاد أنجاس ، أعطوا أزواجكم ، نحن نولِّد أولاداً حلالاً ، وجهروا بلا إله إلا بشار ، وما إن سمعت المعارضة المسلحة هذا الهراء والهذيان ، والإساءة النكراء لحرمات المسلمين ، حتى قامت وقعدت ، وعيل صبرها ، وبدؤوا يطردون الجيش السوري من هذه المناطق حتى قدَّر الله تعالى فتح سوريا بكاملها .
احتفل سكان سوريا بيوم الجمعة ( 10/6/1446هـ ) كيوم الفتح ، وخرجوا إلى الجوامع والمساجد ، والشوارع العامة ، وهتفوا بنعرات وهتافات ضد الطاغية بن الطاغية ، وتنفسوا الصعداء بعد فرار بشار الأسد إلى ماسكو ، وانتخب الدكتور محمد البشير رئيساً لحكومة تصريف الأعمال السورية ، فإنه ألقى خطبة الجمعة في الجامع الأموي ، وشهد الجامع تجمعاً كثيراً وحشداً عظيماً بعد مدة طويلة في صلاة الجمعة ، فكان لها صدى كبير على الساحة العالمية ، كما تجري مقابلات صحفية معه ومع القائد العام للعمليات العسكرية أحمد الشرع ، فإنه ركز بادئ ذي بدء على استقرار أوضاع سوريا دون التعرض للهجمات الأخرى ، وإعادة جو الأمن والأمان في جميع مناطق سوريا ، وتجري التطورات شيئاً فشيئاً في سوريا ، فالحاجة تتطلب إلى اتخاذ استراتيجية إيجابية نحو الأوضاع والأخطار العالمية التي تحدق بسوريا من كل جهة ، مع الالتجاء إلى الله تعالى ، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمراً .